في احدى المقابلات معه أحصى ياسر عرفات بفخار غير قليل نحو أربعين محاولة اغتيال له، واضافة الى ذلك عشرات اخرى من الاحداث نجا فيها من الموت في معركة أو في حادثة. معقول الافتراض بان هذا العدد مبالغ فيه واستخدمه الرئيس كي يعظم الاسطورة حول شخصيته، ولكن لا ريب أن عرفات كان هدفا لكثير جدا من محاولات التصفية، وقد نجا دوما منها كيفما اتفق. ‘كانت له أكثر بكثير من أرواح قط'، يقول رجل استخبارات اسرائيلي كبير. وذلك، بالطبع، حتى تشرين الثاني 2004، حين هزمه المرض الخفي. تحقيق قناة ‘الجزيرة' الاسبوع الماضي والذي بموجبه توفي عرفات كنتيجة للتسمم بمادة البولونيوم الاشعاعية عاد مرة اخرى ليطرح السؤال ما الذي تسبب بوفاة مؤسس فتح وزعيم الشعب الفلسطيني. هذا السؤال لا بد سيشغل بال الشرق الاوسط لسنوات طويلة اخرى. قليلون جدا يعرفون الجواب الحقيقي عليه. محافل فلسطينية في محيط رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، سلام فياض، تعنى في السنتين الاخيرتين بجمع مادة اخرى في هذه القضية وسينشرونها قريبا. استنتاجاتهم ستقرر هي أيضا بان عرفات قتله محترفون أملوا بالعمل دون ترك أثر، أي خلق الانطباع بانه توفي في ملابسات طبيعية. وحقيقة أنه مع كل الاحترام لنتائج ‘الجزيرة' لا توجد براهين ملموسة على أنه صفي، وبالتأكيد لا يوجد عنوان دقيق انطلق منه المصفون لا تمنع الفلسطينيين من أن يقولوا ان ‘الاستخبارات الاسرائيلية سممت الرئيس›. ولكن بينما لا تزال وفاته محفوفة بالغموض، واضح أن اسرائيل حاولت في الماضي تصفية عرفات مرات عديدة. هذه المحاولات لاغتياله كانت ابداعية على نحو خاص، وتضمنت استخداما لمجرمين أو مغلفات متفجرة؛ ومحاولة واحدة على الاقل عملية الكرامة انتهت بمأساة؛ وأحيانا تسللت الاستخبارات الاسرائيلية الى مطارح غريبة حقا، مثل محاولة تصفية عرفات من خلال مغتال فلسطيني اجتاز عملية تنويم مغناطيسي. ملحق ‘يديعوت - 7 أيام' تابع بعض من محاولات تصفية عرفات على مدى السنين ويرسم ماذا يمكن لدولة اسرائيل أن تفعله اذا ما قررت شخصا ما ابن موت. في منتصف لقمة الخبز بقدر ما هو معروف، كانت أول مرة طرحت فيها في اسرائيل امكانية تصفية عرفات في العام 1994. وكانت فتح في حينه في بداية طريقها، وتنصت الموساد في تلك الفترة على شقة في درامشتات في المانياالغربية، خرج ودخل اليها زعماء فلسطينيون لاحقون. اثنان من الاسماء اشعلا ضوء أحمر: خليل الوزير، الذي عرف لاحقا بلقب ‘ابو جهاد' (وصفي في تونس، في عملية تنسبها مصادر أجنبية لاسرائيل)؛ وياسر عرفات. رافي ايتان كان في حينه رئيس خلية الموساد في اوروبا. في حزيران 1964 توجه ايتان لرئيس الموساد، مئير عميت وطلب منه ان يأمر ‘قيساريا' حسب مصادر اجنبية فان هذا هو اسم وحدة العمليات في الموساد باقتحام الشقة وقتل كل من فيها. ‘يا ريمون (الاسم السري لرئيس الموساد)'، كتب ايتان الى عميت، ‘عندنا قدرة وصول لا تتكرر الى الهدف. يمكن التنفيذ بسهولة. يجب قتل هذا القمقم وهو صغير›. غير أن عميت، بسبب فشلين تنفيذيين ذريعين وقعت فيهما ‘قيساريا' في تلك الفترة، رفض الاذن بتصفية من اعتبرتهم الاستخبارات الاسرائيلية عديمي القدرة الحقيقية، أبناء لشعب غير موجود. ايتان: ‘خسارة انهم لم يستمعوا لي في حينه. كان يمكن توفير الكثير من الجهود، الالام والحزن عنا جمعا›. ايتان كان محقا. في 1 كانون الثاني 1965 نفذت فتح أول عملياتها. صحيح أن هذه كانت محاولة فاشلة وهاوية لضرب المشروع القطري للمياه، ولكنها كانت كافية كي توقظ الاستخبارات الاسرائيلية. في منتصف تلك السنة تشكلت لجنة سرية، لفحص سبل التصدي للارهاب الفلسطيني. وجلس في اللجنة ثلاثة: مايك هراري، نائب رئيس ‘قيساريا'؛ شموئيل غورين، قائد وحدة 504 لتشغيل عملاء شعبة الاستخبارات العسكرية؛ وأهرون ليف ران، ضابط جمع المعلومات في شعبة الاستخبارات. ونسفت هذه اللجنة على مدى نحو ثلاث سنوات نشاط اسرة الاستخبارات في مواضيع فتح وحددت هدفين للاغتيال: ابو جهاد وياسر عرفات. وسار الرئيس المستقبلي منذ تلك اللحظة واشارة الاستهداف على جبينه. عرفات ورجاله كانوا في حينه في دمشق. وحدة 504 جندت عميلا وخططت بتفخيخ سيارته، ولكن الخطة سقطت لاسباب عملياتية. في وقت لاحق، عندما حبست السلطات السورية عرفات، ولدت خطة لتجنيد مجرمين محليين كي يصفوه في السجن. هذه الخطة لم تقلع وافرج عن عرفات سليما معافى. حزيران 1967، فاجأت حرب الايام الستة عرفات بينما كان ‘في جولة عمل' في شرقي القدس. وعندما شعر بجنود الجيش الاسرائيلي يندفعون في أزقة البلدة القديمة المحررة، فهم بان هذا هو الوقت للفرار. وعلم جهاز الامن العام ‘الشاباك' المخابرات بان عرفات هناك فسارع بنشر اعلان ‘مطلوب' أول في قضيته. وكتب هناك ان ‘ابو عمار هو أحد مؤسسي فتح، قائد ومنظم، شخصية هامة للغاية في المنظمة'. في بند الوصف جاء: ‘قصير القامة، 155 160سم: لون جلدته غامق. مبنى جسده ممتلىء؛ صلع في منتصف الرأس. بعض الشيب في جوانب شعره. حليق الشارب. حركاته: عصبية. عيناه: تتراكضان كل الوقت›. بعد ثلاثة أيام من هدوء المعارك اشار عميل للمخابرات الاسرائيلية الى مكان اختباء ابو عمار. ووصل الجنود الى هناك بعد دقائق قليلة من فراره. بعد يومين من ذلك اجتاحوا شقة اخرى. هذه المرة في بيت حنينا. واقتحم المقاتلون المكان واكتشفوا بانه فارغ. في احدى الزوايا عثر على رغيف خبز مع سلطة وطحينة، واضح أنه قضم منذ وقت قصير. ويبدو ان الاسرائيليين ازعجوا عرفات ما أن بدأ بتناول الطعام. بعد وقت قصير من ذلك وصلت سيارة عمومية محلية الى نقطة الرقابة قبل احد جسور الاردن. ولم يبد أي شيء مشبوه فيها: سائق ومسافرة في الخلف. فمرت بسهولة وواصلت السفر الى المملكة الهاشمية. عندما ابتعدت السيارة بما فيه الكفاية، طلبت ‘المسافرة' من السائق الذي عرف تماما من يقيل في سيارته بالتوقف لتغيير اللباس. فقد نجح عرفات في الفرار مرة اخرى. الرسول من بيت لحم بعد حرب الايام الستة كفت عمليات عرفات ورجاله عن أن تكون مصدر ازعاج هاو وأصبحت فتاكة. ولكن لاكثر من نصف سنة لم تكتشف اسرائيل اين يوجد، الى أن نقل عميل للمخابرات الاسرائيلية، رجل فتح كان يلقب ب ‘غروتيوس' (على اسم المفكر من القرن ال 17، اذي صاغ مبادىء ‘الحرب العادلة') معلومات تفيد بان قيادة عرفات نقلت الى بلدة الكرامة الاردنية، فقرر الجيش الاسرائيلي اجتياح الاردن في محاولة لتصفيته وتصفية نشاطه. غير أنه وكما هو معروف، تعقدت الحملة جدا وقتل 28 من جنود الجيش الاسرائيلي. ومن الكرامة ايضا فر عرفات في الثانية الاخيرة، ‘تبخر كالمدوزا'، يقول ليف ران. ويروي آريه هدار، محقق من المخابرات رافق العملية، بان أسيرا حقق معه ادعى بان ‘عرفات فر في زي أمرأة على دراجة›. رغم بطولة مقاتلي الجيش الاسرائيلي الذين شاركوا في الحملة بعضهم سيصبحون لاحقا شخصيات معروفة للجمهور الاسرائيلي في البعد الاستخباري كانت عملية كرامة فشلا ذريعا ومؤشرا مقلقا على الاهمال الاستخباري ما بعد حرب الايام الستة. فقد نجح عرفات في أن يعرض في العالم العربي العملية كانتصار فلسطيني، وارتفعت مهمة تصفيته في سلم المهمات العاجلة لجهاز الامن. في 1968 تسلم تسفي اهروني (احد العملاء الذين القوا القبض على ايخنر) القيادة على ‘قيساريا' واستأنف المساعي لتصفية عرفات. عمليات فتح استمرت؛ الجبهة الشعبية نجحت في اختطاف طائرة ال عال كانت اقلعت من روما، ومقابل المخطوفين حررت 24 مخربا. الضغط ‘لعمل شيء، لا يهم ماذا' ازداد. ولعل هذا هو السبب الذي سيجعل محاولة التصفية التالية لعرفات احدى القضايا الغريبة في تاريخ الاستخبارات الاسرائيلية. ‘الاهانة اللاذعة التي تلقيناها في العمليات وفي اختطاف الطائرة أحدثت احساسا عسيرا من انعدام الوسيلة'، روى لي في الماضي تسفي أهروني. ‘قلت للشباب: فكروا من خارج العلبة. هاتوا بفكرة كيف نقتله›. وتوفي أهروني قبل نحو شهر ونصف. قبل بضع سنوات اجريت معه مقابلة صحافية. جلسنا فوق جرف رائع الجمال، غير بعيد من أكسومث في جنوب بريطانيا، على مسافة ثلاث ساعات سفر من لندن. منذ أنها منصبه كرئيس قيساريا في 1970، خائب الامل لعدم تعيينه رئيسا للموساد، لم يجد اهروني طريقه في البلاد وفر الى بريطانيا. رويدا رويدا تبنى اراء يسارية متطرفة وبدأ ينتقد اسرائيل بشدة على السياسة التي اتبعتها تجاه الفلسطينيين في المناطق. وبلغت الامور درجة أن اهروني عاد لاستخدام اسمه الالماني الاصلي، هيرمان ارونهايم، وباستثناء مكالمات هاتفية مع بعض الاصدقاء من الماضي ومع عائلته المتبقية خلفه قطع كل اتصال له بالدولة. وعلى الجرف روى لي أهروني قصة محاولة قتل عرفات بعد عملية الكرامة. قصة هاذية لدرجة اني كنت واثقا من أنه لفقها، من نتاج شيخوخته أو كراهيته لاسرائيل. ولكن كل شيء حصل كما وصفه. أمام ‘لجنة الثلاثة' السرية تحدث عالم نفسي من أصل سويدي يدعى بنيامين شليت، شخص مثير للاهتمام ومتجاوز للحدود على نحو حقيقي، خدم في تلك الفترة كعالم نفسي في سلاح البحرية (لاحقا ذاع اسم شليت حين رفع التماسا الى محكمة العدل العليا للاعتراف بابنائه كيهود). شليت اقترح على اللجنة فكرة تستند الى فيلم ‘الرسول من منشوريا'، الذي يصف أسير حرب امريكي يجتاز تنويما مغناطيسيا، وينطلق في مهمة قتل لاغتيال الرئيس الامريكي. وكانت الفكرة تطبيق ذات الطريقة ولكن هذه المرة ضد عرفات. فاقتنعت قيادة الاستخبارات. في نظرة الى الوراء، يبدو غريبا أن اناسا جديين يفكرون على الاطلاق بتعليق عملية على هذه الاهمية والحساسية بالقدرة على تنويم شخص ما مغناطيسيا. من جهة اخرى، فان وكالات استخبارات اكبر بكثير، مثل السي.اي.ايه والكي.جي.بي أجرت في تلك الفترة تجارب مختلفة على التنويم المغناطيسي، ولا عجب أن يكون الاسرائيليين ايضا سحرتهم امكانية برمجة آلة حربية خبيرة. فانطلقت العملية على الدرب. كانت المرحلة الاولى هي العثور على رجل مناسب للقيام بعملية الاغتيال. وعرض شليت المزايا المطلوبة: شاب، من مواليد المناطق، ليس ذكيا على نحو خاص، مريحا للتأثير وتوجد شقوق في تأييده لزعامة عرفات. لم يمر وقت طويل الى أن عثرت المخابرات الاسرائيلية على مرشح من رجال فتح المعتقلين لديها: شاب ابن 28 من بيت لحم قوي البنية وغامق البشرة، اعتقل للاشتباه بانتمائه لخلية صغيرة في فتح. وفي أمر العملية سمي ‘فتحي'. اما من خلف ظهره فقد أسموه ‘العبد›. ‹فتحي' نقل الى بنيامين شليت وفريقه في منشأة اغلقت في صالح العملية قرب تل أبيب. بالتوازي تقرر بان تكون وحدة 504 مسؤولة عن اعطاء الخدمات المرافقة للعملية. غير أن رجال الوحدة ابدوا معارضة شديدة للعملية. رافي سيتون، كاتب كتاب ‘بائع السحلب' وكان في حينه قائد قاعدة القدس: ‘كانت هذه فكرة سخيفة ومجنونة. ولدت في سوريا. كل حياتي عشتها مع العرب وعملت معهم. لا يوجد شيء أكثر غباء من التفكير بانه يمكن تنويم عربي مغناطيسيا. كل الحدث ذكرني بسلسلة كتب الرسوم المتحركة الخيالية، التي نشرت في تلك الفترة في فرنسا. خيال هاذٍ ومنفلت العقال›. ولم يؤخذ بملاحظات الوحدة 504. لثلاثة اشهر اجتاز فتحي عملية غسل دماغ وتنويم مغناطيسي. الرسالة التي نقلت اليه هي أن فتحي على ما يرام. م.ت.ف هي جيدة. عرفات هو السيىء. يجب ابعاده. ويبدو ان فتحي استوعب الرسالة. في المرحلة الثانية ادخل الى غرفة خاصة واعطي مسدسا. في زوايا مختلفة من الغرفة كانت تقفز صور لعرفات وكان فتحي يفترض أن يطلق النار عليها فورا، دون التفكير، بين العينين. التخطيط للعملية كان بسيطا: ‘فتحي يجتاز نهر الاردن وهو يحمل مسدسا، ذخيرة، قليلا من المال الاردني وجهاز اتصال بمسؤوليه في اسرائيل. ويلتحق هناك بعناصر فتح (عندها كانت منظمة صغيرة ونسبيا غير سرية) ويروي بانه فر من سجن اسرائيلي. وكان يفترض كل مساء ان يتلقى ‘بثا تنويميا' من جهاز الاتصال، يسمع فيه المرة تلو الاخرى الكلمات التي تبرمجه لتصفية عرفات. وفي أول فرصة تلوح له يفترض أن يمتشق مسدسه ويطلق النار على رأس قائد فتح. بعد العملية، كما وعد فتحي، سيتصل بمسؤوليه ويأخذ منهم اسم رجل ارتباط محلي يفترض أن يهرب اليه ومن هناك يتم انقاذه عائدا الى اسرائيل. وكانت الحقيقة هي أن احدا لم يكن يقصد انقاذ فتحي او فكر بانه سينجح في أن يفر بعد قتل عرفات. اما فتحي فقال انه مستعد لان ينطلق الى المهمة. اهرون ليف ران انضم عدة مرات الى رئيس شعبة الاستخبارات اهرون يريف، لرؤية التدريبات: ‘فتحي كان يقف هناك في منتصف الغرفة وشليت يتحدث اليه، وكأنه حديث عادي'، يتذكر فيقول . ‘فجأة يضرب شليت على الطاولة فيبدأ فتحي بالركض حول الطاولة كالفراشة، وهكذا عمل بشكل تلقائي استجابة لكل طلب من شليت. بعد ذلك ادخلونا الى الغرفة ورأينا فتحي يوجه مسدسا بحركات اطلاق نار كلما قفزت صورة عرفات من خلف الاثاث. وكان هذا عرضا مثيرا للانطباع جدا. في منتصف كانون الاول كان فتحي مستعدا. ساعة الصفر تقررت لليلة 19 كانون الاول. كانت هذه ليلة عاصفة وماطرة، وكان نهر الاردن هائجا. في شعبة الاستخبارات طلبوا تأجيل العملية، ولكن شليت أصر قائلا: ‘فتحي في وضع من التنويم المغناطيسي المثالي›. مكان العبور الذي تم اختياره كان في نقطة بين أريحا والعوجا. حاشية كاملة رافقت فتحي من القدس الى مكان العبور. وبين افرادها كان بنيامين شليت، رافي سيتون وقائد 504 في تلك الفترة شموئيل غورين. دخل فتحي الى المياه وعلى ظهره حقيبة تحتوي على معداته. وبدأ يسبح. ولكن سرعان ما جرفه التيار القوي. ولحظه نجح فتحي في الامساك باحدى الصخور بينما لا يستطيع العبور الى الطرف الاخر او العودة الى الضفة الغربية. فقفز احد السواقين من وحدة 504، عوفد نتان، رجل قوي وضخم الجسد، الى المياه وفي ظل المخاطرة بحياته ربط نفسه بفتحي بحبل سميك وجذبه اليه ونقله في جهد كبير الى الطرف الاخر. وبعد ذلك عاد بنفسه سباحة الى الطرف الاسرائيلي. بالمناسبة، اداء نتان في ذلك الحدث اثار انطباع كبار رجالات الاستخبارات الذين كانوا هناك فنقل الى وحدة الحراس الشخصيين وصار الحارس الشخصي لرئيسي الوزراء غولدا مائير واسحق رابين على مدى سنوات عديدة. بعد قليل من الساعة الواحدة ليلا، لوح فتحي غارق الملابس بالمياه والمرتجف مودعا مسؤوليه، اشار باصبعيه على شكل مسدس وكأنه يطلق النار على شخص معين بمستوى العينين وانطلق الى طريقه. عند الساعة الخامسة صباحا تلقت وحدة 504 بثا من احد عملائه في الاردن. شاب فلسطيني، كما جاء في البلاغ، رجل فتح من بيت لحم، سلم نفسه هذه الليلة الى شرطة الكرامة. وروى بان الاستخبارات الاسرائيلية حاولت تنويمه مغناطيسيا وارساله لقتل عرفات. بعد ثلاثة ايام من ذلك، افاد مصدر في فتح بان فتحي نقل الى رجال المنظمة وهناك القى خطابا حماسيا عن اعجابه بعرفات بل وهزأ بالاسرائيليين الذين افرجوا عنه من السجن بل وساعدوه على اجتياز النهر ظنا منهم أنهم نجحوا في تنويمه مغناطيسيا. رافي سيتون يروي بانه في اطار جولة اجراها في الاردن في منتصف التسعينيات، بعد التوقيع على اتفاق السلام توجه اليه شخص وقال: ‘انا السجين من فتح الذي حاول ضابط اسرائيلي تنويمي وتكليفي بمهمة'. وشكر فتحي سيتون على أنه نجح هو ورفاقه في انقاذ حياته وانهى اللقاء بكلمات: ‘ان شاء الله يكون السلام ولا حاجة الى التنويم المغناطيسي›. في نظرة الى الوراء قال لي اهروني انه سعيد مرتين: اولا كانت هذه عملية ناجحة جدا وذكية من ناحية استخبارية وعملياتية؛ وثانيا، لم تنجح وهذا حظي كبير. لو التقيت اليوم ابو عمار لطلبت منه المعذرة على أني كدت أتسبب بموته. رائحة قذيفة في 1970 طرد رجال م.ت.ف من الاردن واستقروا في لبنان. عرفات نفسه فر مرة اخرى واستقر هذه المرة في بيروت. مسؤول م.ت.ف الكبير ابو اياد ادعى في كتاب ألن هارت عن عرفات بان اسرائيل حاولت قتل عرفات عدة مرات بعد الانتقال الى بيروت. وروى ان الموساد ‘أمر احد عملائه بالصاق جهاز بث لتحديد الموقع بسيارة عرفات الفولفو. وكانت الفكرة ان توجه طائرات قتالية اسرائيلية نحو الجهاز صاروخا يفجر السيارة›. اما عرفات نفسه فروى: ‘في المرة الاولى التي لاحقتني فيها طائرة اسرائيلية ظننت أن هذا مجرد سوء حظ أن صدفة. ربما. عندها فهمت بانهم لديهم طريقة لملاحقتي في تحركاتي فانا مهندس. عرفت عما يجب البحث عنه وعثرت على الجهاز›. لهذه القصة لا يوجد تأكيد من مصادر اسرائيلية. شخص خدم في سلاح الجو في تلك الفترة ادعى بان لم تكن لدى اسرائيل تكنولوجيا تسمح بمثل هذه العملية. اما الاستخبارات الاسرائيلية فقد استخدم بالفعل في تلك الفترة اساليب تقليدية اكثر، مثل المغلفات والرزم المفخخة. وروى ابو اياد بان عميلا اسرائيليا خدم في الاستخبارات العراقية بعث لعرفات بمغلف متفجر. ‘كانت هذه رسالة رسمية تماما موجهة لعرفات فقط بالشكل العادي للرسائل من هذا النوع... ووصل المغلف في الوقت الذي كان عرفات، وأنا وبعض كبار المسؤولين في جلسة. فتركها عرفات على الطاولة لزمن ما بينما كنا نتحدث. ولم يعط اي تلميح بانه يشك في شيء. وفجأة توقف عن الحديث وقال: ‘خذوا هذه من هنا، هذه قنبلة، يمكنني أن اشم ذلك›. وعندما فتح المغلف في نهاية المطاف أحد رجال الهندسة، وقع انفجار هائل، كان بالتأكيد سيصفي كل من كان في الغرفة. في 1975 وقعت فرصة نادرة لتصفية ليس فقط عرفات، بل كل القيادة الفلسطينية. فقد كانت م.ت.ف ستعقد مؤتمرا واسعا في بيروت، وقبل ساعة من ذلك عقد عرفات جلسة لقيادة المنظمة في مكتب مجاور. طائرات فانتوم من سلاح الجو بدأت تتدرب على قصف المكتب. غير أن في يوم العملية سادت سحب كبيرة فوق الهدف. وفي السلاح قرروا اطلاق الطائرات مع ذلك، على أمل أن في الساعة المحددة بالضبط ستنفتح ‘نافذة' تسمح برؤية كافية. وكانت الاوامر للطيارين هي القصف فقط عندما يرون الهدف. وحانت الساعة المناسبة وفتحت ‘النافذة' والطيارون ‘كبروا رؤوسهم' ونزلوا تحت السحب. من هناك، كما بلغوا، الهدف كان مرئيا. فالقيت القذائف. ولكن هذا كان في ارتفاع منخفض جدا، فسقطت القذائف على سطح المبنى والضرر الوحيد الذي احدثته كان لسائق ابو جهاد، الذي كان يقف في الخارج ويدخن، حيث سحقته قذيفة بوزن طن. اما ‘الرجل ذو الالف روح'، فقد نجا مرة اخرى. أما الاستخبارات فلم تتراجع. ففي العام 1982 وقعت للاستخبارات الاسرائيلية فرصة اخرى لتصفية عرفات في بيروت. وجرى الشروع في تخطيط عملية جديدة، سميت ‘واحد واحد' ولكن محافل سياسية رفيعة المستوى خشيت من اصابة اشخاص غير مشاركين، بدأت تمارس الضغط على رئيس الوزراء مناحيم بيغن، فاستجاب بيغن للضغط وأمر بالغاء العملية. الاسم السري: سمك مالح في تلك السنة، عندما اندلعت حرب لبنان الاولى، كان عرفات أحد اهدافها. فور تقدم القوات نحو بيروت انشأ رئيس الاركان رفائيل ايتان قوة مهمة خاصة تحت اسم ‘سمك مالح'، لمساعدة رجال الموساد في بيروت للعثور على عرفات وقتله. على رأس ‘سمك مالح' كان القائد السابق لسييرت متكال، المقدم عوزي ديان، وفي مرحلة لاحقة انضم ايضا القائد المستقبلي للوحدة موشيه يعلون. في الشهرين التاليين وحتى الجلاء عن بيروت استثمر رجال هذا الفريق جهودا هائلة في العثور على عرفات وقتله. وكان معظم عمل رجال ‘سمك مالح' يتركز على المراقبة السرية للدائرة المقربة من عرفات كي تتمكن في اللحظة المناسبة طائرة من قصف المكان. في احدى المرات وجه اليه زوج من طائرات القصف، هدمتا البيت الذي وجد فيه حتى الاساس، ولكن عرفات خرج منه بحظه قبل بضع دقائق من ذلك. في محاولة اخرى نجحوا في العثور على شقة بمستوى الارض، شارك فيها عرفات في جلسة. رجال الفريق الجوي الاسرائيليين وجهوا القذيفة نحو النافذة ولكن اخطأوها واصابوا مبنى مجاورا. عرفات اصيب بجراح خفيفة، ولكنه خرج على قيد الحياة. وهكذا استمر الحال الى أن تحقق الاتفاق بخروج رجال م.ت.ف من لبنان الى تونس، بينما تسحب اسرائيل قواتها الى خارج بيروت. كان هناك من ادعى بانه لم يكن هناك افضل من يوم انسحاب عرفات من أجل تصفيته، ولكن بيغن خوفا من ردود فعل الامريكيين الذين كانوا مشاركين في الاتفاق رفض إقرار العملية. وهكذا بقي فريق ‘سمك مالح' في بيروت وتمركز، الى جانب رجال المخابرات والموساد، على سطح مبنى شركة النفط اللبنانية المجاورة للميناء. رجل المخابرات، عضو في تلك المجموعة، يستعيد متذكرا: ‘رأينا من بعيد قافلة كبيرة من السيارات. وتوقفت القافلة قرب الرصيف. فجأة رأينا الكوفية الشهيرة على رأس المطلوب رقم واحد، تخرج من احدى السيارات. ذكرنا المسؤول عن القوة بانه يمكن فقط الحلم بالامر الحقيقي ولكننا عدنا في ذاك اليوم مع الصور فقط›. صورة عرفات على بؤرة الاستهداف سلمها بيغن للامريكيين بعد 24 ساعة من التقاطها كي يريهم بان اسرائيل تلتزم بالاتفاقات. في تلك الساعة كان ابو مازن على مسافة مئات الكيلومترات من هناك، دون أن يعلم بانه نجا بحياته مرة اخرى. دم وصور مشينة مع اقامة مقر م.ت.ف في تونس نزل عرفات، عمليا، من قائمة المرشحين للتصفية لدى الاستخبارات الاسرائيلية، واعتبر حتى اندلاع الانتفاضة الثانية زعيما سياسيا لا ينبغي المس به. ويقول احد قادة شعبة الاستخبارات في تلك السنوات ان ‘مكانته في العالم كانت هكذا، بحيث ان الاسرائيليين لا يمكنهم ان يغتالوه دون أن يدفعوا ثمنا دوليا باهظا. فضلا عن اننا اعتقدنا ان ليس في الامر منفعة كبيرة›. في اعقاب اوسلو عاد عرفات الى المناطق واصبح زعيم السلطة الفلسطينية. حتى العام 2001 كان يعتبر شريك حوار شرعي، ولكن غير محبوب وربما أيضا لا يفعل ما يكفي لمكافحة الارهاب، ولكنه يبقى شريكا. وحتى اندلاع الانتفاضة الثانية، في ايلول 2000 لم يغير فورا النهج الاسرائيلي منه. الى أن دخل ارئيل شارون مكتب رئيس الوزراء. شارون، الذي واصل كل السنين كره عرفات، رأى فيه جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل. ابتداء من نهاية 2001 بدأت تعقد في اسرائيل مداولات في مسألة ما العمل مع الرئيس. كان هناك من ايدوا المس به ولكن شارون لم يأذن بذلك خوفا من ردود فعل العالم. ولكن في نيسان 2002، مع استمرار الارهاب، انطلقت اسرائيل الى حملة السور الواقي وابتداء من تشرين الثاني من ذات السنة حاصرت المقاطعة وداخلها عرفات. الولاياتالمتحدة خشيت جدا أن تمس اسرائيل بعرفات. غيورا ايلند، الذي كان في حينه رئيس قسم التخطيط يقول: ‘طالبنا الامريكيون بوعد صريح الا نمس به واعطت اسرائيل مثل هذا الوعد. بالمقابل، خففت الولاياتالمتحدة الضغط الدولي علينا في موضوع طلب تشكيل لجنة تحقيق حول الادعاءات الكاذبة وكأن الجيش الاسرائيلي ارتكب مذبحة في جنين›. واكتفت اسرائيل بمحاولات اقناع العالم بان عرفات لم يعد زعيما شرعيا (القبض على سفينة السلاح كارين ايه ساعد جدا)، وبزعم بعض المحافل، كجزء من الخطوة، فكر في حينه شارون بمحاولة ‘تصفية' ولكن من نوع آخر تماما: توزيع شريط فيديو معين، يوجد في يد اسرائيل. مصدر الشريط في صور خفية التقطتها الاستخبارات الرومانية في نهاية السبعينيات، حين كانت علاقات الحاكم تشاوتشسكو وعرفات جيدة. بعد بضع سنوات فر الى الغرب الجنرال يون ميحاي بطشبا رئيس جهاز الاستخبارات الروماني، وكشف تفاصيل عن تلك الفترة. وكتب بطشبا في كتابه بانه بعد أحد اللقاءات مع تشاوتشسكو ‘سافر عرفات مباشرة الى المضافة وتناول وجبة العشاء'. الرجل المسؤول عن متابعته بلغ الجنرال بان ‘في هذه اللحظة تماما يوجد في غرفة نومه ويمارس الحب مع حارسه›. ولكن في نهاية المطاف قرر شارون التخلي عن فكرة نشر المادة، ولكن الشائعات حوله ساهمت في موجة شائعات اخرى، تدعي ‘الجزيرة' بانها تجحت في تكذيبها، وتقول ان عرفات مات بالايدز. ‹طيروه› في اسرائيل واصلوا كل الوقت التفكير في ما العمل مع عرفات. وانقسم الاراء: كان هناك من اعتقد بانه يجب قتله بشكل علني؛ بعض اعتقد بانه يجب المس به بشكل خفي، بحيث لا يربط بذلك باسرائيل؛ وكان هناك من ادعى بانه يجب طرده؛ وبعض آخر قال انه يجب تركه ‘يتعفن' في المقاطعة. بعد احدى العمليات الشديدة في حزيران 2002 أدار بينهما شارون ورئس الاركان موفاز حديثا كان يفترض أن يبقى سريا. فقد كانا يجلسان قرب مكبر صوت في مناسبة علنية ولم يعرفا بان فريق القناة 2 قد ربط الميكروفون ويصورهما من بعيد: موفاز: ‘يجب تطييره›. شارون: ‘ماذا؟› موفاز: ‘تطييره›. شارون: ‘أعرف›. موفاز: ‘لنستغل الفرصة الان. لن تكون فرصة اخرى. الان اريد أن اتحدث معك›. شارون: ‘عندما يعملون... لا أعرف باي طريقة انتم ستعملون ذلك (يبتسم)، ولكنكم تنومون الجميع›. موفاز: ‘نحن نجلس للتفكير في ذلك. في كل الاحوال سيكون هذا جد اشكالي هناك. هذا ليس بسيطا›. شارون (يهمس): ‘يجب الحذر!›. ما معنى هذا الحوار الغريب؟ الجيش الاسرائيلي أعد خططا احتياطية لكل واحدة من الامكانيات لمعالجة عرفات. قائد سلاح الجو دان حلوتس، الذي أيد امكانية طرد عرفات، عثر على جزيرة صغيرة قرب شواطىء لبنان فكر بنفي الرئيس مع مساعدين وبعض المؤن معهم وبعد ذلك تبليغ العالم اين تركته اسرائيل. وحدة مشاة خاصة تسيطر على المقاطعة وتصل حتى غرفة عرفات. اسرائيل فكرت (ويحتمل ان يكون هذا هو المقصود من كلمة شارون ‘تنويم' وليس تصفية هادئة) ادخال غاز منوم الى هناك قبل الاقتحام. ضابط الصحة الرئيس، العميد حزاي ليفي، عقد سلسلة مداولات اعدت فيها عملية خاصة في اطارها يتأكد اطباء كبار من سلاح الجو الا يقع ضر لعرفات في اطار الاقتحام وحملة النقل جوا الى الجزيرة. في نهاية المطاف حسم شارون ضد الخطة. السبب: خير عرفات محاصر في عدة غرف بائسة في المقاطعة من عرفات يقود حكومة منفى في الخارج. وعندها، فجأة الرجل الذي نجح في التملص من وفاته مرات عديدة كثيرة، اصيب بمرض خفي وتوفي في باريس. جثمانه لم يبرد بعد، والفلسطينيون سارعوا الى اتهام اسرائيل بتسميمه. ناطقون اسرائيليون تكبدوا عناء النفي بكل حزم ان تكون اسرائيل ضالعة في القضية. كان هذا نفيا قاطعا، ليس الى جانبه، مثلما في حالات وفاة غير مفسرة اخرى، غمزة ايضا. من جهة اخرى، وقعت وفاة عرفات دون ريب في توقيت غريب جدا. ففي كتاب ‘شارون' يدعي مقربه اوري دان بانه سأل شارون لماذا لا يطرد عرفات أو يقدمه الى المحاكمة، فأجابه شارون : ‘دعني ارتب الامور حسب طريقتي'. ويلاحظ دان: ‘فجأة قطع حديثنا أمر غير عادي في العلاقات بيننا'. يقول دان انه بعد ذلك بدأ وضع عرفات يتدهور، وينهي بكلمات: ‘ارئيل شارون سيظهر في كتب التاريخ كمن صفى عرفات دون أن يقتله›. السؤال اذا كانت اسرائيل هي التي كانت في نهاية المطاف هي التي صفت عرفات يبقى، بالتالي، مفتوحا. سألت الوزير موشيه بوغي يعلون، رئيس الاركان عند وفاة عرفات واليوم نائب رئيس الوزراء، ممَ مات أبو عمار. ‹هذا لا لبس فيه'، أجاب يعلون. ‘عرفات مات من الحزن›. رونين بيرغمان يديعوت 16/7/2012