في عددها الأخير (يونيو)، نشرت شهرية «زمان» مقالا للمؤرخ الجزائري محمد حربي تمحور حول البحث عن جواب لسؤال محوري هو: «كيف أصبح بن بركة زعيما لمؤتمر القارات الثلاث»؟ في مقاله، يستعرض المؤرخ صفات المهدي التي بوأته هذه المكانة، مذكرا بأن الوطنيين الجزائريين كانت لديهم آراء مسبقة حول بن بركة سعى الكاتب شخصيا إلى إذابتها. ويستعرض حربي في هذا المقال، من وجهة نظره، جذور هذه الآراء، مثلما يرسم خريطة الحركة الثورية العالمية حينذاك، وهي الخريطة التي أدت إلى انتخاب عريس الشهداء على رأس مهندسي المنظمة المناهضة للإمبريالية. كما يخلص إلى أن المهدي كان يتوفر على جميع الصفات اللازمة لتحمل هذه المسؤولية قصد الإعداد للمؤتمر الذي كان انعقاده مبرمجا في هافانا في يناير 1966. لكن خفافيش الظلام العالميين سيقررون اختطافه قبل حلول الموعد المضروب. لماذا برز المهدي بن بركة كأحد أبرز زعماء مؤتمر القارات الثلاث؟ يتجسد جوابي عن هذا السؤال في كون مكانة الوطنيين العرب في رحم العالم الثالث، في ظل المناخ الدولي لستينيات القرن العشرين، كانت تسمح لزعيم عربي بأن يطمح لقيادة وهندسة المنظمة تلك. لكن شرط أن تتوفر فيه المواصفات اللازمة: القدرة على التنظيم، التصميم، معرفة المنافسات والخلافات داخل العالم الثالث وأيضا الدراية العملية، وكلها شروط كان يمتلكها المهدي بن بركة. وقد كان من الضروري أيضا أن يتم سحب الآراء المسبقة الجزائرية إزاءه، وهو ما ساهمت فيه شخصيا بتنسيق مع عبد العزيز زرداني وعبد المالك بن حيبلس. فما نوعية هذه الآراء المسبقة يا ترى؟ لقد كانت نابعة من الخلافات التكتيكية بين زعماء المنظمات الوطنية حول السبل التي يجب سلكها للحصول على الاستقلال من جهة، ومن جهة أخرى من الخلافات التي برزت في سنوات 1954- 1955 حول التقسيم الترابي لبلدان المنطقة. والحال أنه كان يبدو لنا، انطلاقا من هذه القضايا، أن حدود التقارب بين التنظيمات الوطنية في المغرب العربي ذات بعد اجتماعي، وأنه لم يكن بالإمكان تجاوز هذه الحدود عن طريق الاستمرار في لغة العموميات أو الاختباء خلف قدسية الأفكار، أو تجاهل معطيات كل دولة من دول المنطقة. كنا نعتقد أن تصفية الاستعمار راديكاليا، وتغيير البنيات الاجتماعية لصالح الطبقات المستغلة من طرف الإمبريالية وبعض المواطنين الأصليين، وسلك طريق جديد لمعالجة قضايا الحدود الجغرافية، كنا نعتقد أن هذه عوامل ستساعد على تقريب وجهات النظر بين أنصار الحركات الوطنية في المغرب العربي. إن السبيل المتمثل في تصنيف التيارات الثورية انطلاقا من معيار الكفاح المسلح بمفرده (مثلما هو الحال بالنسبة للدكتور الخطيب)، سبيل يمكنه أن يقود الفاعلين إلى الاندماج في لعبة الفئات المحافظة الساعية إلى ضمان استقرار الحكم لصالحها وإلى عرقلة بروز الشعب كفاعل في تشييد مستقبله. والحال أن خصوم وحدة المغرب العربي، أصحاب المواقف المغالية إزاء الخصوصيات الوطنية، كانوا ينتمون لهذه الفئات. لنوقف الآن هذا الاستطراد ولنعد إلى تاريخ العلاقات بين الوطنيين في المغرب العربي. يا وطنيي المغرب العربي... اتحدوا! كان حزب الشعب الجزائري متشددا في مطالبته بالاستقلال الشامل للمغرب العربي. وكان يعتقد، ومعه الأمير عبد الكريم، أن حصول كل بلد على الاستقلال بمفرده مجرد وهم. وحين انخرط في 16 يناير 1948 في «لجنة تحرير المغرب العربي»، إلى جانب الحزب الدستوري الجديد التونسي والاستقلال المغربي، فقد كان يرفض كل مسعى تدريجي للحصول على الاستقلال، مثلما كان ملتزما بخوض كل أشكال النضال، وضمنيا الكفاح المسلح. ومن جانبهما، أعلن حزبا الاستقلال والدستوري الجديد على نفس الالتزامات لكن دون رفض فكرة التفاوض مع فرنسا. وفي الواقع، فإن تشكيل اللجنة كان يوفر لهما فرصة الضغط على فرنسا قصد قبولها للتفاوض. ويبدو أن الحزب الدستوري الجديد كان أكثر تقدما في هذا المجال، إذ بمجرد ما ستنفتح فرنسا عليه سنة 1951، سيشارك في حكومة محمد شنيق مساندا بذلك تجربة لن تؤدي حتى إلى الحكم الذاتي. وإذا كان هذا الوضع قد أدى إلى تقوية العلاقات بين حزب الاستقلال وحزب الشعب الجزائري، فإن الدعم المتبادل بين الحزبين كان قد تجلى في سنة 1945 حين قدم الاستقلال دعما ماليا لحزب الشعب عقب مجازر سطيف وقالمه. وبالفعل، فقد قدم الاستقلال للحزب الجزائري 500 ألف فرنك فرنسي قديم، بينما منحه الثاني بالمقابل آلة لسحب المطبوعات كان في أمس الحاجة لها حينذاك. ونظرا لهذا، فإن زعماء حزب الشعب الجزائري كانوا يشعرون بالقرب عاطفيا أكثر من حزب الاستقلال. وبعد 1945، سيطرح الحزب الجزائري على نفسه سؤال الكفاح المسلح، لكنه لم يكن يريد الانخراط فيه بمفرده، بل يسعى إلى أن يساهم فيه إلى جانبه شركاؤه الوطنيين بالمغرب العربي على أن يؤسس معهم جهازا عسكريا مشتركا. وفي هذا الإطار، ستسافر بعثات من الحزب الجزائري إلى المغرب وتونس. في المغرب، لن يؤدي الحوار مع علال الفاسي إلى أية نتيجة، إذ سيعتبر الزعيم الاستقلالي أن الملك سيستدعي، في الوقت المناسب، الضباط المغاربة في صفوف الجيش الفرنسي وسيحصل على مشاركتهم، وبناء عليه، فمقترح حزب الشعب الجزائري لا يهمه، وهو الموقف الذي سيغيره في 1953، عقب خلع سيدي محمد بن يوسف. لكن الحوار الأول بين علال الفاسي والطيب بولحروف لن يفضي إلى نتيجة، ذلك أن حزب الشعب الجزائري يطالب بضمانة سياسية: أن يستمر الكفاح المسلح إلى حين استقلال البلدين في حالة استجابة فرنسا لمطالب المغاربة. ومن جهته، كان لمصالي الحاج رأي مخالف لرأي قيادة حزبه، إذ كان يرغب في عقد اتفاق على «أساس إصلاحي» مع حزب الاستقلال مع نية تجاوز قيادة الحزب المغربي بعد اندلاع الكفاح المسلح. لقد فشلت المنظمات الوطنية في المغرب العربي، بين 1945 و1954، في إقامة جبهة موحدة، وستظل كل المبادرات التي اتخذت في هذا الأفق بدون نتيجة. لكن التحولات التي سيعرفها المشرق العربي، مع سقوط الملك فاروق وبروز جمال عبد الناصر، ستمنح العقيدة القومية العربية نفسا جديدا. إن هذه العقيدة تستند الآن على «دولة محور»، وذلك وفق أفكار ساطع الحصري، منظر القومية العربية. وإلى حدود 1954، يمكننا الجزم بأن اهتمام القوميين العرب بالمغرب العربي لم يرق إلى مستوى تصريحاتهم، إذ مضى تقدم وطنيو المغرب العربي في نضالهم دون أن يجدوا الدعم الفاعل من الجامعة العربية. لكن مصر ستأخذ المبادرة في 1954 وتنظم اجتماعا، في القاهرة، للمنظمات الوطنية بالمغرب العربي قصد تدارس مسألة الكفاح المسلح. وخلال ذلك الاجتماع، لن يحصل مشروع القرار الذي سيقترحه ممثلوها على مباركة وطنيي المغرب العربي، لن يحصل على موافقة علال الفاسي (المغرب) وصالح بن يوسف (تونس) اللذين سيجعلان مسيرين من الدرجة الثانية يوقعونه. ومن الواجب التذكير أن القادة المصريين الجدد كانوا، حينها، يحملون نظرة بيروقراطية للمسلسلات السياسية وكانت لديهم ريبة كبيرة إزاء فكرة الحزب. لقد ولدت رغبتهم في إنشاء مغرب عربي يكون صورة مستنسخة من مصر، ومعها إرادتهم في الهيمنة، عدة مقاومات هنا وهناك. وكيف لا وقد كانوا يهدفون إلى تأسيس تنظيم مسلح مع إقصاء الحركات الوطنية المؤطرة للجماهير؟ كان بإمكانهم أن يوظفوا الأمير عبد الكريم لتحقيق مبتغاهم هذا، لكنه كان مناصرا لفكرة جيش بقيادة وحيدة وواحدة، وهي الفكرة التي لم تكن تروق القادة المصريين بسبب تشككهم في نجاعتها، واعتقادهم أيضا أنها قد تشكل مصدر عرقلة لتأثيرهم. لقد بسطنا أن حزب الاستقلال والحزب الدستوري الجديد لم يكونا متفقين مع المشروع المصري، ذلك أن التدبير السياسي في المغرب وتونس يدخل ضمن اختصاصاتهما، أما في الجزائر، فالأمر كان مختلفا. لقد منح الانشقاق في صفوف حزب الشعب الجزائري للقادة المصريين مجالا للتدخل، مثلما منح لنشطاء الحزب إمكانية السيطرة على الحركة. ولقد كان بنبلة هو الوسيط بين الطرفين، وعن طريقه سيقوم القادة المصريون بتقييم انشقاق الحزب وتياراته والفاعلين في دواليبه. مصر منبرا لبن بركة حين ولجت جبهة التحرير الوطني الحلبة، عادت فكرة جيش مغاربي لتطفو على السطح. وبما أن المسألة التونسية كانت في طريقها إلى الحل، فالجبهة الموحدة كانت تهم الوطنيين الجزائريين والمغاربة، لكن اللقاءات بينهم ستتم تحت رعاية القادة المصريين الذين سيبوؤون عبد الكريم الخطابي مكانة المحاور وزعيم جيش التحرير المغربي. لكن، وخلف هذه السلطة النابعة من التعيين، كانت مؤشرات المعركة حول السلطة قد ظهرت متجسدة في الصراع حول دور كل من المدن, حيث يسيطر حزب الاستقلال، ودور بعض البوادي التي برز فيها فاعلون جدد مرتبطون بالجزائريين رغم عدم توفرهم على توجه سياسي واضح. وفي سياق الصراع حول السيطرة على المقاومة، فإن بن بركة اشتغل لصالح حزبه، حزب الاستقلال. ولاحقا فقط، بعد تأكيد السلطة الملكية وتوضيح القوى، سيبدو له عمله ذاك من زاوية نظر أخرى ويتساءل حول الاختيارات السياسية التي أقدم عليها في الخمسينيات. ولقد ولدت هذه الاختيارات عدة تخوفات لدى مواطنيه ولدى الوطنيين الجزائريين. كما ولد التقسيم الترابي للدولة المغربية بعض التحفظ لدى القادة الجزائريين أيضا حيال المهدي بن بركة. فخلال حرب التحرير، وقعت مواجهات في منطقة فيكَيكَ بين وحدات من الجيش الجزائري كانت تنقل شحنة أسلحة إلى غرب الجزائر وبين جيش التحرير المغربي. وقد تلت هذه المواجهات مفاوضات قادها من الجانب المغربي المهدي بن بركة والفقيه البصري، تم خلالها عقد اتفاق حول عبور الأسلحة إلى المناطق التي كان يخنقها الضغط العسكري الفرنسي. لكن هذا الاتفاق لن يطبق أبدا، وحسب الجزائري عبد الحفيظ بوصوف، فالمسؤولية تعود إلى بن بركة والبصري. وحين غادر بن بركة المغرب في 1959، فإنه وجد في العالم العربي منبرا لأنشطته، فالدولة المصرية كانت في أوج تطورها وكانت تبحث على حشد القوى والشخصيات المتشبعة بأفكار التقدم والتطور حول مواقفها. لقد كان حينها للشخصيات المميزة ربط علاقات مباشرة مع الرئيس جمال عبد الناصر أو علبة أسراره محمد حسنين هيكل، وتفادي الأجهزة البيروقراطية الخسيسة والمدققة التي كانت المصالح الأمنية نموذجها الصارخ. ومن جهته، كانت لحزب البعث طموحات حول المغرب العربي حيث كانت الجزائر تبدو محورا لقوى التطور. ولقد فهم قادته خصوصية المغرب العربي، هكذا وبموازاة سعيهم إلى التأثير في الحركة الطلابية، فقد كانوا يعطون الأولوية لجبهة التحرير الوطني وللاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي كان محاورهم الأساسي ضمنه هو عبد الرحمان اليوسفي. وسيعرف بن بركة كيف يثمن العلاقات التي تربطه بميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث... ومن جهتها، فجبهة التحرير، ودون أن تواجه مباشرة دول المغرب العربي التي كانت تضغط عليها قصد تعديل مواقفها السياسية، فإنها لم تكن تهمل أية قوة حتى لو فرض عليها ذلك مواجهة هذا الزعيم أو ذاك الحزب. زعيم يستحق الزعامة سيراكم المهدي بن بركة تجاربه في منظمة تضامن الشعوب الأفرو-آسيوية بصفته ممثلا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وكان أهم ممولي هذه المنظمة التي يقع مقرها في القاهرة هم مصر والصين والاتحاد السوفييتي. أما كتابتها العامة، فكان الطبيب والكاتب يوسف السباعي مكلفا بها. وليست منظمة تضامن الشعوب الأفرو-أسيوية هي المنظمة الوحيدة المناهضة للإمبريالية، إذ نجد كذلك منظمة الشعوب الإفريقية المنبثقة عن مؤتمر أكرا والتي آلت سكرتاريتها العامة لشخصية غينية. وفي جميع هذه المنظمات، كان الجزائريون يحظون بثقل وازن، لكنه لم يكن ممكنا أن ينالوا المناصب الأساسية نظرا للأوضاع التي كانت تحد من حرية تنقلهم. أما الأفارقة، مثل نيلسون مانديلا، أميلكار كابرال، موغامبي أو أوليفييه طامبو فكانوا ينتمون إلى دول مستعمرة, كما كانت حرية تنقلهم محدودة مثلهم مثل الجزائريين. وقد ساندوا جميعا بن بركة الذي كان يعمل من أجل خلق صندوق تضامن لا يخضع لا للصين ولا للاتحاد السوفييتي، على أساس أن توزع مداخيله بغض النظر عن الصراع الصيني- السوفييتي. لقد كان المناخ الدولي في صالح المهدي بن بركة. ذلك أن الصينيين لم يكونوا ليقبلوا بمرشح سوفييتي أو قريب من أطروحات موسكو. كما كانت رياح هذه الظرفية أيضا لا تجري في صالح مرشح بلد يتمتع بالمسؤولية الأولى في إحدى كبريات المنظمات. علما أن الهيئات العربية المنقسمة حول الكثير من القضايا، كانت متفقة جميعها على ترشيح يمكن من التعريف بالقضية الفلسطينية في إفريقيا وبحشد الدعم الشعبي لها، وهو الدور الذي كان يستحيل على أي شخص آخر القيام به بنفس لباقة وعدم غلو المهدي بن بركة. هل يجب أن نستنتج مما سبق أن انتخاب المهدي بن بركة لتهيئ مؤتمر القارات الثلاث شكل تتويجا لمسار مناضل؟ أجل، لقد كان مناضلو وثوار العالم الثالث يتماهون معه. لكن الرجل الذي أقر زعماء الدول بقدراته كان نظيرا لهم، إذ سبق له أن ترأس المجلس الوطني الاستشاري في المغرب.