قابع تحت نخلة شبه ميتة تقاسمه حمل لافتة كتب عليها «معتقل سابق بغوانتنامو» .. وقفة احتجاجية صامتة قلما يحصل مثلها في ساحة محمد الخامس بآسفي أمام مقر الولاية . شاب بسحنة سمراء وجسد نحيل يقف الساعات الطوال منذ أسبوعين، لا تصدر عنه أدنى نأمة .. ولا يكل من إشاحة البصر طويلا في البناية الرسمية التي تضم مكتب الوالي .. هو ذا .. رضوان الشقوري المحتجز السابق بمعتقلات أفغانستان و غوانتنامو الكوبية الأمريكية .. حكايته المريرة تصلح كسيناريو لفيلم وطني.. "مغربي في غوانتنامو" .. «الاتحاد الاشتراكي» التقت هذا العائد من سجون غوانتنامو.. وسافرت بين ثنايا ذاكرته، لاسترجاع بعض من حقائق وأحداث مرت على رأس هذا الشاب .. من الشرق الأوسط .. إلى الشرق الأدنى .. وإلى تخوم أمريكا اللاتينية, حيث سجن غوانتنامو الذي دخل التاريخ الحديث.. كواحد من المعتقلات التي بدأت «سرية» وانتهت بفضيحة في بلاد حقوق الإنسان والحريات .. بلاد العم سام.. { أهلا بك .. في مكتب الجريدة.. كيف الحال، تظهر لأيام وأنت تنتبذ مكانا تحت جذع نخلة أمام مقر الولاية، لا ترفع صوتا ولا تتحدث إلى أحد .. ما الخطب ..؟ اخترت الوقوف بصمت لأن الكلام استنفد حول ملفي مع المسؤولين .. الذين جالستهم غير ما مرة، والهدف الوحيد هو تمكيني من مصدر رزق ثابت أتعيش منه، أنا القادم من غياهب سجن غوانتانامو ومعتقلات أفغانستان ظلما وعدوانا. { تتحدث عن غوانتانامووأفغانستان .. من أنت ومن تكون ، وماهي قصة حياتك بالتحديد..؟ شخص بسيط للغاية ، ولدت في مدينة آسفي بداية السبعينات ، وعشت حياة طبيعية للغاية ، تلقيت التعليم الأولي كباقي أقراني في مدرسة أحمد عاشور وبقية تعليمي في مؤسسة ابن خلدون التاريخية ، جزء كبير من طفولتي قضيته في هذه الأمكنة بالمدينةالجديدة .. البلاطو حاليا، وعمارات "لابيتا" . كبقية الناس ضاق الحال و قررت اللحاق بأخي الذي كان يشتغل على التجارة بين تركيا وسوريا هو الذي غادرنا نهاية الثمانينيات .. ذلك باختصار نهج سيرتي الشخصية .. { إذن مكثت مع أخيك في الشرق الأوسط تتاجر في الأثواب وفساتين الفرح كما هو وارد في بعض كتاباتك الشخصية ..؟ كنت أتنقل بين اسطنبول وأنطاكيا ودمشق بسلاسة متناهية إلى أن قر الرأي على اللحاق بأخي يونس في أفغانستان .. { هل حصل لديك تحول فكري من بين مرتكزاته تفعيل مفهوم "الجهاد " والالتحاق ب "الطالبان" هناك في كابول..؟ لا لا بالمطلق ، أنا لم أكن متطرفا في يوم من الأيام، ولا دخل إلى رأسي أي اقتناع بالجهاد ، الذي حدث بالضبط أن أخي يونس المعتقل حاليا بسجن غوانتانامو فضل الاستقرار هناك وتسيير تجارته مع تجار أفغان تعرف عليهم في السنوات التي قضاها هناك بين سوريا وتركيا وأفغانستان . كان علي أن ألتحق معه لتونيسه أولا هو المتزوج من جزائرية ، والبحث عن لقمة عيش جديدة ، وذلك ما تأتى لي حيث اشتغلت في متجر للمواد الغذائية قضيت فيه أكثر من ثلاثة أشهر، واكترينا منزلا في كابول .. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان . { ماذا وقع .. أنت تحكي الآن تحديدا قبل سقوط "التوأم" في مانهاتن الأمريكية ؟ وقعت أحداث 11 شتنبر التي هزت العالم ، وكبقية العرب عندما اشتد القصف على كابول انسحبنا هروبا إلى جلال أباد المدينة التي تبعد عن العاصمة الأفغانية ما يقارب 150 كيلومترا .. النساء والأطفال والشيوخ ، لقد كان القصف كثيفا لا يميز أي شيء ، كل ما يتحرك يضرب من السماء، أما عندما دخل الأمريكيون فقد تحولت أرض أفغانستان إلى كرة لهب مشتعلة ليل نهار . { لكن تقول أنك مجرد تاجر ولا علاقة لك بتنظيم القاعدة .. ومع ذلك وجدت نفسك في قبضة المخابرات الأفغانية وبعدها المخابرات العسكرية الأمريكية ..؟ برب السماء ، لا علاقة لي لا بقاعدة ولا بواقفة ..! كل ما هنالك أن الأحداث سارت يومها في اتجاه محاصرة الطالبان والقاعدة وبن لادن واتهامهم بالتفجير في بلاد العم سام ، بمعنى أن كل من يشتم فيه رائحة العرب أو الإسلام يقتاد إلى التحقيق والحبس والقتل حتى .. حكايتي تشبه ذلك الشخص الذي وجد في المكان الخطأ في الزمن الخطأ. { في السياق ذاته ..كيف اعتقلت .. وكيف بدأت الحكاية التي ستنسج تفاصيلها بعد ذلك في غوانتانامو ؟ الطائرات الأمريكية كانت تضرب معظم الجغرافيا الأفغانية ، وتواصل القصف حتى في جلال أباد والقرى المجاورة لها ، لذلك فكرنا في الهرب إلى الحدود الباكستانية طلبا للأمان، وبينما نحن نحث الخطو تجاه مقصدنا ، وبين أدغال مكسوة بالثلج في جبال صعبة التضاريس، حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم أعتقد أنه سيقع قرب عيني . لقد سقط صاروخ بالقرب منا، أحسست بحرارته اللافحة وسط برودة طقس قاتلة، تصور أننا كنا نتحرك وسط تلك الجبال بحذر وبصعوبة أيضا ، لما أصبت بشظايا ذلك الصاروخ ، وقعت مغمى علي وتركني أخي يونس في حفرة بين الحياة والموت .. إنها لحظة صعبة عندما أتذكرها يقشعر بدني . { من المؤكد أنه سيتم "أسرك" من طرف القوات الأفغانية التي كانت تمسح يومها مسالك الهروب وانسحاب الطالبان كما تتبع الجميع ذلك ..؟ أخذني الأفغان في اليوم الموالي عند شخص يسمى "حجي زمان" وهو زعيم قبيلة داخل جلال أباد يشتغل لحساب شاه مسعود ، وهناك عولجت من نزف دموي طويل ، ووضعوا خشبة وربطوا يدي المكسورة والمدلاة بطريقة "الجبيرة" عندنا في المغرب ، ليبدأ التحقيق مباشرة . { كم مكثت عندهم قبل أن يسلموك للمارينز الأمريكي ..؟ وهل تعرضت للتعذيب..؟ سألوني عن أصلي وفصلي وماذا كنت أفعل ، الحقيقة أنني لم أكذب عليهم وهذا ما سيساعدني في حل قضيتي بعدها، بقيت يومين عند الأفغان وأخذني الأمريكيون الذي كان تحقيقهم مركزا على سؤالين .. هل أنت من القاعدة ولأية جنسية تنتمي .. جوابي كان دائما مغربيا وقلت لهم إن أخي كان معي وفقدت أثره. بقينا في السجن بعد هذا التحقيق الأولي لشهر وما ينيف في جلال أباد، لكن التحقيق الجدي المصحوب بالتعذيب هو الذي كان في كابول وبأياد أفغانية وتحت إشراف أمريكي .. تفتيش يومي ، النوم على الأرض ، التجويع ، صحن مرق ورغيف لأكثر من 15 نفرا من جنسيات مختلفة، وشربة ماء (جغمة) من إبريق ، أما الخروج إلى المرحاض والعودة منه كان عليك أن تمر بين صفين من الجنود يضربونك كيفما اتفق، بالهراوات والكرباج والأرجل واللكمات وأعقاب البنادق ، حتى أننا أصبحنا نتمنى قضاء حاجتنا في ملابسنا بدل المرور وسط هؤلاء ، لأن المرحاض هي الأخرى كنا نجد فيها بقايا دم وجثت بشرية مسجاة هناك . لقد كنا في معتقل سري . { وكيف وصلتم أو سلمتم بالأحرى إلى الأمريكيين ..؟ زارنا الصليب الدولي، بعدها نقلنا إلى قاعدة عسكرية أمريكية "باكرام" وهناك بدأ تحقيق من نوع آخر ، كنا نأتي دفعات وبالمئات بل الآلاف .. فباكرام كانت قدرا لابد منه . { هل عذبكم الجيش الأمريكي كما الأفغان ..؟ لا كان تعذيبهم "أنيقا" ، الأصوات الصاخبة والأضواء الكاشفة القوية ومكبرات الصوت ليلا، ومغافلة الجنود للمعتقلين والدخول عليهم جماعة وفي أي وقت .. وما على الجميع إلا أن يكون متيقظا ويجثو على ركبتيه ، كان البرد قارسا يقطع الأوصال ، ومكنونا من بطانية خفيفة لا تكاد تدفئ حتى نفسها في عز موسم الثلج . تصور الجوع والبرد ويد مكسورة ودماميل وجروح وتعذيب نفسي ..إنه الجحيم بعينه . { كم استمر هذا الوضع .. ومتى ستعرفون أنكم ذاهبون إلى غوانتانامو الشهير ..؟ شهران في القاعدة الأمريكية وبعدها رحلونا على قندهار عبر دفعات ، وهناك التقينا بكافة المعتقلين ، وكانت فرحتي لا توصف، عندما وجدت أخي يونس وتأكدت أنه ما يزال حيا ، كنا ننظر لبعضنا البعض ولا نستطيع التحدث أو النبس ببنت شفة ، كان أخي يحمل الرقم 197 ، صور لن تغادر ذاكرتي للأبد .. كان الأمر صعبا من الناحية النفسية والعاطفية . إلى أن تقرر تسفيرنا إلى سجن غوانتانامو . { طيلة هذا المسار الملتهب .. ألم تحس بالخوف .. ألم تساورك مشاعر مختلطة موسومة بالرعب ..فما تحكيه صعب ..؟ لقد كانوا يضغطون علي من أجل القول بأن أخي ينتمي إلى القاعدة وتوريطه ، مقابل الإفراج عني ، لكنني بقيت متشبثا بما أعرف ، وطلبت منهم تعميق التحقيق وسيعثرون على براءتي وصدق ما صرحت به لهم .. بعدها جاء وقت الذهاب إلى السجن الأمريكي على الجزيرة الكوبية، أركبونا طائرة حربية وناولونا أقراصا منومة ، وربطونا ربطة الظهر للظهر ووضعوا على رؤوسنا أكياسا حتى لا نرى شيئا .. وزادوا في تكبيلنا وتصفيدنا مع أرضية الطائرة، لقد وصلنا منهكين لا نستطيع الوقوف بعد سفر طويل في السماء . حملونا في عَبَّارَة وهي سفينة كبيرة خاصة بالنقل .. ألبسونا اللباس البرتقالي .. ووزعنا على عنابر يضم كل واحد منها أكثر من أربعين معتقلا . { إذن أصبحتم رسميا في ضيافة الجيش الأمريكي..؟ نعم ما إن استقر بنا الحال هناك ، حتى بدأ التعذيب وإهانتنا ، ومن يحتج يدخل إلى الانفرادي مباشرة ، وفي زنزانة الانفرادي يطلقون حرارة عالية ويتبعونها ببرودة سيبيرية .. مرض الكثير من المعتقلين ، وجن البعض الآخر، وفقد ثلاثة منا حياتهم جراء السجن القاسي والتعذيب الممنهج ، وبقينا هكذا لمدة ثلاث سنوات .. إلى أن قدمت المخابرات المغربية التي حققت مع المغاربة .. وتأكدت من براءتنا ، وصدق روايتي أنا شخصيا. وبعدها رحلت على المغرب سنة 2004 بعد أن حكم القضاء العسكري الأمريكي ببراءتي من تهمة الانتماء إلى القاعدة والتورط في الاعتداء على مصالح أمريكية . وبعدها حصلت على براءتي النهائية من محكمة الاستئناف بسلا .. { من استقبلك لدى العودة إلى أرض الوطن.. وكم كنتم من المغاربة هناك.. من عاد ومن بقي منكم..؟ كنا 15 مغربيا، ثلاثة من جنسية بريطانية وبلجيكية واسبانية لكن ذوي أصول مغربية، و10 مغاربة تمت تبرئتهم من بينهم هذا العبد الضعيف. فيما يزال أخي يونس وعبد اللطيف ناصر يوجدان قيد الاعتقال إلى حدود اليوم في نفس السجن الذي قالت أمريكا أنه تم إغلاقه ، بمجرد صعود أوباما إلى الرئاسة ولدي رسائل تصلني من أخي تؤكد ما أقول. { في بعض الرسائل التي أطلعنا عليها والمرسلة من طرف أخيك يونس .. يقول فيها أنه ما يزال " في كوكب الوز" ويقصد به غوانتنامو، وانه أصبح " طبوزي " بفعل الأكل الوفير وكل ما لذ وطاب .. لكن أقوى ما كتبه، هو أنه قال بأن دولا فقيرة مثل السودان .. آوت العائدين من المعتقل المذكور ، وأكرمتهم وأدمجتهم أيضا .. نعم هذه حقيقة .. السودان مثلا آوى أبناءه الذين عادوا واقتنع بمظلوميتهم وبراءتهم التي أثبتها الغرب قبلنا . { في كلمة أخيرة .. ماذا تطلب..؟ العلاج أولا .. لقد راسلت المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووزير العدل.. انتظر رد المسؤولين، جمجمتي مكسورة وشبه مثقوبة ويدي لا تقوى على الحركة فأحرى العمل الشاق .. أنتظر الإنصاف في بلدي .. والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.