كَثُر الحديث بانطلاق الربيع العربي في عديد من الأقطار العربية والإسلامية عن الفساد والإفساد، وإذا كانت مضامين مفهوم الفساد تختلف، تبعا للثقافات والأديان والقيم، من بلد إلى بلد، وبالتالي من شعب إلى شعب، ومن فئة اجتماعية إلى أخرى، بل قد تختلف من شخص إلى آخر، على اعتبار أن ما يراه ذا فسادا لا يراه ذاك كذلك، فإن الإفساد، وإن اتفق الناس حول مفهومه، وحول النية المبيتة في إرادته وتوخيه، فإنهم، لا مَحالة، يختلفون حول كيفية وسبل محاربته تبعا للأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية. الفساد تَمثّلٌ، كل واحد منا وكيف يتمثله، وذلك حسب ثقافته وعلمه ومعرفته ومحيطه وموقعه الاجتماعي، فنظرة الحاكم إلى الفساد غير نظرة المحكوم، ونظرة الاسلامي غير نظرة العلماني، ونظرة المثقف غير نظرة التقني والسياسي، ونظرة رجل الإكليروس غير نظرة العامة.. كل النواميس والأديان تُدين الفساد والإفساد، وكل الثقافات تستنكرهما. لكن الشعوب والناس يختلفون حول مضامين المفهومين، فما يراه المغاربة فسادا وإفسادا، خاصة في الجوانب الأخلاقية والقيمية، لا يراه غيرهم كذلك. صحيح أن هناك بعض ما تتفق حوله البشرية جمعاء على أنه فساد، لكن هناك أشياء كثيرة تختلف حولها المواقف.. وهذا يعني أن المعيارية في هذه الظواهر الاجتماعية لا يمكنها أن تشكل مرجعية حقيقية لكل تأمل موضوعي. لا أود أن أخوض في النقاشات القيمية ذات المرجعيات الأخلاقية والدينية لمناقشة الفساد، لأن ذلك يتجاوزني.. ولكن أود أن أقف عند شيء أعتبره خطيرا على مجتمعنا..ذلك أن الفساد صار ثقافة مستشرية، يلتمس لها أكثر من عذر، والإفساد «ضربة معلم» ودراية تتوارثها بعض الفئات في جل المؤسسات والهيئات، خاصة العمومية منها. وأخطر من كل ذلك أن تصل العدوى إلى الهيئات السياسية في هذا البلد الأمين، حيث تجد أحزابا، وبوقاحة وصلافة لا يرف لها جفن، تدافع عن بعض منخرطيها وبعض ممثليها في الشأن العام، ولو ثبت في حقهم بالبرهان والدليل القضائي، التورط في ملفات فساد مهما صغرت أو كبرت ملتمسين لهم العذر والسبيل. أما تزكية الفاسدين والمفسدين للتمثيل في الشأن العام فإن ذلك من الواضحات المفضحات أمام الملأ. بل إن كثيرا من العامة أنفسهم، حين يتم وضع اليد على ملف مفضوح في الفساد، تجدهم أول من يلتمس التبرير لصاحبه بادعاء أنه ليس إلا حوتا أصغر، وأن الأولى البدء من الحوت الأكبر.. فيتم التعاطف إعلاميا واجتماعيا معه لمجرد أنه مفسد واحد من أخطبوط أكبر، قد يكون قدمه هذا الأخطبوط قربانا. كما أن من المؤسسات العمومية وهيئات الدولة الكبرى، بما فيها حتى التي أنيط بها إرساء هيبة الدولة وإحقاق الحقوق وإقرار القانون والأخلاق العامة، ما يتستر بشكل مزمن على عمليات يومية كبرى للفساد والإفساد، حتى إنه لم يعد يخفى على أحد أن هناك وزارات يتواصى الناس، خاصة المقبلين منهم على التوظيف، بالانتساب إليها لما تدره من أرباح ومداخيل من عمليات الفساد المستشرية فيها.. وأعجب ما في الأمر أن هناك إجماعا على إدانة الفساد، وما اجتمعت أمتي على ضلال، لكن جل أمتي يأتيه بشكل أو بآخر، غير أنهم يختلفون في درجة ونوعية هذا الإتيان. كما يختلفون، وهذا هو الأهم، في درجة إشهاره، ذلك أن منا من يأتي بعض أشكال المنكرات، غير أنه لا يشتهر بها ولا يُشهَّر به، بفضل مؤسساته أو مظلاته ولوبياته. لكن منا أيضا من يُشْهرون فسادَهم وإفسادهم عن سبق إصرار وترصد، بل ويتفاخرون بذلك، حيث يعتبرونه دليلا على السطوة والجبروت والجاه، وهم في ذلك يتوخون ترهيب الناس .. حتى إن الفساد صار في مجتمعنا مرتبطا بالسلطة والجاه كمظهر من مظاهر الحظوة والسطوة الممخزنة. مخطيء اذن من يعتقد أن محاربة الفساد تتأتى بمجرد مطالبة «المخزن» أو الحكومة أو القضاء الزجري، خاصة في ظرفية مثل التي نحن فيها اليوم، بالقضاء عليه. إن الأمر مردود عليه لشأنين: أولا: لا يكفي مطالبة الأجهزة الفاسدة التي تبلور الفساد وتنشر ثقافة الإفساد بمحاربة الفساد، لأن العملية ستتحول حتما إلى عمليات تصفية حسابات فيما بين الأشخاص وفيما بين الهيئات وفيما بين الفئات.. مما ينذر بتطور المسار في اتجاهات مضادة، ويكفي أن نذكر هنا بحملة التطهير الشهيرة.. ثانيا: إن اللجوء إلى المفسدين والأجهزة الفاسدة من أجل محاربة الفساد من شأنه أن يقوي من شوكة هؤلاء المفسدين ويعلي شأن أجهزتهم، حيث نجدنا نستبدل الفساد بفساد أقوى وأعتى، إذ يستقوي الفاسد على المفسدين وهو ما يحبط المجتمع ويجعله يستسلم للأمر الواقع ويعتبر الفساد قدرا مقدورا وبالتالي يتحول الفساد إلى ثقافة تُجيز الفساد وتُنتج الإفساد وهو أخطر ما تعاني منه المجتمعات.. لكن الجميل في هذا النوع من الظواهر الاجتماعية هو أنها تنتج حتما على المدى المتوسط أو البعيد، مضادات حيوية تنتج قوى مقاومة من الداخل، تعمل على الاستئصال غير الرحيم للداء، مما يدني المجتمع من الحمى والهذيان قد يأتي على الأخضر واليابس وهنا خطورة انشغال الناس بالفساد المرتبط بالسلطة والجاه. ومن هذا الباب يمكن القول أن حركات المطالبة بإسقاط الفساد والإفساد لا تعدو أن تكون رد فعل لهذا التكالب على الناس والاستخفاف بهم، مما سيحولها حتما مع توالي الانتكاسات والأزمات إلى زخم شعبي يأتي على الأسباب والمسببات لكن بخسائر أكبر.. من خلال كل ذلك يتضح أن محاربة الفساد تتطلب الحرب الطويلة الأمد من أجل اجتثاث كل أسبابه ومنابعه، وهو ليس بالأمر الهين، إذ لا يمكن أن تقوم به هيئة، أو وزارة أو مؤسسة بعينها بل يجب أن ينخرط كل المجتمع في هذا الورش المجتمعي بامتياز.. لكن من الصعب أن ينخرط المجتمع في ذلك ما لم يستدخل ويصل إلى أن الأمر يهم الجميع من أعلى هرمه إلى أسفله، وبالتالي فإن حربا ثقافية هي التي يجب أن تندلع من المدرسة إلى البيت إلى مؤسسات الدولة إلى كل المؤسسات المجتمعية... وهو ما يقتضي مراجعة جذرية لمختلف النظم الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية المؤطرة لثقافة المجتمع ولنظمه التربوية.. لأن الفساد لا يقف عند حدود الرشوة واستغلال النفوذ والمحسوبية.. بل يمتد من الغش في الامتحانات إلى اقتصاد الريع.. محاربة الفساد إذن تتجاوز مجرد اجراءات قانونية وزجرية، على أهميتها، إلى ما هو أكبر من كل ذلك، إنها تمتد إلى النظام التربوي، فالنظام الاقتصادي، ومنه إلى النظام السياسي.. وبالتالي سد كل منابع ومنافذ استغلال الفساد والإفساد.. محاربة الفساد تمتد إلى إقرار مراجعة مجتمعية شاملة لكل نظمه من أساسها، وهو ما يقتضي ثورة ثقافية يقودها الشارع عن وعي ودراية وسبق إصرار، حتى تتوفر الإرادة عند الجميع من أعلى الهرم المجتمعي إلى قواعده الشعبية.. قد يبدو الأمر سهلا قولا، لكن الفعل ورد الفعل يتطلب أجيالا من الاستمرارية على الدرب حتى لا تقع نكوصات جديدة تأتي على الأخضر قبل اليابس.. وقد يبدو هذا الكلام أيضا نوعا من التيئيس من جديد، ونوع من الاعتراف بقدرية الفساد والإفساد، لكن مهما كان لابد أن تندلع الحرب عليه، ولتبدأ من حيثما كانت، لكن المهم ان يتلقفها الجميع، مهما احترق بها، وليأخذ الجذوة إلى من يليه..وذلك بإعطاء الكلمة للمحاسبة الشعبية وبانخراط الكل في هذا الورش المجتمعي بامتياز.. وبكلمة واحدة لا مناص من الانخراط الفعلي والصادق في دمقرطة المجال المغربي، فهل المحافظون الجدد قادرون على ذلك؟ هل هم قادرون على الانخراط الفعلي في الدمقرطة؟..