الكاتب هو الذي يحدد ما يثبت، وهو الذي يحدد ما يزول، يقرر ما اذا كان سيُخلد أحدهم، أو سيقفز عليه كأنه لم يكن يوما، وابراهيم الكوني قرر ألا ينطق للقذافي اسما، ويخلد في المقابل اسم سالم جُحا، وعبره رفاقه «فرسان الأحلام»، الذي عرفه في اهدائه ب: «الفارس الذي اختزَل في شخصه(رمزا) فرسان الجيل الذين بعثوا من عدمٍ أحلام الجيلِ القتيلة»، في روايته الأحدث التي تتحدث عن «الربيع العربي»، والتي تمثل سابقة روائية لروائي من حجم صاحب روايات رباعية «الخسوف» وثلاثية «أرباب الأوطان» وثنائية «المجوس» .. وتُقدم الرواية الجديدة بالمجان، هدية عدد يونيو من مجلة دبي الثقافية. ويقر بطل الرواية نفسه في مدخلها بأنه فأر على شاكلة وصف الزعيم المقتول، لكنه فأر مختلف عن المعتوه خبيء المصاريف؛ «بالأمس كنت فأر كتب، واليوم أنا فأر جدران. أيليق بفأر الكتب أن يتنازل عن كبريائه ليتقمص بدن فأر جدران؟ ولكن ألا يبرر هذا التحول الفرق بين الأمس اذا قورن بواقع اليوم؟ أمس كنت فيه ميت القلب فلم أجد مفرا من قتل الوقت بقرض القراطيس في مقابل اليوم الذي استيقظ فيه الأمل لأجد نفسي أحفر لي طريقا في الحيطان سعيا لبلوغ بنيان الضمان، فما أبعد الشبه بين الليلة والبارحة، بين الأمس واليوم، لأن الفرق بين هذين النقيضين كالفرق بين اليأس والأمل برغم انحباسي في الشق، وبرغم فوهات البنادق التي تتصيدني، وبرغم الجوع الذي يفترسني، وهذا أيضا مفارقة، مفارقة أن يكون الانسان سعيدا في الحبوس، في وقت يلعن فيه يوم أمس كان فيه طليقاً. ولكن هل التجوال بضمير مثقل حرية؟ هل الحرية مجرد سعي في الأرض كالبهيمة؟ كلا، كلا، الدبيب في الأرض ليس حرية، ولكنه.. ولكنه تنقل، ومعاندة الحصار في شقوق الجدران حرية ويا لها من حرية، حرية ما دام الأمل في الوصول إلى بنيان الضمان حيث يحتشد القناصة، وتنتصب فواهات الحمم التي شلت حياة المدينة...» ويحكي بطل الرواية عن حياته قبل الأحداث، ناسبا نفسه للكتب اذ يقول: «غرقت في الكتب منذ ذلك اليوم، غرقت ولا أجد حرجا في الاعتراف بأنّ لها يرجع الفضل في مداواتي من الدّاء العضال الّذي أراه ينهش الجميع، بل إليها يرجع الفضل في بقائي على قيد الحياة «، قرأ التاريخ بكل أنواعه، وانتسب لشعبته في الجامعة، وعانى البطالة لمدة، ثم وظفوه لتدريس التاريخ، ليس «التاريخ» بمعناه العام، لكن «التاريخ المعاصر»، التاريخ كما تفتقت عنه عبقرية حفنة من ضباط الجيش، ما أنتج جيلا « لم يؤمن يوما بشيء، جيل ولد ميّتا لأنّه فتح عينيه على دنيا ميّتة، دنيا جرداء برغم أنّها تتغنّى آناء اللّيل وأطراف النّهار، بفردوس ذي لون أحضر، وكلّما زاد اليقين بالمستقبل الأخضر ازدادت الأرض تصحّرا والحياة في البلاد شحّا وشحوبا.» لم يخلصه من ورطته إلا الأمل في الحرية التي تفجر بغثة: «كلنا على دين البوعزيزي، كل ما هنالك أن البوعزيزي عرف كيف يحفر فاستظهر، ونحن في حفرنا تعثرنا فتأخرنا». ليستكمل دوره بوعزيزي الشرق: «لم نكن سوى جثامين تدب على قدمين. جثث على قيد الحياة، تماماً كما فعل زيو الذي حمل جثمانه على ظهره، وفجر به بوابة المعسكر الحديدية ليستعيد حياته الضائعة في العدم، يتنازل عن حياة مزيفة لينال بهذا العمل الحياة الحقيقية في الأبد. دفع حياة مزيفة مقابل حياة الحلم. دفع حياة البهيمة لا طمعاً في أن يحيا، ولكن لكي يحيي. وعندما أحيا فقط استرد الحياة المفقودة. فلماذا لا نحذو حذوه كما فعل البوعزيزي قبله؟ لماذا لا نتخلى عن موت يبدو حياة، وننحاز إلى حياة تبدو موتاً، كما فعل بوعزيزي الغرب، وكما فعل زيو الشرق؟ ألم يجسّد كل منهما سيرة التضحية المثيلة لتضحية المسيح في سبيل الحقيقة؟ هل أبالغ إذا قلت بصوت عالٍ إنهما مسيح هذا الزمان؟ فبدم هذين بدأ الفتح الحقيقي، بدأ الفتح المبين.» فكانت مهمته أن يحفر ممرا تحت المنازل، بهدف الوصول لبناية «الضمان»؛ «اختراق صفوف البيوت الطويلة للنفاذ للنور، لاختزال الزمان واختزال المسافات، لبلوغ الهدف الوحيد الذي رأينا فيه خلاصاً، انتظرناه طويلا، طويلا: بناية الضمان حيث يرابط الأشباح. لكن حفر الخندق نحو الخلاص لم يكن ببساطة الحفر، فقبله تورط في مبنى مجاور، شبه محتجز لا هو محرر ولا هو مسجون، أهلكه فيه الجوع والعطش، وقهره صوت أكثر صوت فتاة تغتصب في مكان اتخذته الميليشيات مقر افتراغ شهواتهم، تلك الميليشيات التي كان هو مختبأ منها، ولم يستطع سبيلا لدفع الجريمة برصاصة وحيدة كانت قد بقيت في سلاح، وهم عصبة؛ «ولولت الفتاة بأعلى صوت وهي تحاول الإفلات من جلاديها، فكانت صرخاتها إدانة لغياب العدالة: لغياب عدالة السماء. لأن صراخ الأبرياء حكمُ إدانة موجه ضد عدالة السماء. لا حول الضحايا دوما حكمٌ غيابي في حق السماء. ولكن.. ولكن ها هي السماء تضع في يدي سلاحا أيضا. سلاحا محشوا بعيار ناري أيضا. طلقة واحدة حقا، ولكنها كفيلة بتمزيق بدن الوحش الذي ينهش جسد الضحية جاثما فوق رأسي بالضبط، متخذا من المتاريس الإسمنتية مخدعا لافتراع الأبكار كأنه أحد اقطاعيي القرون الوسطى يمارس حق الليلة الأولى! كنتُ مغمورا بالعرق عندما سددتُ أذني بأصابعي كما فعلت عندما تناهب الأوغاد امرأة الطابق الثاني.. ولكن نواح العذراء اخترق السمع ليرن في الوجدان. الوجدان؟ لا أدري ما أسميه، ولكنه غاص عميقا حدا حتى صار جزءا مني. سرى في الذم وظل يصرخ في أنا. كأني أنا من يصرخ، كأني أنا من يستصرخ وليس العذراء المطروحة فوق رأسي.» في أثناء الحفر لاقته متاعب من نوع مختلف، اذ اعتبر الكثير من أصحاب البيوت أن حفره تحت جدران بيوتهم هو في الحقيقة حفر في أجسادهم؛ «هذا ليس بيتا، هذا جسد انسان. هذا جسدي أنا، أم أنكم تظنون أني ابتنيت هذا الجسد بالمال؟ كلا ! أنتم تخطئون. لقد بنيت هذا المكان بشيء آخر..، ثم لما أعجزته العبارة فامتنع, زفر أنفاسا سخية.. ثم انسحب بهدوء ليعود بعد دقيقة حاملا فأسا يدوية من الطراز القديم. قدمها لي قائلا إنه حفر أساسات هذا البيت بهذه الفأس. نكس لحظات ثم أعلن قبل أن يتركنا ويصعد الدرج إلى أعلى: «احفروا بهذه الفأس، واعلموا أنكم بهدم الجدران قد قتلتم إنسانا». وتركزت في نهاية الرواية أحداث غنية ومتسارعة، وعلى قدر كبير من الفجاءة، منها استعادة صاحب رواية «يا قابيل أين أخوك هابيل»، قصة هابيل وقابيل، ليكررها بشكل مختلف لحظة النجاح في الحفر والخروج من الخندق، اذ جعل بطل روايته وجها لوجه مع أخوه-ضابط افترض أنه انقلب على القذافي -؛ «كنت في تلك اللحظة قد استطعت أن أقف على قدمي موجها فوهة سلاحي إلى رأس ميسور، إلى رأس الأخ الذي خذلني عندما خدعوني فقالوا إنه انشق كما انشق جل ضباط الجيش، ولكن..حثني سليم هذه المرة بأعلى صوت «أطلق !» في حين تداعي النسيان لينبثق في الذاكرة الوحي: الوفاء. في اللحظة التي خنقني فيها الغثيان وقررت أن أضغط الزناد لأثأر، كان ميسور قد سبقني، قد قرأ أفكاري فسبقني. فجر بسلاحه الرهيب بدني لأطير في الهواء قبل أن أسقط إلى جوار رفيقي. كانت ساقي قد تحولت أشلاء تماما كما تحولت كف سليم أشلاء منذ قليل، بدأت أفقد الذاكرة، ولكني لم أغب قبل أن أشهد انفجار الموقع الذي استجار به ميسور، ناله أحد الرفاق بقذيفة فاختفى كما خيل لي.. بعد قليل تلقيت من المجهول وصية مكتوبة بالدم، محفورة في جسد هوى إلى جواري. وجدتُ نفسي في هجعتي محشورا بين جسدين: جسد سليم من جانب، وجسد ميسور من جانب، في اللحظة التي بدأت فيها الغيبوبة تقرع بوابة الذاكرة.» الرواية ممتلئة بتأملات فيلسوف الصحراء عن الحب والحرب والكتاب والحياة والحرية، وحتى لو تكرر في تصريحاته الاعلامية أن «لم يستفد من الربيع العربي (إلى الساعة) إلا أسفل السفلة»، إلا أن روايته لم تكن نادمة عليه، ولا فيها لحن من رغبة في مسالمة أعداء الحرية: ف»السلام بلا حرية، سلام قتيل» و»الحرب سلم بحضور الحلم، ولكن السلم حرب بغياب الحلم». الخاتمة مشوبة بالحذر، فحتى لو انهزم المجنون، إلا أن «التاريخ المعاصر» والجهالة التي كان قد أذاعها في الناس مازالت هنا، ما جعل بطل الرواية يعود إلى كتبه وتدريسه «أعادني سليم إلى قبوي المكتظ بالكتب هم كل عزائي في عزلتي. فما الذي يتبقى لأمثالي غير لملمة الجراح والوضوء بالنزيف قبل الذهاب إلى الصلاة في حرم أشاهد من وراء حجابه المسرحية الجديدة بأبطال جدد يُعانون من الورم الخبيث القديم نفسه آملا ألا يُمهلمهم طويلا كما أمهل سلفهم الأخير.. أما أمثالي الذين لا ينتظرون من تكرار السيرة شيئا باستثناء أن يقفوا موقف المشاهد فيكفيهم الحلم في وقفتهم موقف المشاهد، لأن من خاض الحرب وحده يدري كم هي فتنة، أفيون سهل الإدمان، ولكن الاقلاع عنه غالي الثمن.».