الأمكنة في مخيلتي مدارية ، والأمكنة التي أمامي دائرية، قصر العدالة ، دار الأمن ، بيت المال، مقهى القوس ، الفندق الباشوي ، المطعم النبيل . أما شارع النخيل فقد آثر أن يتوسط وحده هذه الأمكنة . في وقت متأخر من مساء ذلك اليوم الخريفي، تم إنزال الرجال الغلاظ،بدون زي خاص ، تسللوا إلى الشارع من بواباته المتفرقة، هدموا هدوء الطقس ، وشرعوا في وضع اللمسات الأخيرة لعرض مسرحية سيزيف . كان انتظاري قد طال قبل أن تظهر ، لتعتذر لي بلطفها المعهود عن تأخرها ، متسائلة عن نوع طلباتي، قلت: لا بأس : قهوة سوداء ، انصرفت باتجاه العاملات المحتشدات في الزاوية البعيدة تاركة صدى صوتها المرتفع في أذني . فوجئت النسوة الجالسات على الكراسي الخشبية المنتشرة وسط الشارع، من هذه الترتيبات المفاجئة والغربية، يعرفن مسبقا أن أصحاب الحال يخطرونهن ، قبل البدء في عملية التمشيط الأفقي . طلب منهن مغادرة المكان بهدوء تام، انصرفن حتى إشعار أخر . عادت وهي تحمل قهوة سوداء، واستمرت للتو في دردشتها مع صديقاتها: بعد ليلة ساهرة : تصوري معي، أن تقومي بجميع الأعمال في وقت واحد، سرباية ، منظفة، مغنية ورقاصة وكل ما تتصورين .... قبل صياح الديك . ضحكن بصوت مرتفع : كل شيء ممكن المهم هو الكرامة .... النساء اللاتي تركن المكان بالأمس ، لسن كاللاتي أشاهدهن الآن ، جمال و إثارة وألم، كما لو أنهن طردن من أبراج بابل ، أبحرن على متن قوارب بأشرعة واهنة ، غرقن ، و نجت القوارب من الموت. تم وضع علامات تمنع الوقوف والتوقف على جنبات شارع النخيل . قالت إحداهن : هل هناك فيشطة غدا ؟ أجابت الأخرى : لا أعتقد : لا منصة ولا مكبرات صوت ولا شيء يوحي بذلك... كان الصباح ممطرا ، مطرا خفيفا، سعف النخيل مبلل، بدأت أفواج من الوافدين ، تتقاطر على الدائرة الضيقة، لتملأ الكراسي الخشبية / الحديدية، داخل الأسوار ، قبو ضيق ، مكتظ بذوي البدل السوداء و الخضراء، وهم يتبادلون أطراف الجدل و المنطق ، كل يحمل أوراقه ، ذات اليمين و ذات اليسار ، الأوراق الحقيقية ، كانت محضرة بعناية ، تنتظر النطق بالأمر . ويذهب كل إلى حال سبيله ، والشارع العام يعود لهدوئه التام ، و تعود صاحبات الكراسي آمنة لمقاعدها ، في انتظار المسلسل المدبلج . بيانات الشجب على صفحات الجدران ، رسائل التضامن على موجات الشواطئ تتطاير ، و التجمعات الخطابية داخل الحانات ، حماس و تضحيات ...... وسط الأحياء الشاسعة ، داخل الدور المرصعة بالمرمر المعتق و الحدائق المعلقة ، يتربص القناصة من بعيد ، يتوقعون مراكز أنجالهم و أصهارهم المفترضون ، كلهم قادمون من بلاد الغربة محملين بحب الغالي و النفيس من الوطن .... أعوام اجتمعت فيها كل الألوان و الرموز ، واختفت، استعملت فيها كل وسائل الحرث والحصاد المتاحة ، أجراس الورود الزاهية أينعت ، وقطفت في لحظة مبهمة ، لتحول تاريخ شارع النخيل إلى معرض للات والعزى ، والتقاط الصور الرقمية ، عدت لأجدني جامدا في مكاني، أتبادل الحديث مع صديقي العائد من رحلة خريفية ، يحكى لي عن جاذبية الاستقبال العابرة في بلاد الياسمين ، لم يجد بدا من أن يجر حقائبه مسرعا ، عائدا من حيث أتى ، باحثا عن أزهار الربيع الحقيقية داخل لوحة الفنانة الفطرية . أتأمل الأمكنة و أكسسواراتها التي أصبحت رخامية وأنيقة ، لكن الوجوه شاحبة والأجساد مترهلة ، تنتظر ، و أسراب شباب الأعراب في غدو ورواح مستمرين ، في انتظار إشارة ما . الدوريات الليلية والنهارية تقوم بمهامها المعهودة ، تستخلص الغرامة اليومية ، وفق ما تنص عليه القوانين القديمة والحديثة ، حراس مواقف السيارات وحراس البارات ومكتري البيوتات و الفيلايات وأصحاب محلات المشروبات ، يؤدون ما على ذمتهم ، وحين ينفلت الأمان فجأة ، يصبح العرف هو الضامن للحقوق والواجبات، وبعدها تتم المصالحة من أجل المصلحة الدنيا . كأسان من فضلك : ما زال الوقت أمامنا يقول صديقي العائد . عبرت الشارع عرضا ، بدا لي خاليا ، كأنه في لحظة ذكرى- كما أعيشها في مخيلتي- فارغا من الوجوه التي اعتدت رؤيتها صباح مساء، و التي تملأ الكراسي الرخامية ، قصدت مقهى ماري ، وجدت الأصدقاء على عادتهم يتسامرون ، أما صديقي « الالكتروني» فآثار التعب بادية على محياه ، حدس بفضولي لمعرفة ما جرى ، بدأ يحكي : - بعد منتصف ليلة البارحة « اعتقلت « من منزلي ، وبدا يضحك، لأقضي ما تبقى من الليل مع أزيد من 150 رجل وامرأة !! - لوحدك ؟؟؟ - نعم ، في مكتب السيد كبير الحرس ، قمت بتحويل هؤلاء المعلومين و المجهولات و المجهولين و المعلومات إلى أرقام ورموز ، حتى يسهل الأمر على الساهرين على شؤوننا الداخلية و الخارجية ، تتم عملية الضبط السريعة و الإرسال السري ، قبل مطلع الفجر ، وفي مكتب الآنسة المحافظة ، تم جمع أدلة الاتهام : بطاقات التعبئة و الائتمان ، رسائل العشق و التحريض ، وسائل الحماية من التماس العضوي و النفسي ، آلات ناعمة و أخرى حادة . و من كثرة تشابه الألقاب و النعوت ، اختلط على صاحبي الأمر في التدوين و الجمع ، بين الأدلة و أصحابها ، و بين المذكر والمؤنث ، لما تقتضيه ضرورة المقام ، و رفع صك الاتهام ، لذا أحدث خانة ثالثة ، لتسجيل الحالات الملتبسة ، وفق المصطلحات التي يوفرها قاموس اللغة : مذكر/ مخنث ، خنثى / مذكر ، مؤنث / مخنث ...... ، و المذكرة سترفع أخيرا و عددها النهائي مزدوج . على مرأى ومسمع من الناس الواقفين بشارع النخيل ، السيدتان المحترمتان تقودان الموكب مثنى مثنى، وبشكل اعتباطي ، دونما أخذ حالة الالتباس الأولى ، الكل يعيش حالة من السريالية الوضيعة ، أجلت كل القضايا للنظر في هذه النازلة : بين الدليل و المرجع ، و بين التهمة و الإثبات ، و بين الداعي و المدعي و بين السيبة و الجاه ، بين كل هذا و ذاك : سيدتان اجتماعيتان ، تسهلان مبدأ الولوج في الممرات الخاصة ، تحاولان حل بعض المشاكل الاجتماعية القاهرة ، والحد من الأمراض النفسية المزمنة ، تحاولان جاهدتين ، جمع شمل المريدات بمشايخ الدوائر السفلى : قال الشيخ : من فعل بنا هذا ؟ قالت المريدة : إنه كبير الحرس الجديد. لم يجمع بينهم الحي ولا الطفولة ولا الدراسة ، ولا نظرة العشق الأول ، ولا تمارين الحياة ، والآن يدا في يد ، بنظرات حائرة يدخلان القاعة : متهم ومتهمة ، يوقعان عقد الحياة ، باستماتة ساخرة بعيدا عن دواعي النازلة.