تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الثانية لرحيل المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، الذي رحل في يوليوز 2010، وهو الذي سماه بعض الكتّاب والمثقفين ب«الشهيد الحي» بسبب ما تعرض له في بلده مصر من تكفير واضطهاد وإهدار لدمه وتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس. وإذ يرحل مفكرنا الكبير قبل عامين، أي قبل أشهر من اندلاع الثورات العربية التي ابتدأتها تونس، وتمر ذكرى رحيله اليوم في ظل العنف الذي تشهده سوريا، وظروف وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر، فإننا نبدو معنيين بتذكر المفكر الراحل في ذكراه مع محاولة لمقاربة أفكاره مع الواقع العربي المتغير اليوم، والذي طويت وتطوى معه صفحة سوداء من الاستبداد العربي في سوريا وتونس ومصر وغيرها، وتنفتح صفحة جديدة يبدو الاسلاميون المتطرفون عنواناً لها. كيف لنا أن نعيد طرح الأسئلة النهضوية الكبرى التي طرحها أبو زيد وغيره من المفكرين النهضويين العرب، وكيف لنا، نحن العلمانيين، ان نقدم خطابا جديدا نافيا لبقاء أنظمة استبداد كالنظام السوري، نظام ادعى العلمانية وإن زوراً، ويكون في الوقت عينه خطابا متمايزا عن شعبويات وصول الراديكاليين إلى السلطة؟ قبل أيام كنت أشاهد الفيلم الوثائقي «في انتظار أبو زيد» للزميل والصديق محمد علي الأتاسي، وارتأيت ان أقدم عرضاً للفيلم بمناسبة سنوية المفكر المصري الكبير، يقدم رؤية فكرية سياسية لرفض كل من الاستبداد والتطرف الديني الذي يرفع راياته اليوم في البلدان العربية، دون ان يعني ذلك انحيازاً ضد الثورات العربية التي سيشكل إسقاط النظم الحاكمة في البلدان التي اندلعت فيها هذه الثورات، الفاتحة الوحيدة لبدء التفكير الحقيقي على طريق النهضة والتنوير، ذلك التنوير الذي لا بد ان نتكبد عناءه وندفع أثماناً باهظة على طريق اجتراحه. المقدّس والحقيقة ربما لو كان نصر حامد أبو زيد ملحداً لتركه الأزهر والإسلاميون في مصر وشأنه، لكن، أن يأتي مفكر وباحث ليقدم قراءة تجديدية للإسلام تساعد في الخروج من نفق الانحطاط الطويل والمستمر منذ لوحق المعتزلة، معتمداً على ما يسميه محمد أركون «الترضيات الضمنيةش، فذلك أمر يهدد «تابواتهم» الوضعية وتحالفاتهم مع الديكتاتور العربي وغطائه السياسي لخطابهم وفتاواهم. ماذا يقول أبو زيد؟ يقول في إحدى محاضراته المعروضة في الفيلم: «القداسة ليست صفة قارة وجوهرية في الشيء. البقرة مقدسة عند الهندوس مثلا.. المقدّس صفة يمنحها البشر لمكان، لزمان، لمفهوم، للحظة، لبقعة. الكعبة مقدسة عند المسلمين، من الذي جعلها مقدسة يا ترى؟ الإنسان المدنّس هو الذي يصنع المقدس، ولو غيبنا الإنسان لما بقي هنالك مقدس». مع تقدم التاريخ بدءاً من الدعوة المحمدية وحتى اليوم، كانت رقعة المقدس والتابو الديني الغيبي تتوسع على حساب الدنيوي والإنساني، وصار المقدس متجاوزاً النص القرآني ليشمل الوقائع والبشر ومنهم من صار إماماً غير مطعون في تعاليمه وسننه، مثل أبو حنيفة وابن حنبل، وصولا إلى المرجعيات الدينية التكفيرية المنتشرة في بقاع شتى من العالم. يقول نصر حامد أبو زيد: «الحقيقة هي تلك التي يمكن نقدها. أنا أؤمن بما هو حقيقة بالنسبة لي، لكن هنالك المواطن الآخر الذي يعيش معي في الوطن نفسه! هل يجب أن أقتله لأن مرجعيتي هي الحقيقة المطلقة ومرجعيته هي الحقيقة الزائفة؟ تتطور المعرفة بالإصرار على عدم وجود حقيقة مطلقة..». يبدو هذا الكلام منفذاً إلى فكرة الحرب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، الطوائف والمذاهب والاحزاب السياسية وحكام البلد، كل من هؤلاء يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة المرتبطة بفكرة مقدسة و«تابو» يحرك المكبوت والمخزون الفردي أو الجمعي. ذلك هو ما دأبت الانظمة السياسية والدينية على تكريسه بدلا من محاولة تجاوزه والعمل على تفعيل الفكرة الوطنية، وهي الفكرة الوضعية التي لا يكون الدين مسحوباً عليها وغطاء لها. وما القمع الذي يقوده النظام السوري ضد السوريين المنتفضين في كل مكان من سوريا بدواعي الصمود ومواجهة المؤامرة الكونية التي صارت حقيقة مطلقة مرتبطة ببقاء الزمرة الحاكمة منذ أكثر من أربعين عاماً، وما القمع والهجوم على معارض ومهرجانات الفنون في تونس من قبل الأصولية الإسلامية وبغطاء من حركة «النهضة التونسية«» مؤخراً، إلا دلالة بالغة على ما يمكن أن تقود إليه فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة التي تشيطن كل الأفكار المختلفة معها وتلغيها معنوياً وجسدياً. العلمانية والوهابية يتواصل الفيلم ليعرض مقاطع وفصول من سيرة نصر حامد أبو زيد ومحاضراته ولقاءاته مع وسائل الإعلام، إلى أن يأتي دور اللقاء مع قناة «العربية» المعروفة بتوجهها المحابي للنظام السعودي. هنا يبادر محمد علي الأتاسي إلى «تحريض» الدكتور أبو زيد ليقول كلمة ما عن الوهابية باعتبارها عقيدة المملكة، على شاشة قناة «العربية» وفي برنامج «بالعربي» الذي تقدمه الإعلامية جيزيل خوري، وهنا يجيبه أبو زيد بالإيجاب ويكمل: «إذا حذف الحديث عن الوهابية من البرنامج فلن أتعامل مع هذه المحطة بعد اليوم، وسأقوم بفضحها في الجرائد». وفي البرنامج يقول: «لا يمكن للعلمانية الفرنسية أن تظل أسيرة اللحظة التاريخية التي أنتجتها، فهذا يعني أنها عقيدة لا تتطور، تماما مثل الوهابية التي لا تتطور وتعيد إنتاج نفسها وهذا يدخلها في الجمود ثم التآكل». «آن للمثقف العربي أن يتواضع». يقول د. أبو زيد. نعم، المثقف الذي يدّعي امتلاك الحقيقة هو خادم الديكتاتور وهو القدم الأخرى لهذا الديكتاتور. وكم من مثقفين سوريين وعرب يحوزون ما يظنونها يقينيات تنزلق بهم إلى الشعبوية العمياء أو النخبوية المفرطة، فتضيع بذلك قضية حرية بلدانهم وأوطانهم على مذبح غياب الخطاب النهضوي والتنويري العلماني الذي يضع الحرية في مكان لا يطاله آل الأسد وآل سعود وغيرهم من سدنة العبودية وقهر الشعوب. معركتنا مستمرة كشعوب وناشطين ومثقفين نهضويين على طريق الحرية، من أجل التنوير والإصلاح الديني العميق، أي في انتظار تفتح فكر نصر حامد أبو زيد وتحوله إلى واقع. * كاتب سوري