داخل الكهف، يتضاءل ضوء نار. المكان فارغ، ولا وجود عند مدخله سوى حزمة من الثياب. في ضوء الفجر الخفيف الذي يضفي بياضا على السماء، ويشحب نجم الليل، تفرّق الخدم في أركان المنطقة الجبلية، واصلين إلى قمتها، وشرعوا في مناداة الاسم. وعند سفح الجبل، كانوا قد تركوا جمالهم وخديجة التي أعيتها الستّون سنة، ويجهدها الطريق المنحدرة المليئة بالركام والأنقاض. فهي تعرف هذه الطريق جيّدا لأنها سلكتها كثيرا حاملة معها الطعام لزوجها حين كان يأتي إلى هذا المكان من أجل التأمل والعبادة ونسيان الصوت الذي كان ينهك قواه ويفزعه إلى حدّ تمنّيه الموت للخلاص منه. وهي بدورها ترتجف. - أين يكون قد اختفى؟ - في الوادي، صرختْ فجأة خديجة. لم يخنْها حدسها. بجانب من رأس الجبل، بدا شخص غير واضح الملامح، كان جاثيا ثمّ بدأ في النهوض ببطء شديد متّجها نحو الوافدين الجدد دون ان يراهم. كان وجهه، المرفوع نحو السماء، متبدّلا “يضيئه نور خارق". في تلك اللحظة تعرّفتْ عليه في سترته الخضراء، وملامحه التي لا تخطئها عينها. وسرعان ما هرعتْ نحوه للاطمئنان عليه قائلة: - أخيرا أنت هنا، لقد كنت خائفة من فقدانك! توقّف أبو بكر، الذي كان يتبعها، على بعد بضعة أمتار، مشيرا إلى خدَمه أنْ يفعلوا مثله. وبعد أنْ طمأن محمد زوجته، توجّه بالتحية إلى حاملي المصابيح اليدوية. قال وابتسامة سعادة تضيء محيّاه: - هيّا تعالوا عندي جميعكم. كانت الدموع تخنق صوته، لكنه تابع قائلا: - كنت أظن أنّ لعنة أصابتني من السماء. وبدتْ لي حياتي السابقة في التجارة والربح سخيفة ولا معنى لها. وحين هرعتُ إلى هذا المكان لم تكن في نيّتي سوى فكرة واحدة: الانتهاء من هذه الحياة البئيسة. وقد نهضت للارتماء في هذا الوادي، إلى أنْ سمعت صوتا يدوي في أرجاء السماء : «يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي». قالتْ خديجة بصوت مرتفع، وهي تنظر إليه بطريقة لا تقوم بها إلاّ امرأة أحبّته من كل أعماقها: - كنتُ أعرف هذا، كنت أعرف منذ اليوم الأوّل الذي رأيتك فيه أنك رجل مختلف كل الاختلاف عن سائر رجال مكّة. فَقرَّ عيْنا، وحافظ على هدوئك وعزمك، والذي نفس خديجة في يديْه لسوف تكون، كما أتمنى، نبيّ هذه الأمة. وانحنتْ عليه باكية، ثم شرع في تلاوة الآيات الأولى التي تدعو الناس إلى اعتناق الدين الجديد الداعي إلى اجتناب عذاب النار وابتغاء الجنّة، ثمّ تناول يدّ خديحة مساعدا إيّاها على النهوض. وبصوت خافت تابع: - هل تذكرين يا نور عينيّ تلك الليلة الربانية التي طلب منّي الملك جبريل فيها أنْ أقرأ، أنا الذي لم يسبق لي أنْ قراتُ من قبلُ، وأوحى لي بالسور القرآنية الأولى؟: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم". هل تذكرين اضطرابي وهيجاني تلك الليلة؟ فهل ما زلت تصدقينني الآن؟ قالت خديجة: - لقد عثرتُ عليك ثانية، وأنا أصدقك حتى الرّمق الأخير من حياتي. في هذه اللحظة، شرع أبو بكر، الذي كان جالسا على صخرة مداعبا لحيته ومتابعا للمشهد، في إصدار صوت تعبيرا عن وجوده، الأمر الذي جعل محمدا ينتبه إليه ويُفاجأ بوجوده: - أنتَ أيضا هنا؟ هل سمعتَ ما جرى لي تلك الليلة؟ وهل تصدقني؟ - لماذا هذا السؤال يا أحمد بن عبد الله بن هاشم؟ فإذا كانت خديجة هي المرأة الأولى التي اعتنقت الإسلام، وكان عليّ ابن عمّك أوّل شاب يافع يقوم بذلك، فإنه شرف لي أنْ أكون أول رجل بالغ وراشد يستجيب لدعوتك معلنا إيمانه وتصديقه إياك بدون تردد. - أجلْ يا أبا بكر، ما أنْ مسّ النداء قلبك وروحك حتّى اتّقدتْ شعلة الإسلام على لسانك. لكنْ ما سبب وجودك هنا صحبة خديجة؟ - لقد جئنا لكي نزفّ إليك الخبر، فقد تمّتْ الولادة هذه الليلة، وكنت اعتقدتُ فعلا أنني فقدتُ زوجتي. كانت الأمور تسير في الاتجاه السّيّء مما اضطرني إلى طلب زوجتك خديجة. وقد كان ليديْها ذلك المفعول السحري الذي تعرفه. كانت أم رومان على شفا حفرة من الموت، إلى أنْ أعلن الجمّال قائلا: “لقد انبلج الفجر...". في تلك اللحظة حصل انقباض قويّ وعنيف خرج على إثره المولود الجديد، وبقيتْ زوجتي على قيد الحياة. بادره محمد مذعورا - هل قلتَ مع انبلاج الفجر؟ وبإيماءة من رأسه، أكّد له أبو بكر ذلك. - في هذه اللحظة بالذّات كنت أنظرُ إلى الملاك في السماء. يا لها من مصادفة غريبة! 1 المسألة المتصلة باللحظة الأولى لبداية الوحي ليس محسوما فيها ، إذْ لا ندري هل يتعلق الأمر بغار حراء أم بجبل أجياد! وبما إذا كان قد نزل عندما كان محمّد نائما أم صاحيا! وبما إذا كان الكلام قد سمع مباشرة أم بواسطة الملك جبريل! وفي هذه الحال بما إذا كانَ الملك قد تجلّى له في صورة ظاهرة أم سمعه فقط. هناك بعض الاختلاف في تفاصيل الروايات المتعددة الواردة بشأن بعث محمد. فمثلا تذكر بعض الروايات ان الوحي (أي جبريل) جاء محمدا وهو نائم، وبعضها يذكر أنه جاءه وهو قائم. ويبدو أنّ الكاتبة استندتْ هنا على رواية ابن إسحاق في سيرته لأنها الأشمل من بين الروايات الأخرى، لكنها أدرجتها ضمن خيطها السردي التخييلي (المترجم). غدا: عائشة وسنوات التعلّم الأولى