كان المشهد في ملعب فيلتينس أرينا مقتبسا من حكايات ألف ليلة وليلة، فقد تحولت رقعة الملعب بعشبها الأخضر إلى خشبة مسرح، وبمجرد انتهاء عرض فني بديع استمتع به الجمهور على مدار عامين، كان أقل ما يمكن القيام به للاحتفاء وتكريم بطل العرض هو الوقوف إجلالا وتعظيما له مع التصفيق بحرارة، والهتاف بنبرة حماسية بلغة ليست لغتهم.. فقد أجبر الألمان على التحدث بالإسبانية للتعبير عن مكنون صدورهم، لتهتز أركان الملعب بكلمات..«شكرا أيها السيد.. شكرا راؤول غونزاليس». فالألمان شعب معروف عنه التفاني في العمل وتقدير كل نقطة عرق على جبين كل مجتهد، ولولا لذلك لما لقبوا ب «الماكينات»، لكنهم بخلاف ذلك كشفوا عن جانبهم العاطفي في ليلة بكى فيها أهل جلسنكيرشن لوداع أسطورة حية عاشت بينهم لأمد ليس بالبعيد، ولكنها تركت بصمة لن تمحوها السنين. ولم يقو راؤول نفسه على كتم مشاعره، فراحت الدموع تنهمر من عينيه في حضرة أبنائه الأربع وطفلته الصغيرة، التي احتضنها على المستطيل الأخضر لمعقل نادي شالكه في حفل وداع مهيب يليق به، بعد أن اكتست مدرجات الملعب باللون الأزرق وبقمصان الماتادور الإسباني، التي يزين ظهرها الرقم 7 الذي حجب للأبد من قمصان النادي الملكي، تكريما ل «روح البلانكو»، الذي أصبح «روح شالكه» الآن. ولعل لدموع راؤول سبب آخر غير مهابة التكريم من جماهير شالكه، التي عشقته بمجرد أن شد الرحال إليهم، فربما صعبت عليه نفسه لأن بني وطنه لم يمنحوه ولو جزء ضئيل من نفس التكريم، بل كان الوداع فاترا وباردا من أهل مدريد بعد 16 عاما قضاها في بناء المجد والتاريخ بقلعة الريال. قررت إدارة شالكه حجب الرقم 7 من قمصان الفريق مدى الحياة تكريما لراؤول، وخصصت له تكريما خاصا في مباراته الأخيرة أمام هيرتا برلين في دوري البوندسليغا، وفيها لم يخذل الجماهير، فسجل هدفا ضمن رباعية بيضاء فاز بها فريقه ليقودهم إلى الملحق المؤهل لدوري أبطال أوروبا في الموسم المقبل، كهدية أحسن بها ختام مسيرته المشرفة مع الألمان. ولكن، في المقابل، كيف كرمت إدارة ريال مدريد فتاها الذهبي؟ لقد ضحت به ككبش فداء إرضاء لرغبة المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو في أول مواسمه مع الميرينغي، كما أن قميصه رقم 7 انتزعه البرتغالي الآخر كريستيانو رونالدو، ورحل راؤول غير مأسوفا عليه. وربما لم يعرف تاريخ الساحرة المستديرة لاعبا تعرض للظلم مثلما تعرض راؤول، ولكن لأن لكل مجتهد نصيب، فقد أنصفته جماهير شالكه أخيرا في أيامه الأخيرة بالملاعب، في حين أنه يحلم بالإنصاف في منتخب بلاده بأن يتم اختياره للقائمة المشاركة في يورو 2012، وهو حق شرعي يستحقه عن جدارة. فالفتى الذهبي للميرينغي وروح «البلانكو» اختارته جماهير إسبانيا كأفضل لاعب في تاريخ البلاد في استفتاء مشترك بين صحيفتي (ماركا) و(آس) ذائعتي الصيت، رغم أنه لم يكن متواجدا بأكبر إنجازين حققهما منتخب «الماتادور»، فقد غاب عن التتويج بيورو 2008 وبمونديال 2010. فقد كان مورينيو صريحا مع راؤول لدى توليه مهمة تدريب الريال، فاعترف للقائد والهداف التاريخي للعملاق المدريدي بأن فرصه في اللعب ستكون نادرة، ليصبح المستقبل غامضا أمام اللاعب، الذي وجد نفسه أمام مفترق طرق، لكنه كان جريئا بقبول الانتقال إلى البوندسليغا واللعب مع شالكه، رغم العروض التي قدمت له من فرق أكثر صيتا وأغنى مالا. وكان راؤول هدافا تاريخيا للمنتخب الإسباني، قبل أن يستبعد من صفوفه بفعل فاعل ليسطع اسم ديفيد فيا، حتى أنه كان جديرا في وقت من الأوقات بالفوز بالكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم، لكنها ذهبت للإنكليزي مايكل أوين موسم 2001 - 2002، فيما حل هو في المركز الثاني. كما حرمه لويس أراغونيس من المشاركة في يورو 2008 ليغيب عن مراسم رفع كأس البطولة، ويتنازل للحارس إيكر كاسياس عن هذا الشرف، وذلك بسبب خلاف شخصي معه، كما فضل عليه فيسنتي ديل بوسكي كلا من فرناندو توريس وديفيد فيا وفرناندو يورينتي ونيغريدو وغويزا ليستبعده من نيل إنجاز أكبر في كأس العالم بجنوب إفريقيا، وذلك رغم أحقيته بالانضمام لمنتخب «لاروخا» في كلا المرتين. ولكن راؤول لم يخسر أبدا صورته المشرفة أمام جماهيره، فكان دوما اللاعب الخلوق المهذب، والقائد الملهم والعقل المفكر، ولم يظهر متمردا أو ثائرا حين استبعد من المنتخب أو حين استغنى ناديه الملكي عن خدماته رغم العمر المديد الذي قضاه بين جنباته، أو حتى عندما كان يستحق لقب اللاعب الأفضل في العالم، فهو يؤمن بأن حب الجمهور هو الهدية الكبرى ولا يضاهيها أي متعة أخرى. هداف الريال التاريخي وأكثر من لعب بقميصه في مباريات رسمية على مدار 16 موسما، شق طريق المجد مع شالكه منذ أول موسم له معه، فحقق معه بطولتي الكأس والسوبر المحلي وتحول إلى معشوق الجماهير الأول بأهدافه الغزيرة ومهاراته المبهرة، رغم اقترابه من سن 35، وبلغ معه نصف نهائي دوري الأبطال في النسخة الماضية، وربع نهائي الدوري الأوروبي في النسخة الحالية، وخرج فريقه مرفوع الرأس في المرتين أمام مانشستر يونايتد وأتلتيك بلباو. ولكن رغم نجاحاته الرائعة مع شالكه، إلا أن باب عودته إلى منتخب بلاده لا يزال موصدا، حتى مع إشادة ديل بوسكي بأدائه مع الفريق الأزرق وطرحه إمكانية عودته للمنتخب.