سيدي رئيس المحكمة الموقَّران: سأبسط أمام أنظار محكمتكم الموقرة كل حكايتي، قبل أن يبت واسع نظركم في كل هذه التهمة الثقيلة التي أتابع بها، والتي هي في حقيقة الأمر من نَسْجِ سوءِ الفهم. نعم، إن تهمة غسل الأموال تهمة ثقيلة بكل تأكيد.. لكن لنبدأ الحكاية من البداية. سيدي رئيس المحكمة الموقران: أنا عبد الله، الفقير إلى الله، مجرد مواطن يمتهن بيع النعناع، أتجول وعربتي اليدوية في الأحياء شبه الميتة، صائحاً «النعناع.. النعناع» لا أرى الفقر عيباً، وأحمد الله كثيراً على رزقي الحلال، وأحمده أكثر على وفرة النعناع هذه الأيام، الذي يظل موجوداً طوال السنة، وإثنى عشر شهراً على إثنى عشر شهراً، عكس زمان والدي، رحمه الله، إذ كان النعناع لا يتوفر سوى في الأصياف، أما في مواسم الشتاء، فكانت الشيبة هي ما يُؤنس أباريق الشاي، لذلك فرزقي دائم، ولا ينقطع، بفضل الله، وبفضل وفرة النعناع. لي سروال واحد، وقميص واحد في كل الفصول، ولي زوجة وسبعة أبناء، إثنان منهم مجازان عاطلان، مازلت أنفق عليهما كباقي إخوتهما، ولا أخشى، بعد الله، لا برداً ولا صهداً، وأحب عملي لدرجة أتمنى معها ألا تغرب الشمس أبداً، وأسعى جاهداً أن أشبه المواطنين، وأن يشبه أبنائي المواطنين، وأن نسرق حقنا من الضحك ومن الفرح كأيها الناس. لا أعرف الحقد، ولا أكره سوى الكراهية، لذلك تُسعدني خدمة الآخرين، ويُسعدني أكثر حين أحظى باحترام المحترمين، أؤدي واجبات الكراء بالسنتيم، قبل انصرام الشهر، وواجبات الماء والكهرباء في اليوم الأول لوصول الفواتير، ويُجافي النوم عيوني إذا ظل في رقبتي ديْنٌ. سيدي رئيس المحكمة الموقران: رغم أني حفيد الشهيد، فإني ما طلبت يوماً امتيازاً.. ولن أطلب يوماً امتيازاً، ذلك أن جدِّي حمُّو دْ بن داوود، رحمه الله استُشهد في قشلة الشُيَّاب في حرب الريف، وغنَّت عن وفاته الشيخات قرب المحيط مقطعاً في إحدى عيطاتهن: «حمُّو دْ بَنْ دَاوُودْ. مَاتْ يْجَاهَدْ»، رغم عدم وجود هاتف نقال ولا إيميل آنذاك، وترك والدي رحمهما الله معاً يتيماً لم يكمل سنته الثالثة بعد، وقد جاهد وناضل هو الآخر، حتى صار فقيهاً لامعاً، قبل أن يصير مهاجراً في فرنسا، وفي باريس بالضبط، لمدة 18 سنة، خاط فيها العباءات والسراويل قندريسية للمغاربة وللجزائريين، وعلّم أبناؤهم القرآن، وتلاه في جنائزهم وأفراحهم، ولم يشتغل مع فرنسا التي اغتالت والده، سوى حوالي 3 سنوات متفرقة، وفق متطلبات «الشوماج» كي يظل محافظاً على تعويضاته. وقد تعرض والدي للسرقة مراراً وتكرارا، من فرط طيبوبته وتسامحه، وعلمني جملة لازمة لا تفارق لسانه رحمه الله: «اللِّي مْشَاتْ هيَّ دْيالي» مومناً موقناً أنه سيجدها عند الله. سيدي رئيس المحكمة الموقران: أعلم أن الكشف عن انتمائي إلى الريف، سيصعب من مرافعتي أمام محكمتكم الموقرة، وقد يربطني مباشرة بغسل الأموال، لكن يجب أن تقرأ ما بين ثنايا ما حكيته لمحكمتكم الموقرة، وتدرك أني ابن أبي وجدي، قد تُسرق روحي ولا أسرِقُ، ولا ولن أكون من اللصوص، أو مثل أولئك الذين قرأت عنهم في جرائد الأسبوع الماضي. سيدي الموقر. أنا لا أشتري الجرائد إلاّ بالكيلو، وبعد تقادم أعدادها، كي أكمس فيها قبضات النعناع، لكن فضولي يدفعني إلى قراءة بعض الفضائح فيها، لذلك قرأت البارحة، في إحدى جرائد الأسبوع الفائت، عن شخصية كبيرة ووازنة جداً، أنفقت من المال العام 77 مليون سنتيم على أثاث منزله، في الوقت الذي لا يجد أمثالي ثلث المبلغ طوال حياتهم وكدهم، لاقتناء قبر الحياة! سيدي الموقر: هل أزيدك؟! لقد قرأت أيضاً ما هو أروع من تلك التي حكيت لك.. هل تتخيل سيدي أن أحدهم اشترى 7 أقلام (إياك أن تقرأها أفلام) ب 57 ألف درهم.. من المال العام طبعا! آ العاجاب هذا!! ثم هل تعلم سيدي كم في هذه الأقلام السبعة من ربطات النعناع.. قد لا تصدق الرقم!! سيدي، ولكي أعود بك إلى صلب الموضوع، أقول لك ما علمني والدي، رحمة الله عليه إياه، فأنا حينما أقرأ مثل هذه الأخبار، لا ينتابني حقد، وأقول في نفسي: «اللِّي مشات هي ديالي» لذلك، فحينما أقف أمام محكمتكم الموقرة اليوم بتهمة غسل الأموال، فإن في الأمر بعض الحقيقة، والكثير من سوء الفهم. نعم، لقد أخبرتك سيدي أني أملك قميصاً واحداً لكل الفصول، ويحدث أن أغسله ليلاً، كي يصبح ناشفاً، وحدث أن تركت في جيبه ورقة نقدية من فئة 20 درهماً، وغسلتهما معاً، سهواً ونسياناً، وهي الورقة التي فركتها حتى انمحت كل معالمها. ولما علمت زوجتي بهذه الحكاية حكتها لجارتنا، التي حكتها لجارتها حتى وصل الخبر إلى علم زوجة المقدم التي حكتها لزوجة الشيخ، الذي حكاها للقائد، قبل أن أجد نفسي معتقلاً وأجد نفسي أمامك بنفس القميص. سيدي رئيس المحكمة الموقران: أنا لا أوقر محكمتكم الموقرة لأنها موقرة، ولكني أوقرها لأني أوقر حتى الأطفال الصغار، لذلك ليس لدي ما أخفيه.. فليست لدي مقاهٍ، ولا نوادٍ ليلية ولا وكالات أسفار، ولا وكالات كراء السيارات.. ولكم واسع النظر. ملحوظ: الموقران تعني توقير الرئيس و المحكمة معا، والعبارة مستعارة من جملة للفنان بزيز يتحدث فيها عن «مسرح محمد الخامس رحمهما الله»، أي المسرح ومحمد الخامس معا.