تابعت كما تابع الجمهور مسلسل عمر لوليد سيف كتابة، وحاتم علي إخراجا، وما أثار استغرابي هو تغييب شخصيّة عمر في مسلسل عن عمر، فلقد بدا لي نادر الظّهور، وإذا ظهر فإنّ حضوره باهت، يتحدّث كالآلة، مواقفه بسيطة، لا تبرز أيّ عظمة استثنائيّة في شخصيّته أو عنصر جاذبيّة، وهو ينساق وراء آراء أبي بكر كأنّه تلميذ، ليس هذا هو عمر الذي تحكي عنه كتب السّير، فلقد كان رجلا قويّ الشّخصيّة، غليظا، صلبا وأحيانا متطرّفا، صاحب مواقف جريئة، ليس فقط مع غيره من الصحابة، بل حتّى مع النبيّ، فلقد أشار عليه مثلا بقتل الأسرى يوم بدر، وعدم قبول الفداء، ولكنّ النبيّ رفض قتل الأسرى، إلّا بعضهم، قتلهم في طريق عودته، وجاء القرآن لاحقا ليوافق عمر في ما اقترحه، وقبل هذه المعركة مثلا أمر النبيّ جنوده أن لا يقاتلوا الكفّار من بني هاشم، بحجّة أنّهم ما خرجوا في جيش قريش إلاّ مرغمين، وخصّ بالتّنبيه عمّه العبّاس، فما كان من الصّحابي أبي حذيفة بن عتبة وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمّه شيبة في جيش قريش إلا أن أبدى احتجاجا كبيرا، قائلا : أنضرب وجوه آبائنا واخواننا وعشيرتنا ونترك العبّاس، والله لئن لقيته لأضربنّه بالسّيف، فانزعج النبيّ وخاطب عمر بكنية جديدة : أتسمع يا أبا حفص، أيضرب وجه عمّ رسول الله بالسّيف؟ فاستشار بذلك نخوة عمر فبادر إلى امتشاق سيفه متوجّها نحو أبي حذيفة : دعني أضرب عنقه بالسّيف يا رسول الله فوالله لقد نافق. وفي حادثة الإفك والشبهة التي وقعت للسيّدة عائشة مع بن المعطل، حين تخلّفت عن ركب رسول الله، ثم لحقت به في المدينة برفقة بن المعطل هذا، ووقوع الشكّ والرّيبة في نفس محمّد منها، وهجره إيّاها، فما كان من عمر وعلي إلا أن أشارا عليه بطلاقها، لكن النبي لم يفعل وانتظر إلى أن جاءه الوحي ببراءة الزّوجة مما نسب إليها. وكذلك زواج النبيّ من ابنة عمر حفصة، وما وقع من تحالف نسوي بينها وبين عائشة ضدّ بقيّة الزّوجات، والقصص الزوجيّة الكثيرة التي تروى في هذا الباب، والتي أشار إليها القرآن في عدّة آيات، ووصل الأمر إلى التّهديد بالطلاق الجماعي لهنّ إن لم يستقمن على الطريقة، وكيف تعامل عمر مع ابنته حفصة، وكيف كان موقفه من صهره. وفي وفاة النبيّ، كيف أبدى موقفا صارما وغريبا، حين أمر الرّسول بإحضار قلم وورق ليكتب كتابا أو وصية للمسلمين حتى لا يختلفوا من بعده، فمنع عمر ذلك بحجة أن النبي يهجر، أي يهذي بسبب المرض والحمّى. وأنّه لا يعي ما يقول في هذه السّاعات الأخيرة من حياته. وكذلك موقفه من مسألة الخلافة ودوره الكبير في تولية أبي بكر، وجداله المطوّل مع الأنصار في سقيفة بني ساعدة. وولاؤه لأبي بكر حتى على علاقته مع علي، وحتى على حساب ابنة رسول الله فاطمة التي خاصمت أبا بكر وبقيت غاضبة منه حتى وفاتها. وكذلك عن القصص في وأده لابنته، وعن شدّة معاقرته للخمرة، وعن حبّه للمصارعة، وعن هزيمة خالد له في احدى المباريات زمن الجاهلية، وكيف يمكن لهذه الحادثة القديمة أن تبقى مؤثّرة في نفسيّته في بناء موقفه من خالد، وتحريضه أبا بكر على عزله، وعزله إيّاه بمجرد توليه الخلافة. إضافة إلى اللغط والاختلاف الذي سبّبه خالد في كلّ المهام التي كلّف بها في حياة الرّسول وفي حروب الردّة من قتل الأسرى وقتل المسلمين بالظنّ. وغير هذا كثير من المواقف التي كان يمكن للكاتب وليد سيف أن يقف عندها، ويستثمرها فنيّا والتي تبرز شيئا من شخصيّة عمر، وتطوّرها، وطريقة تفكيره، ولو أنّ المسلسل اهتم بعرض اجتهاداته وبدعه الحسنة في الدّين، وشدّته في العدل، وعهدته لأهل القدس، ونزاهته المثاليّة، لكان أجدى وأنفع، لكنّ المسلسل استغرق ولحلقات كثيرة في عرض ما يعرفه النّاس وحفظوه حتى ملّوه، من تعذيب أميّة لبلال، ومن قتل وحشي لحمزة بتحريض من هند، ومن إعجاب النّجاشي النّصراني بالقرآن ومنحه اللجوء السّياسي لجماعة المسلمين، ومن سقوط سراقة عن فرسه، ونشيد طلع البدر علينا، ثم انغمس المسلسل في صور مملّة مكرّرة من المعارك والسّيوف والرّؤوس المقطوعة والدّماء والغبار، وكأنّه يريد أن يقول إنّ الاسلام لم ينتشر إلا بحدّ السّيف، وبالقوّة والغزو، وأنّ تاريخ الإسلام تاريخ دمويّ كما يقول المستشرقون، ولو شاهد أوروبي أو أمريكي أو صيني هذا المسلسل لكان حكمه على الإسلام غير بعيد عن هذا، فما علاقة الجيوش والسّلاح والقتال والدماء بالدّعوة والهداية والإيمان بالآخرة؟ وهل يجب أن نسوّق في الإعلام العالمي هذه الصّورة المخيفة عن إسلامنا؟ إنّه إسلام بداوة وسرايا وحرب وقتال وفرض المعتقد بالقوّة، وأنّ من لا يؤمن يقتل بحدّ السّيف، ومن لا يخضع يضرب بالسّيف، وتساق نساؤه سبايا، ويباع أولاده عبيدا، ضاربين عرض الحائط كل الآيات التي تتحدّث عن حريّة الإنسان، وكرامة الإنسان وحرمته، وعن العقل، وعن قيمة الفكر، واستقلال الإرادة البشريّة واحترام قرار الفرد؟ فهل دخل النّاس في الإسلام خوفا من السّيف وتجنّبا للغزو، أم طمعا في الغنائم والسبي؟ لم يبرز المسلسل للأسف أيّة قيم ايجابيّة، بالعكس كرّس قيما سلبيّة، قتل الولد لأبيه، والأخ لأخيه، بسبب المعتقد الغيبي الذي لا يعدو الدّليل على صحّته مجرّد الإيمان، وهي قيم اكتوينا بنارها في الجزائر من حرب الإخوة، وتكفير النّاس بعضهم لبعض، كرّس قيم الكذب حين يراوغ الولد أباه، ويظهر الكفر، وهو يضمر الإيمان، وحين يقوم أحد المسلمين بالكذب على قريش وأحلافها من جهة، وعلى اليهود من جهة أخرى، من أجل تحقيق انتصار ظرفي، وكأنّ الرّسول الكريم بحاجة لممارسة الخديعة والكذب من أجل الانتصار على حفنة من عرب الصّحراء. لقد أشار كثير من الدّارسين إلى الأخطار الفكريّة والنفسيّة التي تتضمّنها كتب السّير والمرويّات من فظاعات، من تقتيل وتنكيل وتعذيب واغتيال واغتصاب، وهي كتب قديمة تجمع كما هو معروف بين الصّحيح والضّعيف والمعقول واللامعقول، وكان يفترض بكاتب ذكيّ ومبدع كوليد سيف أن يبدي كثيرا من الاحتراف والألمعيّة والفطنة في نسج قصّته عن بطله، لا أن ينساق وراء أفكار العوام ورواياتهم الشعبيّة ونزعة العنف، ويقدّم صورة نمطيّة مضرّة عن الإسلام لا تناسب روح عصرنا ولا قيمه، بل وصارت مادّة للنكات. ولا حجّة له في القول بالتزام الحقائق التاريخيّة وأنّه لا يستطيع تجنّب ذكرها كما وقعت، إذ أنّه لم يلتزم بهذه (الحقائق التاريخيّة) في مسلسله، فبلال لم يقتل أميّة بتلك الصّورة البطوليّة التي نسجها خيال العقّاد في فيلم الرسالة، وكرّرها وليد سيف في مسلسله، وإنّما قتله وهو مستسلم أسير في يدي عبد الرّحمان بن عوف، ولم تنفع محاولات عبد الرّحمان في إقناع بلال بالعدول عن الانتقام وأن النبيّ قد جعل الأسير من قريش لمن أسره، لكنّ بلالا أصرّ على الانتقام من جلاده الشيخ الثقيل ويستعدي النّاس صائحا : لا نجوت إن نجا. فقتل أميّة وابنه علي وهما أسيران لا حول لهما ولا قوّة. والانتقام وبهذا الشّكل غير البطولي ليست قيمة انسانيّة يفتخر بها أو ممّا يعد من قيم عصرنا المرغوبة. وكذلك مقتل أبي جهل، فهو قد أصيب في المعركة مقاتل، ووقع أرضا جريحا عقيرا فاستغل بن مسعود الفرصة، ووضع رجله على عنقه، وهو في لحظاته الأخيرة بين الحياة والموت، متشفيّا، ومع ذلك لم يتخلّ أبو جهل عن جبروته وغروره وقال لابن مسعود في لهجة مستنكرة : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم. وتذكر الرّواية أنّ ابن مسعود حاول الاجهاز على أبي جهل ففشل، فبصق في وجهه أبو جهل وقال له : خذ سيفي واقطع به رأسي. ففعل ابن مسعود وجاء بالرّأس إلى رسول الله. وحتى تفاصيل معركة أحد كما روتها كتب السّير ليست بتلك الصّورة التي قدّمها فيلم الرّسالة وتابعه عليها هذا المسلسل، في صورة خطإ ارتكبه الرّماة على الجبل، فتركوا أماكنهم وسعوا نحو الغنيمة فانكشف جيش المسلمين لفرسان خالد... الصّورة التي تنقلها الكتب القديمة مختلفة، وهي تظهر وقوع خلل كبير في صفوف المسلمين، وفرارهم نحو المدينة، خصوصا بعد أن أشيع أنّ النبيّ قد قتل، فتذكر هذه المصادر أنّه لم يبق مع النبي إلا قلّة ضئيلة من الصحابة تعدّ على الأصابع، وكاد كفّار قريش أن يقتلوه، وجرح النبيّ في أجزاء من جسده ووجهه وكسرت رباعيته. وانسحب أغلب الصّحابة نحو المدينة يتحصّنون فيها. كما يظهر التكلّف في المسلسل في قصّة وحشي، وأنّه بعد قتله حمزة واعتاقه، حاول التصرّف كسيّد من سادات مكّة، والجلوس في دار النّدوة مع كبار القوم، وهذا ممّا لا أصل له، ولا يعقل أن يفكّر فيه عبد حتّى ولو أعتق، فدار النّدوة لا يدخلها إلا أحفاد مؤسّس قريش قصي بن كلاب، وإلّا من كان له من العمر أربعون سنة فما فوق، فمن المستحيل اجتماعيّا أنّ وحشيّا ظنّ في نفسه أنّه قد صار من السّادات وله الحقّ في الجلوس مع كبار القوم، في حين كان يبقى السّادة من شباب مكّة خارج الدار. فهذا ظاهر التكلّف. وبالمقابل في معسكر الإيمان لا نجد أنّ بلالا قد حظي بمنصب، ولا قيادة ولا سؤدد، وأقصى ما وصل إليه أنّه كان مؤذّنا، وليست مهنة المؤذّن على شرفها من المهن القياديّة، بل تعدّ من المهن البسيطة. فإذا كان بلال لم يحصل على قيادة مدنيّة، ولا عسكريّة في الإسلام، فكيف يحصل وحشيّ عليها في الجاهليّة؟ لقد ضاع المسلسل وفقد بوصلته، وسكت عن كثير من الأمور التي قد تهمنا في عصرنا، فلم يشر إلى ما قام به المسلمون أو يفترض أنّهم قد قاموا به من الانتقام بعد غزوة الخندق وعودة الأحزاب من يهود بني قريظة، وأنّ النبيّ أمر بقتل رجالهم، كل من بلغ منهم أي حتّى الأطفال في سنّ الرّابعة عشر فما فوق (ستمائة وقيل سبعمائة وخمسين)، وسبي نسائهم، واستعباد أطفالهم، وبيعهم في نجد، وهي أمور يصعب التّصديق يأنّ نبيّ الإسلام نبيّ الرّحمة فعلها، ففي النصّ القرآني، ليس النبيّ إلا بشيرا ونذيرا، ولم يبعثه الله مقاتلا، يحمل سيفا يقطع به رقاب النّاس ممّن لا يصدّقونه. انتهى المسلسل أو كاد، ولم نر من شخصيّة عمر شيئا يذكر، عدا الدّماء والسّيوف والمعارك والتّقليد الفاشل لحركات فيلم... الشّهير، وذاك المشهد المأخوذ بحرفيّته من فيلم الاسكندر الأكبر، حين أوشك جيش خالد على الانهزام أمام جيش مسيلمة، فتوجه خالد مسرعا نحو مسيلمة ورماه برمح أخطأه فأصاب رجلا آخر بجانبه، ففزع مسيلمة وهرب لا يلوي على شيء، هذا المشهد موجود حرفيّا في فيلم الاسكندر حين توجّه وقد أوشك جيشه على الهزيمة مباشرة صوب الملك الفارسي داريوس ورماه برمح أخطأه وأصاب رجلا آخر، لكنّه كان كافيا لإلقاء الرّعب في نفس داريوس فأسرع بالفرار وانهار جيشه، فهذا التّقليد للأكشن الغربي في هذين الفلمين الشهيرين، هو ما طغى على المسلسل وجعله مشوّها، فلا حبكة دراميّة ولا تطوّر للشخصيّة، ولا حتّى اجتهاد في بحث الأسباب والدّوافع النفسيّة للشّخصيّات ومنها شخصيّة عمر، والاكتفاء بالقصّة القديمة عند دخول عمر على أخته وقراءته لأوائل سورة طه. والحقّ أنّي لا أنقد كاتب العمل ومخرجه إلا لإعجابي بما يقدّمانه، فلقد استمتعت كثيرا بمتابعة روائعهما الأندلسية : صقر قريش، وربيع قرطبة، وملوك الطّوائف، فلقد أبدعا لغة وحبكة وإخراجا وكانا رائعين، ولكنّهما فشلا فشلا مريعا في هذا العمل، وقد لا يكون الذّنب ذنبهما في حقيقة الأمر، فهناك الرّقابة الكهنوتيّة الفقهيّة على شاكلة القرضاوي وسلمان، وهناك الرّقابة الماليّة السياسيّة القطريّة، وهناك الرّقابة الشعبيّة والضغط الإعلامي مع ما صاحب مسألة ظهور الصّحابة في التلفزيون من نقاش يُبكي ويضحك، فمساحة الحريّة والإبداع محدودة جدّا إذا تعلّق الأمر بالفترة المؤسّسة للإسلام، الفترة التي تبلغ فيها القداسة ذروتها، ويصبح الاقتراب منها كالاقتراب من الألغام. ولم لا؟ فكثيرة هي تلك العروش والكراسي في وطننا العربي شرقا وغربا ليست قائمة إلا على سرد معين لهذه القصة. وما دام هامش الإبداع محدودا، والمحاذير كثيرة، واللّعنات تترى، والمطلوب ليس إلا التكرار والاجترار، وتقديم هذه الصّورة النمطيّة العنيفة عن الإسلام الأوّل، فكان أولى وأكرم للكاتب والمخرج أن يعتذرا عن تشطيب هذه العمليّة من الأساس، لأنّها مجرّد مقاولة لا أكثر، لا تزيد إلا في رصيد الرّجلين المالي ولا تضيف إلى رصيدهما الفنّي شيئا يذكر. القيمة الوحيدة والأساسيّة التي يستطيع بها الإسلام دخول العصر هي قيمة الرّحمة والتّسامح، وهو ما يجب التّركيز عليه في تقديم الإسلام وبناء صورته للعالم، عدا ذلك لن تفيدنا الدّماء وصور القتل والمعارك في شيء، فهل سيؤمن النّاس في كندا لأنّ خالدا قام بقفزة وقتل عشرة رجال ببراعة في معركة في الصّحراء كما يحرص المسلسل على تصويره ببطء ودقّة؟ عن موقع الأوان