نشأت في المنطقة إمبراطوريات إسلامية مزدهرة امتد نفوذها شمالا وجنوبا :كدولة مالي وإمبراطورية غانا ودولة السونغاي ودولة المرابطين....كما تأسست فيها مدن عريقة حافظت لقرون على تألقها العلمي والديني كتوات وسجلماسة وشنقيط وولاته وتمبكتو.. وينتمي إقليم فزان في جنوب ليبيا إلى الفضاء الساحلي الذي يشمل كامل «بلاد الطوارق» والقبائل العربية المجاورة لها في دول الساحل غرب الإفريقية (مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو).كما ينتمي للمجال ذاته إقليم دارفور السوداني وثيق الاتصال بوسط تشاد. ولم تكن بلدان المنطقة التي نظر إليها دوما بأنها من أفقر دول العالم لتثير اهتمام العالم قبل بروز ظواهر ثلاثة متزامنة في السنوات الخمس الأخيرة هي : اكتشاف ثروات معدنية ونفطية هائلة من شانها فتح آفاق اقتصادية جديدة لهذه البلدان ،وتحول المنطقة الى مسرح رئيسي لشبكات التهريب والمخدرات وانتقال العمالة غير الشرعية لأوروبا،وتسارع عمليات الإرهاب التي استهدفت على الخصوص السواح والمقيمين الغربيين في المنطقة بعد أن انتقل مركز السلفية المقاتلة من الجزائر الى الصحراء الساحلية بعد إعلانها الانضمام الى تنظيم القاعدة. وكما يبين الباحث الجزائري «علي بنسعد»(8) سلكت شبكات الجريمة المنظمة والإرهاب نفس المسالك الصحراوية الوسيطة ،واعتمدت على نفس القنوات القبلية التقليدية ،في الوقت الذي تقف دول المنطقة الضعيفة عاجزة عن التحكم في مسارب عصية لا تعترف بالحدود الرسمية تستأثر بمفاتحها المجموعات القبلية التي تتوارث ضبطها والهيمنة عليها. ولا يعني الأمر هنا ان المجموعات الإرهابية وعصابات الإجرام والتهريب قد سيطرت عمليا على المنطقة،وإنما يعني أنها استفادت من الأزمات الاقتصادية الاجتماعية الخانقة التي تعيش فيها تلك الهوامش المقصية من مسارات التنمية والتحديث وتأقلمت مع منطق ومسالك التبادل القائمة منذ عصور سحيقة. فما تشهده حاليا هو انهيار الدول الوطنية الهشة في المجال الساحلي تحت وطأة الفتنة الداخلية التي تتمحور في البؤر الصحراوية البدوية (ازواد المالي واغاديز في نيجريا ودارفور في السودان..)،في الوقت الذي تتركز الثروات الطبيعية في هذه المناطق التي تستقطب التنافس الاستراتيجي بين القوى الدولية الكبرى،مما يضاعف الإشكاليات والتحديات الأمنية والجيوسياسية المطروحة على هذه البلدان. ولا شك أن الأحداث الليبية الأخيرة قد أضافت تحديات جديدة على هذه الخارطة المتفجرة أصلا .وغني عن البيان ان المجال الساحلي يرتبط وثيق الارتباط ببؤر التوتر في القرن الإفريقي عبر الفضاء الصومالي المفكك الذي تحول في الأعوام الأخيرة إلى مركز رئيسي لعمليات القرصنة والإرهاب . وقد قامت في الصومال الدولة الطالبانية الثانية،التي قد تتكرر في عدة مناح أخرى من المجال الساحلي- الصحراوي بمفهومه الأوسع. كما يرتبط خط التأزم الساحلي ببؤرة التوتر اليمنية عبر قنطرة القرن الإفريقي ،مما يفضي الى تشكل مثلث خطر بإضلاعه المتصلة في غرب إفريقيا وفي شرقها وفي غرب جنوب شبه الجزيرة العربية. ولا شك ان السيناريو الأسوأ في المنطقة هو تفكك الوحدة اليمنية التي تتعرض في أيامنا لتهديدات فعلية اثر تعثر ديناميكية الثورة السلمية وبروز مؤشرات متزايدة على عسكرة الانتفاضة الشعبية وعلى انبثاق مطالب انفصالية قوية في الجنوب،في الوقت الذي يخشى من قيام دولة طالبية ثالثة في «ابين»(على الشريط الساحلي لبحر العرب) التي تعد من مراكز تنظيم القاعدة النشطة. ومع ان مشهد التفكك الليبي ليس مشهدا حتميا ،إلا أن دواعي الحذر قائمة من دعوة بعض التنظيمات السلفية المتشددة لقيام «إمارات إسلامية» بديلة في شرق ليبيا في حال استفحال الخلاف السياسي المحتدم بين الثوار حول هوية الدولة ومرجعيتها العقدية والدينية. ولا تزال تداعيات انفصال جنوب السودان تترى مخلفة مخاوف عميقة حول مستقبل هذا الكيان الواسع الذي يطرح تفككه تحديات عصية على نموذج الدولة الإفريقية المتعددة المكونات العرقية والدينية .ولقد صدق الرئيس التشادي «ادريس دبي» في قوله ان قاعدة احترام الحدود السياسية الموروثة عن الاستعمار شكلت في السابق الضمانة الوحيدة لاستمرار الكيانات الإفريقية المصطنعة في غالبها ،وبما ان القاعدة انتهكت في السودان فلا شيء يمنع منذ الآن انهيار الكيانات الإفريقية وفي مقدمتها بلدان الساحل . ومن هنا يمكن القول ان مثلث الخطر الاستراتيجي القادم سيتمحور حول المجال الساحلي الصحراوي الممتد من الأطلسي الى البحر الأحمر. إن ما نريد ان نخلص إليه هو إن إحياء المشروع الاندماجي في المغرب العربي ،لا بد ان يراعي معطيات وحقائق المعادلة الجديدة في منطقة الساحل والصحراء ،بدل الاكتفاء بالقبلة المتوسطية الشمالية التي لا خلاف حول أهميتها الإستراتيجية. وقد يأخذ شكل التوجه الجديد - بعيدا عن القوالب القذافية الكرنفالية ? عدة صيغ من بينها دمج بلدان الساحل في المنظومة المغاربية كأعضاء مراقبين أو أعضاء في الأجهزة الفرعية المتخصصة في مجالات التداخل المشترك بين الفضاءين. كان المؤرخ الفرنسي الكبير «فرناند بروديل» يقول إن الصحراء الكبرى هي المتوسط الأخر ،وتشكل العلاقة بينهما محور امن واستقرار العالم.