نشر البلاغي المغربي محمد العمري سيرته الذاتية الأولى» أشواق درعية،العودة إلى الحارة» سنة2000، وكانت عبارة عن سرد استرجاعي عاد فيه إلى مولده و نشأته و تلقيه العلم في مسقط رأسه بمنطقة «سكورة» بمدينة «ورزازات»، جنوب المغرب. فكان بعودته إلى طفولته ونشأته يتبع ناموس كل كتاب السير الذاتية. ومنذ ذلك الحين والقارئ، وخصوصا المهتمون بنصوص الأدب الذاتي والبلاغيون الذين رافقوا هذا الباحث، ينتظرون ذيلا وتكملة لسيرة الصبا هذه. فكان عليهم الانتظار 12 سنة كي يصدر سيرته الذاتية الثانية «زمن الطلبة والعسكر» (الدارالبيضاء، 2012). وهي فعلا سيرة الفتوة والنضج. يرويها العمري بضمير «أنا»، في زمن الجامعة والتخرج و النضال السياسي ضد كل أشكال القمع و التدجين و «عسكرة الدين». وهو أيضا زمن الانقلابات العسكرية التي عرفها المغرب، وزلزلت البلاد ملكا وشعبا. يصدر العمري كتاب «زمن الطلبة والعسكر»، خلافا لسيرته الأولى «أشواق درعية» بتقديم يجيب فيه عن سؤال: لماذا نكتب سيرة ذاتية؟ وهو استفهام هام. فما يكتب عنه الكاتب ليس حياة فقط تفاصيل حياة «نعيشها لنرويها»، بل يكتب عن رحلة شاقة وصعبة سارها المرء وحده بعناد و إصرار. لكن العمري يضيف شيئا: إنه يرويها لزوجته فاطمة. وذلك يخفي اعترافا آخر: إنني أكتبها لنفسي، مادامت السيرة الذاتية، ومجمل نصوص الأدب الذاتي، هي حسب «جورج غوسدورف»: « كتابات الذات هي تمارين الذات في شكل كتابة». و العمري نفسه يجيب عن سؤال : لماذا نكتب سيرة ذاتية قائلا: لنتفرج على الذات. لكن أين القارئ؟ هل الملفوظ الذاتي يتحاشاه؟ نعم إنه يتحاشاه لأنه قارئ مرتاب يطرح أسئلة عديدة: من يتكلم؟ هل أنا أمام خطاب صادق؟ كيف التأكد من ذلك؟ وهي كلها أسئلة مشروعة. لذلك فما يخشاه كاتب السيرة الذاتية ليس اللغة، ليس الحقيقة، ليس الذاكرة التي تخون، ليس الماضي الذي أصبح غائما، بل هذا القارئ المرتاب القادم إليه من كل العصور. لكن مهما حفرنا في أرض هذا النص لن نعتر على أجمل و أبلغ من هذا التعبير:» نقرأ لمعرفة ما عند الآخرين، ونكتب لمعرفة ما عندنا». عسكرة الدين: قبل سرد تلك السنوات الصعبة يعود العمري إلى أيامه الأولى حين كان طالبا في «المعهد الإسلامي» بمدينة «تارودانت» في سنوات 1959-1968، ساردا تفاصيل عن تكوينه الذهني الأول، سماه ب «العسكردينية»، ذلك النمط من التعليم الذي عاشه كل طالب علم في تلك المرحلة، وخصوصا في القرى و المناطق النائية. يقول:»كان حراس الداخلية بالمعهد يقومون بعمل شبيه بعمل الشرطة الدينية في بعض البلاد الإسلامية في المشرق العربي». يخصص العمري كل فصول «زمن الطلبة والعسكر» للحديث عن القهر الذي كان يتلقاه كل طالب علم الذي اختصر إلى مجرد طالب دين من خلال ذلك المخطط الجهنمي الذي انتهجته الدولة، و المتجلي في اغتيال العقل، ورمزه هو الفلسفة، وإحلال برامج المؤلفات الإسلامية. بعدما كانت نفس الدولة تتبنى تدريس كتب ابن رشد و نصوصا أخرى تحرر الفكر وتنشر فكرة النقد. فبدأت تبذل مجهودات لمحو أثر الفلسفة في العقول اليافعة، لتحقيق ذلك قامت باستيراد مدرسين من الشرق العربي والإكثار من شعب الدراسات الإسلامية. وهنا يذكر العمري قولا مأثورا للدكتور «سامي النشار»: « لقد جئنا نحن المشارقة إلى المغرب لغرض واحد: إفساد برامج الفلسفة». رأس المال و رأس المخزن: يحرص العمري على تغطية التتابع الزمني الكافي لإظهار مسار حياته. ومعروف أن هذه السمة تقتسمها السيرة الذاتية مع الرواية التي تطمح إلى سرد تغيرات الوجود الذي تعيش مغامرته الشخصيات الروائية. وهنا نجد العمري يكتب تحت ضغط السارد الذي يريد تقديم تجارب من كل نوع في تسلسل زمني متتابع لإقناع القارئ المرتاب بوقائعية ما يقرأ. بهذه المنهجية ينتقل الكاتب من «درعة» و أشواقها و عسكرة الدين في مدارسها، إلى مرحلة التحصيل العلمي الجامعي. وهنا تبدأ الشخصية الرئيسية في إجراء نوع من التطهير للذات. ولن يتم ذلك إلا بقراءة نصوص المناقضة ذهنيا و إيديولوجيا لكل النصوص الدينية المغلقة. قيبدأ الشاب الجامعي في قراءة «رأس المال» لكارل ماركس، وكتب «لينين» و «إنجلز» و «ماوتسي تونغ»، وقد اعترف بخصوص كتب هذا الأخير بأنها لم تكن تستهويه بحكم قربها إلى الصحافة منها إلى التفكير النسقي الفلسفي. وما أن يدخل العمري إلى هذه المرحلة حتى يبأ في تقديم ما يشبه البورتريهات عن زملاء له في التدريس بعد التخرج من الجامعة. وهي تقنية يقدم من خلالها السارد الأجواء الفكرية والإيديولوجية المحيطة به. وهي إيديولوجية ماركسية في معظمها تنبئ بقدوم الطبقة العاملة ذات قضية، وخوضها صراعات مع المخزن والرأسمالية، وهو ما سيغير كل شيء. أما الدولة في تلك المرحلة فلم تكن في أحسن أحوالها، ف محاولات الانقلابية العسكرية تهدد الملك ومحيطه. الشيء الذي جعله ينتهج سياسة القوة والرقابة والتضييق. وقد كانت لتلك الانقلابات أخرى شبيهة في الحياة الاجتماعية والمعيشية والنفسية للمغاربة. زمن المجلات: في سنة 1985 ظهرت في واجهات المكتبات والأكشاك المغربية، على غير توقع، مجلة بعنوان علمي غير مألوف: «دراسات أدبية ولسانية». إنه محمد العمري يحقق حلمه. ولم يكن وحده بل رفقة هيئة تحرير من خيرة اللغويين والبلاغيين واللسانيين المغاربة والعرب: مبارك حنون، محمد الولي وحميد الحميداني. ويشترك هؤلاء الشباب في ذكريات عديدة: دراساتهم العليا في مدينة فاس، تخصصهم في البلاغة (العمري والوالي) و النقد الأدبي (حميد الحميداني)، و اللسانيات مبارك حنون). يسرد العمري عمل هذه المجموعة ومكابدتها العلمية والمالية. كانوا يعملون ويبحثون وينشرون وهم يضعون في ذهنهم قارئهم المفترض الذي ينبغي الاحتياط منه، و كأنهم يعملون بنصيحة الجاحظ الذي ينصح كل مشتغل بالعلم باعتبار الناس جميعا أعداء، أي نقادا صارمين. وهذ الاحتياط هو ما جعل مجلة «دراسات أدبية ولسانية». لكن بعد ثلاث سنوات من ممارسة التحرير» استنفذت المجموعة قوة دفعها وطاقة تماسكها، في حين بقي المشروع مفتوحا و ممتدا» وقفزت الكوكبة قبل الوصول. فتوقفت المجلة وبدأت تصدر محلها مجلة أخرى هي «دراسات سيميائية». غير أن هيئة التحرير لم تبق على حالها، بل تخلى عنها بعض الأعضاء، وعلى رأسهم والباحث اللغوي واللساني الأستاذ مبارك حنون. في هذا المنعطف يلاحظ القارئ ان العمري يتستر عن حقائق أخرى: لماذا توقفت مجلة «دراسات أدبية ولسانية»، التي بدات أيضا تصدر كتبا وترجمات تحت اسم «منشورات سال»؟ هل الخلاف مادي أو علمي أو شخصي؟ هل وزارة الداخلية، من خلال وزيرها الشرس إدريس البصري، هي من كان وراء هذا التدبدب والعياء؟ هنا بياض كبير تتركه سيرة العمري. لكن يبقى فصل « فضاءات القلم» من أقوى فصول السيرة على كل من يعتزم إنشاء دار نشر أو تأسيس مجلة أن يقرأه لأنه مخل هام إلى «فقه النشر». لكن السيرة تنتهي ولا تنتهي الحكاية. فالعمري لم يقد تحليلا واسعا لرفاقه في تأسيس المجلة، على غرار ما فعله في الصفحات الخاصة بالطلبة وزملاءه الأساتذة. أو بوصف المؤتمرات الطلابية والمعارك النقابية.