لا يمكن أن لا أعبر عن ألمي لما يحدث لخالد عليوة، ليس دفاعاً عنه ، فأنا أعرف قدرته على القيام بذلك على أحسن وجه، وليس انتصاراً له ظالماً أو مظلوماً ، فهو يعرف أن المبادئ التي تربينا عليها ، والقيم التي نؤمن بها لا تسمح لأي منا أن يتستر على خطايا الآخر مهما كان الأمر موجعا بل ومدمراً. إن ألمي راجع إلى كوني لا أستطيع أن أتحلل من أخوة تربطني بخالد عليوة منذ عقود وبالضبط منذ نهاية السبعينات ، أخوة نضالية جمعتنا في كل المؤتمرات الحزبية حول نصوص حررناها معاً، من بينها البيان العام لآخر مؤتمر حضره المرحوم عبد الرحيم بوعبيد ووثيقة 28 نونبر ، والبيان الشهير حول المنهجية الديمقراطية، أخوة جمعتنا حول مشاريع رائدة دفاعاً عن الحركة التصحيحية النقابية، وعن المشاركة في الانتخابات، وعن إعلام حزبي قوي، وعن فتح صفحة جديدة في الحياة السياسية المغربية، أخوة جمعتنا حول تجربة التناوب، حول الإصلاح والتغيير وتخليق الحياة العامة وتحديث المجتمع ومحاربة الفساد والاستثمار في المعرفة والحرية والعدالة، أخوة تخللتها خلافات ومناطق برود من حين لآخر، ولكنها كانت أخوة نضالية عميقة وصادقة ، جعلتنا نتقاسم كثيراً من الأحلام والمشاعر والقناعات، لذلك أعتذر لكل الذين لا يرون في اعتقال ومحاكمة خالد عليوة سوى قضية فساد مماثلة لقضايا فساد أخرى ( والقضاء سيقول ما إذا كانت كذلك أم لا)، أعتذر لهم إذا شق علي أن أبتر هذه الأخوة من مساري الخاص، ومن تاريخنا المشترك، فالمحنة أياً كانت جوانبها الشخصية، فهي محنتنا جميعاً ، محنة خالد عليوة، ومحنة الاتحاد الاشتراكي حتى وقد غادره المعني بالأمر غداة افتتاح المؤتمر الثامن سنة 2009 ولا أدل على ذلك من أن الرأي العام فيما لو أدين خالد عليوة، فإنه سيتوجه تلقائيا ، أو بإيعاز منظم، إلى إدانة الحزب الذي أنجبه. يحمل خالد عليوة في هذه القضية كل ملامح قدره الخاص، شخص من عائلة رباطية متواضعة، يجتاز عقبات شرطه الاجتماعي، ليصبح بعد الاندفاع الثوري لبداية السبعينات، مثقفاً يسارياً لامعاً، وإطاراً على قدر كبير من الكفاءة ونفاذ البصيرة ، كل هذا سيمنحه ثقة في النفس، وشجاعة في الرأي، تجعله يحتقر الرداءة ، والرضى بالحدود الدنيا، وما أكثر ما أظهرته هذه الأمور بمظهر المغرور، المعتد بنفسه ، وما أكثر ما جلبت عليه خصومات عنيفة داخل الحزب وخارجه، مبنية في أغلبها على سوء تقدير لشخصيته، أو على سوء تقديره للآثار الوخيمة للتعالي في مجتمع يخاف من التألق المستقل عن «القبيلة ». هل كان في عمق هذه الشخصية أيضاً ضعف إنساني لم يتبينه أحد ولا حتى أقرب المقربين إليه؟ سؤال ربما يعيننا على الجواب عنه استحضار لحظات أساسية من مساره السياسي. كان خالد عليوة في قلب تجربة التناوب، لكنه غادر في أول تعديل حكومي عرفته. وكان في قلب تجربة حكومة ادريس جطو، لكنه غادر في أول تعديل حكومي عرفته. خاض تجربة الانتخابات الجماعية سنة 2003 في الدارالبيضاء بمشروع معلن هو استعادة هذا المعقل التاريخي، وبمشروع مضمر سقط بسقوط المشروع الانتخابي، فلو استطاع الحزب آنذاك أن يربح هذه الاستعادة لكان خالد عليوة اليوم على بعد سنوات ضوئية من مستنقع القرض السياحي والعقاري . بعد خروجه من حكومة التناوب سنة 2000 كان مجروحا ومنكسرا ، لكنه سرعان ما انتصر على انكساره عندما انغمر في إدارة جريدة الاتحاد الاشتراكي واعتذر عن قبول منصب سفير في القاهرة، وبعد خروجه من حكومة جطو بعد نجاح لافت في تطبيق الشق البيداغوجي من الإصلاح الجامعي، كان غاضباً ، ومجروحاً وظل كذلك إلى أن تم تعيينه على رأس مؤسسة القرض العقاري والسياحي في ما يشبه إعادة اعتبار للشخص، واعترافا بأن خطورة الأوضاع في هذه المؤسسة تتطلب إسناد مسؤولية إنقاذها لكفاءة وطنية نادرة. وهاهو خالد عليوة يصل بعد زهاء خمس سنوات إلى لحظة الحساب، حساب الإنقاذ الذي قام به متجليا في الديون المستخلصة والمكانة المرموقة التي أصبحت للمؤسسة ، وحساب المجلس الأعلى للحسابات وقد جعل من شخص خالد عليوة بؤرة اختلالات متعددة في المؤسسة التي يفترض أنه أنقذها. خلال شهور ظلت الصحافة تتناوب على لحم خالد عليوة ، وتعرج بالمناسبة على لحم الاتحاد الاشتراكي حتى قبل أن يصل الملف إلى القضاء ، وبعد أن وصل وأثناء الاستماع ، قبل الاعتقال ومنذ الاعتقال إلى اليوم ، لا يمكن أن نعاتب الصحافة على ذلك، فالتشهير أقل خطورة من مؤامرة الصمت. ولا أظن أن مناضلا في الاتحاد الاشتراكي لم يقرأ التقرير مراراً وتكراراً، ولم تقف في حلقه شوكة الشقة التي اشتراها المدير من مؤسسة يديرها، نعم هناك موافقة يقول خالد عليوة بخط يد السيد الباكوري مشفوعة بالزيادة في ثمنها ، وهناك قرار لمجلس الادارة ببيع الشقة للمدير مشفوعة هي الأخرى بزيادة في ثمنها نص القرار على استخلاصها مباشرة من منحة المغادرة، نعم، بهذا المنطق لا يوجد اختلاس في الحكاية وإلا لكان السيد الباكوري وزملاؤه في مجلس الإدارة في الزنازن المجاورة لزنزانة خالد عليوة، ونعم، نعم، البلاد غارقة في شقق من هذا النوع، وفيلات وأراضي وضيعات فوتت بهذا الشكل أو بغيره ، ونظام العطايا لم تتوقف مظالمه منذ عقود ، ولكن ليس نحن ، أبداً ليس نحن ، لا يمكن أن نقبل على أنفسنا أخلاقياً أن نأكل من هذه المائدة، نحن الذين جئنا في رفقة عبد الرحمان اليوسفي، وتحت مظلته الأخلاقية الواسعة، تلك المظلة التي يراد لنا ، بهذه القضية وبدونها ، أن نجرد من فرادتها التاريخية. لا أظن ، أن مناضلا في الاتحاد لا يؤلمه ذلك البذخ الذي يرفل فيه كبار المسؤولين ، من النوع الذي أشار إليه التقرير، بغض النظر عن شرعية ما ينفقون أو عدم شرعيته، وليس بين المواطنين من يمكن أن يتفهم ذلك الإنفاق في الإقامة والضيافة والأسفار في بلد يرزح تحت أثقال الفقر المطلق ، وليس مسوغاً أن نقبل بذلك لأن « الجميع يفعل والجميع يعرف » ، فالطريق إلى الجحيم يبدأ من قبول ما لا يقبل، ولكن ، مرة أخرى، كيف يمكن أن ينسينا هذا الانتقاء أن الذين يأكلون ويشربون بسخاء على حساب الدولة هم أكثر بكثير من أن تسعهم زنازن البلاد؟ سيقول القضاء كلمته في التهم المنسوبة إلى خالد عليوة، هذا هو ما يجب أن يكون، لا أحد فوق القانون، ولا إفلات من العقاب لمن ثبتت إدانته ، يجب أن تذهب هذه المحاكمة إلى أبعد ما يجب أن تذهب إليه ، فتكشف الجرائم كلها إن وجدت ، وتكشف الحقائق كلها ، لأن الإنصاف والحقيقة متلازمان في كل محاكمة عادلة، لا يمكن لهذه المحاكمة أن تكون غير ما يجب أن تكون، أي وسيلة لحماية المال العام والقيم الأخلاقية المرتبطة بالمسؤولية، ولا يمكنها أن تكون سوى لبنة في صرح كبير هو تخليق الحياة العامة ، ذلك أن كل انتقائية في هذا الشأن لن تكون سوى وسيلة إضافية لحماية الفساد ، فقد أثبت التاريخ المغربي المعاصر أنه كلما استعملت محاربة الفساد لأغراض أخرى غير تخليق الحياة العامة، إلا وانتهت حرباً على طواحين الهواء..