كان الحديث، عبر أرجاء يثرب، يدور هذه الأيام عن قرب موعد معركة «بدر الثانية»، ومدى استعداد المسلمين لها. لقد سبق لأبي سفيان أنْ ردّد، وهو يغادر المدينة، بعد انتصاره في معركة أحد، جملته الشهيرة :» يا محمد، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت «. إنه تحدّ كبير أمام محمد وأبي سفيان على حدّ سواء. دخلتْ حفصة وسودة عند عائشة وقالتا لها بصوت مضطرب: - هلْ سمعت الأخبار التي تتردد في المدينة؟ إن أبا سفيان بصدد تنفيذ وعده وتهديده. وهو يعدّ العدّة من أجل سحق ما تبقى من المسلمين. ردّتْ عائشة قائلة: - إنها مجرّد شائعات، ودخان بدون نار. غيْر أنّ سودة قالت بحزْم، بعد أن استراحتْ: - كلاّ، إن المسألة في غاية الجدية. وقال قدم أحد رجال المدينة من مكّة وروى الاستعدادات الهائلة التي يقوم بها القرشيّون. أما الناس هنا في المدينة، فإنهم يطلبون من المقاتلين عدم الخروج للقاء العدو خوفا من الموت. قالت عائشة: - هل نحن بهذه الهشاشة كلها حتى نخاف؟ من هو هذا الكذّاب الذي يشيع هذه الترّهات؟ ينبغي أن يُعاقب على ذلك1. ثمّ طلبت حفصة من عائشة ان تفتح الموضوع مع الرسول حين يأتي عندها، بينما ستتكفّل هي بالحديث مع والدها عمر بن الخطاب. وخلال الأيام الموالية، لمْ يحرّك محمد ساكنا، هذا في الوقت الذي تتزايد فيه الإشاعات والمخاوف والتحذيرات، إلى درجة انّ حميّة المقاتلين من المهاجرين والأنصار قد خبتْ وتضاءلتْ. وبعد أن فاتحتْ عائشة محمدا في الموضوع، طمأنها بكونه لا يشكّ في مشيئة الله وقوته، وبأنه ينتظر صدور التعليمات الإلهية. في الصباح، سُمعتْ طرقات على الباب، فأطلّت عائشة لتجد والدها أبا بكر صحبة عمر بن الخطاب. فقد بلغتهما الأخبار، ويريدان معرفة ما يمكن القيام به لمواجهة القرشيين. بادر أبو بكر قائلا: - إنّ أبا سفيان في موقف لا يُحسد عليه، فهو في الحقيقة لا يدري هل يمكنه التفوّق في الحرب أمْ لا، في هذه السنة التي تعرف حالة جدب كبيرة. وقد قال لسهيل بن عمر بأنه: لا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج، فيزيدهم ذلك جرأة، فالحقْ بالمدينة فثبّطهم، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها. وبعد لحظة صمْت، أضاف أبو بكْر: - وهو يدعو القرشيين متباهيا بقوّتهم، مقابل ضعفنا، وذلك من أجل تخويف جنودنا وإضعافك يا رسول الله. وفي غياب المقاتلين، فإنك أنت الذي ستتعرّض للإهانة، وكذلك الإسلام من خلالك. أجاب محمّد بالقوْل: - أنت على حق، وأنا قلق للغاية، لأن المؤمنين لم تعد عندهم قابلية للحرب، وحسب ما يبدو فلا أحد يمكنه أن يتبعني. لكن إذا اقتضى الأمْر يمكنني الخروج لوحدي. - لا يمكنك التراجع عن التحدي الذي أخذته على عاتقك. أزاحتْ عائشة الستار الذي يحجبها عن الناس قائلة: - كلاّ، لا يجب أن تذهب لوحدك. لمْ تلتزم عائشة ببقائها محجوبة داخل غرفتها، وخرجتْ لتتحدث إلى كل من أبي بكر وعمر وزوجها مشددة على استعدادها للخروج من أجل الحرب والدفاع عن الإسلام، مؤكدة على أن الله يحتاج كذلك إلى النساء حاجته إلى الرجال في مثل هذه الظروف. لقد كانتْ لحظة ملائمة استغلتها عائشة من أجل إسماع صوت المرأة في مجتمع ذكوري لا يجد لها مكانا سوى داخل البيت. وذلك ما أكده كل من محمد زوجها، وأبو بكر والدها، حيث أقنعاها بحسن كلامها، وبأن أحسن مشاركة لها وتشجيع هو البيت. وبعد قرار التوجّه إلى بدر، خرج الرسول ومعه سبعون راكبا يقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، حتى وصل إلى بدر الصغرى (بدر الموعد)، فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، فلم يلق أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجل، قسماه أهل مكة: (جيش السويق) وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق. ووافي المسلمون سوق بدر، وكانوا قد حملوا معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا، فربحوا وأصابوا بالدرهم الدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. وبعد العودة إلى المدينة، خاطب محمد أنصاره بالقوْل: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172)الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)) [من سورة آل عمران]. غدا: غضب عائشة من زواج الرسول من زوجة ابنه بالتبنّي هامش: 1 يتعلق الأمر، كما تروي كتب السير والمغازي، بسهيل بن عمرو الذي جاء إلى المدينة قائلا: « فأتى نعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فو اللّه لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم». (المترجم).