ألوسوس بيرتران Aloysius Bertrand ( 1807 - 1841 ).. : شيطان الليل (فانتازيات ، على طريقه رامبرانت وكالو ) ترجمة : محمد بنطلحة [مقدمة أولى] يا صديقي ! أما زلت تذكر ونحن في طريقنا إلى كولون (Cologne)، ذات يوم أحد، في ديجون ( Dijon) ، أي في قلب منطقة بورغون (Bourgogne)، كيف كنا نمشي ونحن مأخوذون بالنواقيس ، وبالبوابات، وبالأبراج. وبالدور العتيقة ، تلك التي في الباحات الخلفية؟
سانت - بوف «التعازي» برج قوطي وسهم قوطي كذلك ، في سماء صافية للغاية. هنالك، ديجون ( Dijon). دواليها المتكئة ، في مسرة على عروشها ليس لها البتة نظير. نواقيسها ، قديما كانت تعد بالعشرات. هنالك، حيث أكثر من نحت وأكثر من رسم لأكثر من مكيال. هنالك ، حيث أكثر من باب فخم ينفتح كمروحة. ديجون ( Dijon)، ها هو شعارك القديم: Moult te tarde وها هو عودي الأفطس يشدو لصلصة الخردل وللجامور، جامورك. أحب ديجون (Dijon) مثلما يحب الطفل مربيته التي رشف حليبها، ومثلما يحب الشاعر الفتاة التي منحها قلبه. الطفولة والشعر ! هذه عابرة بينما الآخر خادع. الطفولة فراشة تستعجل حرق أجنحتها البيضاء بلظى الشباب، أما الشعر فما أشبهه بشجرة اللوز: زهور فواحة ولكن ثمار مرة. ذات يوم كنت جالسا لوحدي في حديقة الأركبوز [L?Arquebuse = بندقية قديمة الطراز] هكذا على اسم السلاح الذي غالبا ما كان، في ما مضى ، يشير إلى حذق هؤلاء الرماة الذين كانوا يتمرنون على التصويب، وذلك في اتجاه ببغاوات خشبية. ثمة وأنا جالس، في سكون، فوق أحد المقاعد كم كنت شبيها بذلك التمثال الذي ينتصب في حصن بازير (Bazire) . أقصد هذه التحفة التي أنجزها النحات سيفالي (Sevallé) والرسام غييو (Guillot) والتي تمثل قسا يقرأ وهو جالس . لا شيء كان ينقص هندامه . من بعيد كما لو كان شخصا من لحم ودم . ومن قريب : جبص ليس غير. سعال أحد المتنزهين شتت ثول أحلامي. لقد كان شيطانا بئيسا ، لا يوحي مظهره الخارجي سوى بالبؤس والألم. شخص مثل هذا سبق أن لفت انتباهي ، في الحديقة ذاتها ب : * سترته الرثة والتي تصل أزرارها إلى ذقنه، * قبعته المائلة في كل اتجاه والتي ما حدث قط أن نفضتها أي فرشاة، * شعره الذي في طول صفصافة والممشوط كعليق. * يديه النحيلتين و اللتين تبدوان وكأنهما كمشتان من أشلاء القتلى . * هيئة ماكرة، مراوغة، سقيمة، وتتخللها لحية أشبه ما تكون بلحية المسيح. تخميناتي هذه جعلتني أشفق عليه، وأسلكه في زمرة هؤلاء الفنانين الذين لا يجيدون العزف على الكمنجة ، وفي عدادهم رسامو بورتريهات يدفعهم جوع مدقع وعطش لا يرتوي إلى أن يضربوا في الآفاق وهم يقتفون خطوات اليهودي - التائه . كنا حينها اثنين فوق المقعد. جاري كان يتصفح كتابا سقطت ، دون أن يلحظ شيئا، زهرة يابسة من بين ثناياه . أنا التقطت الزهرة، وأعدتها إليه. أما هو ، أما الشخص الغريب فقد أخذها وهو يحييني إلى شفتيه الذابلتين ، ثم ما لبث أن وضعها بين ثنايا الكتاب الغامض . غامرت وقلت له : هذه الزهرة ، بدون شك ، ترمز إلى حب ما ، حب جميل ولكن مرَّ وانقضى . واأسفاه! كلنا مررنا في يوم ما بتجربة من هذا القبيل، وهذا بالذات هو ما جعل أملنا يخيب في المستقبل. - هل أنت شاعر؟ هكذا أجابني وهو يبتسم. إذن انعقد خيط الكلام بيننا . والآن حول ماذا سوف يدور؟ - شاعر ، أجل إذا كان البحث عن الفن هو ما يعنيه أن يكون المرء شاعرا. - أنت إذن بحثث عن الفن! ولكن هل عثرت عليه؟ - المهم ألا يكون الفن سرابا. - سراب ! أنا أيضا بحثت عنه. هذا ما قاله لي وهو يرفع صوته في حماسة النبهاء ونشوة المنتصرين. التمست منه أن يدلني عل النظاراتي الذي يدين له باكتشافه ذاك، وذلك بالنظر إلى أن الفن صعب المنال. إنه أشبه ما يكون - بالنسبة لي - بإبرة في كومة قش. قال لي : كنت قد انتهيت إلى البحث في الفن مثلما كان يبحث معتنقو نحلة روزكروا ( Rose - croix) ، في القرون الوسطى، عن الحجر الفلسفي. الفن هو هذا الحجر الفلسفي الذي يعود إلى القرن XIV . بادئ ذي بدء كان ثمة سؤال بعينه هو الذي حفز نزعتي المدرسية هذه. لقد تساءلت مع نفسي: ما هو الفن؟ الفن هو علم الشاعر. تعريف مثل هذا لا يضاهيه في وضوحه سوى وضوح اللؤلؤة القابعة في أكثر المياه صفاء. ولكن، ما هي عناصر الفن؟ سؤال آخر ترددت عدة شهور قبل أن أجيب عنه. ذات مساء، قلبت على ضوء مصباح شحيح رأسا على عقب رفوف متجر كتب قديمة ، وإذا بي أنفض الغبار عن كتيب محبّر بلغة باروكية ، غير مقروءة . عنوانه موشى بصورة ثعبان مجنح . وفوق العنوان، على شريط صغير هاتان الكلمتان: Gott - Liebe. اقتنيت بقليل من النقود هذا الكتيب الثمين. [ وانصرفت]. صعدت إلى غرفتي. وثمة - فجأة، وأنا أتصفح بفضول محتويات الكتاب الغامض، أمام النافذة المغمورة بضوء القمر- أحسست وكأن أصبع الإله يداعب ملمس الأرغن الكوني. وإذا بالفراشات المزغننة تنفلت من بين أكمام الزهور التي تنتشي شفاهها تحت قبلات الليل . ذرعت النافذة . ونظرت إلى الأسفل ، ويا للمفاجأة! هل أنا أحلم؟ رصيف مقهى لم يخطر قط ببالي وقد انبعثت من أشجار البرتقال التي على امتداده نسمات لذيذة . فتاة في لباس أبيض تعزف على آلة الهارب. وشيخ طاعن في السن، يصلي وهو جاثم على ركبتيه. ثم سقط الكتاب من يدي. نزلت عند أصحاب المقهى . الشيخ الطاعن في السن كان كاهنا ينتمي إلى التيار الديني الذي مسه الإصلاح والذي استبدل بوطنه البارد : تورينغ (Thuring ) المنفى الدافئ لبلادنا : لابورغون (Bourgogne). العازفة، ابنته الوحيدة: شقراء، ذات جمال شفيف ، جمال السابعة عشر ربيعا وقد وخطه ذبول أليم، بينما الكتاب الذي نزلت لاسترجاعه كان كتاب صلوات ألمانيا موجها للاستعمال في الكنائس ذات الطقوس اللوثرية، وفي صفوف حملة السلاح التابعين لأحد أمراء أنهالت كوتن (Anhalt-Coëthan). أجل، ياسيدي ! دعنا من أي رماد لم تنطفئ جذوته بعد. إن إليزابيت (Elisabeth) ليست سوى بياتريس (Béatrice ) وقد ارتدت فستانها اللازوردي . إنها ميتة، ياسيدي ؟ أجل ميتة ؟ ها هو ذا كتاب الصلوات الذي كانت تستودعه ابتهالاتها الخجول. وهاهي ذي الوردة التي فاحت بين أكمامها روحها البريئة . يا للزهرة اليابسة التي تشبهها ! ياللكتاب المغلق الذي يشبه لوحها المحفوظ . وياللذخائر المباركة التي سوف تتذكرها أبد الدهر والدموع تنهمر من عينيها . آنذاك ، حين يغلق إسرافيل شاهدة قبري سوف أتخطى جميع العوالم إلى أن أصل إلى العذراء المحبوبة. لا لشيء ، فقط كي أجلس اخيرا بالقرب منها، تحت نظرات الرب. - سألته : والفن؟ - أجابني: إن ما هو إحساس في الفن كان بالنسبة لي مغامرة أليمة. لقد أحببت. ولقد صليت. Gott - Liebe ؟ ثم إن ما هو فكرة في الفن لطالما سفه ظنوني . لقد ظننت أنني سوف أعثر على عنصر إضافي في الطبيعة، وهكذا عكفت على دراسة الطبيعة. كنت أخرج في الصباح من بيتي ولا أعود إليه إلا في المساء. تارات، متكئا على درابزين حصن خرب، كنت خلال ساعات عديدة أحب أن أتنفس الرائحة البرية والنفاذة لشجرة المنثور الشتوي وقد زركشت بأغصانها الذهبية فستان شجرة اللبلاب في قلعة لويس XI الإقطاعية والآيلة للسقوط . كنت أحب أن أرى : * تلاقح مشهد هادئ لهبة ريح، وخيط شمس، وزخة مطر. * عصفورَ التين والطيورَ الصغيرة التي على الأسلاك الشائكة وهي تتلاعب في المنبت المترامي الأطراف بالظلال والأضواء. * طيور السمان وهي تنحدر من رؤوس الجبال. * قطافَ الدالية التي تحول بعلوها وكثافتها دون رؤية أيل الخرافة . * الغربانَ وهي تنقض من جميع أنحاء السماء، في أسراب وانية ، على الهيكل العظمي لحصان تخلى عنه السلاخ في وهدة مخضوضرة. كنت أحب كذلك أن أصيخ السمع إلى غاسلات الثياب وهن يضعن مدقاتهن المرحة على أطراف مسيل سوزون (Suzon) ، أيضا إلى الطفل الذي كان يؤدي لحنا حزينا وهو يدير تحت السور عجلة صانع الحبال. تارات أخرى كنت أشق أمام أحلامي طريقا كله رغوة ورذاذ ، صمت وطمأنينة. هنالك، بعيدا عن المدينة. كم مرة جردت أشجار تلك الأدغال التي يتردد عليها كل من هب ودب ، أدغال نافورة جوفانس (Jouvence) وكنيسة نوتردام ديطان (Notre - Dame d?Etang ) من فواكهها الحمراء والحامضة . نافورة أرواح وجنيات هذه . وكنيسة شيطان تلك. كم مرة التقطت الحلزون المتحجر والمرجان المجوف من فوق شطوط سان جوزيف (Saint Joseph) العالية والصخرية والمسننة بفعل الرعد. كم مرة اصطدت الإربيان من معابر ماء تي (Tilles) الصاخبة . ثمة ، بين نباتات البقول التي يأوي إليها السمندل والنيلوفرات اللواتي تتثاءب زهراتهن من فرط الكسل! كم مرة أمعنت النظر في ثعابين الماء وهي تعوم عند شواطئ موحلة للغاية. وليس يسمع في ارجائها سوى الهدير الرتيب للفلك، والحشرجات الجنائزية لطائر الغطاس؟ كم مرة أنرت ، على ضوء شمعة ، مغارات أنيير (Asniers) السفلى ، هنالك حيث تنزل ببطء قطرة الماء السرمدية من ساعة الأبد المعلقة في سقف الرواسب الكلسية؟ كم مرة صحت [ في بوق] من فوق صخور مورت شيفر (Chèvre ?Morte) الناتئة، على [جياد] العربة التي تنهب بمشقة طريقا دون عرشي، عرش الضباب بثلاثمائة قدم؟ والليالي ذاتها، ليالي الصيف: العليلة والشفيفة ، كم ذرعتها وأنا كالشمعة حول نار مشتعلة في واد معشب وخال من الناس، إلى أن تزعزع الضربات الأولى لفأس الحطاب أشجار السنديان ! آه، ياسيدي ! كم للعزلة من إغراءات بالنسبة للشاعر ! أنا، كم كنت سأسعد بالعيش في الغابات ، وبأن أكون أقل صخبا من العصفور الذي يبل ظمأه رأسا من النبع ، ومن النملة التي تقتات على نبات الزعرور، ومن البلوطة التي يخدش سقوطها سكون الخميلة! سألته : والفن؟ - أجابني: صبرا علي. الفن كان ما يزال يكتنفه الغموض. [ ولهذا ] درست مشاهد الطبيعة، ودرست مآثر الرجال. إن ديجون لم تصرف دائما أوقات فراغها في استثمار المواهب الموسيقية لأبنائها. لقد ارتدت زي الحرب. اعتمرت الخوذة. رفعت الحربة. امتشقت السيف. عبأت البندقية. نصبت المدافع فوق أسوارها. تدافعت في ساحات الوغى: على قرع الطبول وخفق الألوية. ومثل شاعر جوال، ذي لحية رمادية ، وصوته يعلو على صوت الربابة، ديجون، هي الأخرى قد لا تعدم قصص حرب عجيبة ، أو بالأحرى : إن معاقلها المتهاوية والتي تستقبل ، فوق أرض زاخرة بالأنقاض ، الجذور المورقة لأشجار القندول الهندي ، وإن قصرها المتداعي والذي تهتز قنطرته تحت الخطوة المتعبة لفرس الدركي وهو عائد إلى ثكنته ، [ إن كل هذا ] يدل على أن ديجون مدينتان : المدينة الظاهرة والمدينة الغابرة. وشيكا أزيح الغبار عن ديجون القرنين 14 و 15 ، تلك التي كان يحيط بها طوق من 18 برجا و 8 أبواب [ رئيسية] و 4 أبواب خ [ل] فية أو [لأقل] بويبات . أعني ديجون فيليب لوهاردي ( Philippe le Hardi ) وجون سون بور (Jean Sans Peur) وفيليب لوبون (Philippe le Bon) وشارل لوتيميرير (Charles le Temeraire ). [ تلك هي ديجون التي أعني] : * بمنازلها التي من قش وطين، ذات السطوح التي كطاقية مجنون، وذات الواجهات المرصعة بصلبان سان أندري (Saint - André). * بفنادقها الحصينة، ذات الكوى الضيقة ، والشبابيك المزدوجة ، والباحات المسيجة بأسنة طويلة. * بكنائسها، ومصلاها، وأديرتها، وصوامعها التي كانت تحفل بالأجراس والرماح، ناشرة على هيئة بيارق واجهات زجاجها الملون والذي من ذهب ولازورد، عاكسة ما يقبع خلف تلك الواجهات من ذخائر عجيبة، وجاثمة عند المدافن المعتمة لشهدائها أو عند المذابح المزهرة لحدائقها. * بمسيلها ، مسيل سوزون (Suzon) الذي كان مجراه، وهو ينوء ببضعة جسور خشبية صغيرة ، وبضعة مطاحن حبوب ، يفصل بين أرضين : أرض القس سانت بنين (Saint Begnine) وأرض القس سانت إتيان (Saint -Etienne ) وكأنه كاتب ضبط حينما يلجأ في البرلمان إلى مطرقته وصوته بقصد إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي بين مترافعين وهما في ذروة الغضب. * وأخيرا بضواحيها المكتظة ، ومن بينها ضاحية سان- نيكولا (Saint - Nicolas ) ، تلك التي كانت تنشر أزقتها الإثني عشر تحت الشمس وكأنها تماما خنزيرة سمينة وهي مضطجعة على أثدائها الأثني عشر. ها آنذا قد بعثت الحيوية في جثة . وها هي ذي هذه الجثة وقد وقفت على قدميها. هي ذي ديجون تقف ، تقف وتمشي. ثم تشرع في العدو . ثلاثون ناقوسا صغيرا تصيح في سماء زرقاء ، سماء ما وراء البحار، وكأنها تمشط شعر ألبيردورر (Albert Dürer) الطاعن في السن . حشد من الناس يسرع الخطى : * نحو فنادق زقاق بوشيبو (Bouchepot)، * نحو حمامات باب الكهنة، * نحو الميدان الذي تمارس فيه لعبة المطرقة ، في زقاق سان غيوم (Saint-Guillaume )، * نحو مكاتب الصرف في زقاق نوتردام ( Notre - Dame)، * نحو متاجر بيع الأسلحة في زقاق لي فورج (Les Forges)، * نحو النافورة التي في ساحة كوردوليي(Cordoliers)، * نحو الفرن القديم في زقاق لابيز (Bèze)، * نحو أسواق الخضر في ساحة شامبو (Champeaux)، * نحو المشنقة التي في ساحة موريمون (Morimont)، [ حشد قوامه: ] بورجوازيون ، نبلاء ، بشعون ، بذيئون ، رهبان، قسيسون، إكليروس، تجار، خدم ، يهود ، لومبارديون ، حجيج، شعراء جوالون ، موظفون في البرلمان ، موظفون في غرفة الحسابات ، موظفو ضرائب ، مصرفيون ، جباة [ في خدمة إقطاعيين]، موظفون في قصر الدوق؛ كل هؤلاء يصيحون، يصفرون، يغنون ، يتثاءبون، يصلون ، ويتأففون: * فوق عربات ( يجرها ثيران)، * فوق محفات، * فوق صهوات جياد، * فوق صهوات بغال، * فوق هوادج سان فرانسوا (Saint - François )، بعد هذا كله ، أليست هذه هي القيامة بعينها ؟ هي ذي الراية التي من حرير ترفرف في الريح، نصفها أخضر ونصفها أصفر، وموشاة بشعارات [نبالة ترمز إلى] المدينة: [بضعة] وجوه فوق أغصان من ذهب أخضر. ولكن أي نزهة صيد هذه ؟ إن الدوق هو الذي سوف يذهب إلى الصيد. وقد سبقته الدوقة إلى قصر روفر(Rouvers). حاشية رائعة وموكب حاشد . سيادة الدوق يلكز فرسه الأشهب الذي يقشعر جلده في الهواء المنعش واللاسع للصباح. وراءه أثرياء شالون (Chalon) وهم يتبخترون [ فوق أفراسهم]، نبلاء فيين (Vienne)، فرسان فرجي (Vergy)، مختالو نوفشاطل (Neufchatel)، بارونات بوفريمون (Beaufremont) الطيبون، ثم هذان الشخصان اللذان يتنزهان [ على فرسيهما] في موخرة الموكب: أصغرهما، هذا الذي يميزه لباسه الذي يتناسب مع جسمه تماما والذي هو من قطيفة في لون دم الثيران ، بح صوته من فرط الضحك. أما أكبرهما ، ذاك الذي يتلفع في سترة سوداء تحتها كتاب صلوات ضخم ، فإنه يطرق برأسه على نحو ملتبس ، في اتجاه الأرض. هذا ملك لصوص الحرب . بينما ذاك كاهن الدوق . [ ال] أحمق يطرح على الحكيم أسئلة ليس في وسعه أن يجيب عنها. وبينما يصيح رجل من عامة الشعب: « أيها المسيح!»، كم جواد [ حفلات] صهل ! كم كلب صيد نبح!وكم بوق صدح! هؤلاء واللجام فوق أعناق أفراسهم، التيٍ ترفع قوائمها [ من جهة واحدة] يتحدثون ، في حنو، عن السيدة الحكيمة جوديت (Judith) والسيد المقدام ماكابي (Macabé). في هذه الأثناء قرع النذير طبوله من أعلى البرج حيث مسكن الدوق. إنه يعلن أن الصيادين قد أطلقوا في السهل صقورهم. الوقت ممطر. رذاذ رمادي يحجب عنه، في البعيد ، دير سيطو(Citeau) الذي تستحم أشجاره في المستنقعات . غير أن بصيصا من الشمس يجعله يتبين ، عن قرب أكثر وبوضوح أكثر: * قصر طالون ( Talent) ذا السطيحات التي تخدش أديم السحاب، * قصر السيد دو فينطو (de ventou) والسيد دو فونطين (de Fontaine) اللذين تشق جعجعات طواحينهما سلسلة جبال خضراء، * ديرسان مور (Saint - Mour ) الذي ترتفع أعشاشه وسط بضعة أسراب من الحمام ، * مستشفى الجذام ، مستشفى سانت أبولينير (Saint Apollinaire) الذي له باب واحد ليس غير ، وليس له أي نافذة، * كنيسة سان جاك وتريمولوا (Saint ? Jacque de Trimolois ) التي تبدو وكأنها منحوتة من قواقع البحر لأحد زوار المعبد، * وتحت أسوار ديجون، وراء أملاك ديرسان بينين (Begnine ?Saint ) رواق الكنيسة ، أبيض كأزياء تلامذة سان برونو (Saint - Bruno ). يالكنيسة ديجون! ويالدير سان دوني (Saint-Denis)، دير دوقات بورغون(Bourgogn )! ويا للعجب ! لماذا ينبغي على الأبناء أن يغاروا [ بالضرورة] من مآثر آبائهم ؟ اذهبوا إلى حيث كانت تقوم الكنيسة ، ثمة ، تحت أعشاب الأحجار التي كانت مفاتيح قبب، وخزائن مذابح ، وشواهد قبور، وبلاطات مصليات . ثمة سوف ترتطم خطواتكم بأحجار فاحت حولها البخور، وذاب الشمع، وغمغم الأرغن، وجثا الدوقات : الأحياء منهم على ركبهم ، والأموات على جباههم . ترى أين ذهب كل هذا ؟ أين العظمة ؟ وأين المجد؟ هو ذا شجر الكرنيب ما زال يغرس في رماد فيليب لوبون (Philippe le Bon) ، بينما الكنيسة أثر بعد عين . لا ، لقد أخطأت. باب الكنيسة وبرج الناقوس [الصغير] ما يزالان قائمين. البرج [ الصغير] فارع ورشيق . على هيئة زهرة قرنفل فوق الأذن ويشبه فتى وهو يأخذ بزمام سلوقي. الباب المطروق أشبه ما يكون أيضا بقرط يتدلى من فوق عنق كاتدرائية . وإلى جانب هذا ، هنالك ، في بهو الدير، قاعدة تمثال ينقصها صليب، ومن حولها ستة تمثايل لأنبياء رائعين من فرط الحزن . ترى على ماذا هم حزينون ؟ إنهم حزينون على الصليب الذي أعادته الملائكة إلى السماء. مصير الكنيسة كان هو المصير ذاته لأغلب المآثر التي كانت تضفي على ديجون منظرا جميلا، وذلك خلال الفترة التي تم فيها إلحاق الدوقية بمنطقة النفوذ الملكية . هذه المدينة ليست سوى ظل نفسها . لويس XI خلع عنها عروشها . والثورة خلعت عنها نواقيسها . لم يبق سوى ثلاث كنائس من أصل سبع ، ومعبد واحد، وديرين ، واثنتي عشرة صومعة. ثلاثة من أبوابها أغلقت . بويباتها السرية هدمت . ضواحيها أبيدت . مسيلها، مسيل سوزون تدفق في البالوعات . ساكنتها عبثت بكل ما هو مورق فيها. نبالتها سقطت إلى الحضيض . وها نحن للأسف نرى جيدا كيف أن الدوق شارل (Le duc Charles ) وفرسانه الذين ذهبوا قبل حوالي أربعة قرون إلى الحرب لم يعودوا . كنت أتجول بين هذه الخرائب مثل تاجر أثرياء وهو يبحث عن أوسمة قديمة في مجاري المعسكرات الرومانية ، بعد رعدة مطرية شديدة . غير أن ديجون الغابرة ما زالت تحتفظ ببعض ما كان. إنها شبيهة في هذا بهؤلاء الأثرياء الغاليين (gaulois) الذين كانوا كلما وضعوا قطعة من الذهب تحت اللسان وضعوا أخرى تحت اليد اليمنى. - سألته : والفن ؟ - أجابني: ذات يوم كنت منشغلا أمام كنيسة نوتردام بمراقبة جاكمار وزوجته وابنه وهم يقرعون الناقوس إيذانا بحلول [ قداس] الزوال . كل شيء ، على الأرجح : الدقة ، التأني ، ورباطة الجأش يشهد على أصله الفلاماني . بيد أنه لا أحد كان يعرف أنه كان يعفي بورجوازيي كورتراي(Cortray ) الطيبين من [صلوات] الساعات، وذلك في الفترة التي نهبت فيها المدينة سنة 1983 ؛ علما أن كاركانطو (Garguantua) كان قد سطا على نواقيس باريس . والشيء نفسه فعله فيليب لوهاردي بصدد ساعة كورتراي . كل أسقف وما يقدر عليه. فجأة سمعت ضحكة عالية. هنالك، في الأعلى. وإذا بي أرمق في إحدى زوايا المعبد أحد هذه الوجوه المرعبة التي ربطها نحاتو القرون الوسطى من أكتافها إلى مزاريب الكاتدرائية. وجه بملامح قاسية لأحد المعذبين وهو تحت وطأة الألم الشديد يمد لسانه. يعض على نواجذه بقوة . ويلوي يديه . إنه هو الذي كان يضحك.