فقدت فرنسا يوم 11 أبريل رجلا وطنياً ومقاوماً كبيراً وإنساناً استثنائياً بعد حياة مذهلة, عن سن تناهز 97 سنة. إنه المناضل والمقاوم »رايمون أوبراك«. هذا الرحيل يأتي تقريباً بعد خمس سنوات على رحيل زوجته لوسي أوبراك التي لعبت دوراً رئيسياً في مقاومة الاحتلال الألماني لفرنسا، دور دونته باعتزاز العديد من الكتب والشهادات والأفلام السينمائية... فضائل التفاني والشجاعة والمقاومة ودعم الشعوب المستعمرة في كفاحها من أجل الاستقلال ودعم القضية الفلسطينية والمساعدة من أجل نمو وتطور العديد من البلدان، جعلت هذا الثنائي الأسطوري يطبع ببصماته العديد من الأجيال في فرنسا وفي العديد من دول العالم. وقد خصصت فرنسا بكل وسائل إعلامها ورجالاتها جنازة وطنية للراحل ريمون أوبراك، وهو ما يؤكد مكانة الرجل وشخصيته. فقد كان منذ 1940 أحد كبار قادة المقاومة ضد الاحتلال الألماني لفرنسا، وكان رفيقاً لجان مولان وشارل دوليستران، ورفيقا للعديد من الفرنسيين صغاراً وكباراً، ناضلوا وقاوموا الاحتلال الألماني وقدموا في سبيل ذلك أرواحهم. استطاع الإفلات من قبضة الشرطة السرية الألمانية الرهيبة (الغيستابو) في ظروف يعرفها الجميع وكتب عنها المؤرخون، بفضل حكمة وشجاعة وإصرار رفيقته وشريكة حياته لوسي... اختاره الجنرال شارل دوغول ليكون واحداً من بين 18 مفوضاً للجمهورية مكلفا باستعادة وتثبيت الشرعية الجمهورية بعد سقوط حكومة فيشي (في مارسيليا من غشت 44 إلى يناير 48). وقد أهله تكوينه كمهندس مدني في القناطر والطرق (فوج 1937) للاضطلاع بمهمة تنسيق عملية نزع الألغام من التراب الفرنسي تحت إشراف راوول دوتري. ولابد أيضاً من التذكير بالصداقة المتينة التي ربطت ريمون أوبراك بالزعيم هوشي منه، والتي سمحت بفضل اتصالاته الفعالة والسرية من لعب دور حاسم وأساسي في مفاوضات السلام في فيتنام بين الولاياتالمتحدة والقيادة الفييتنامية . كان ريمون أوبراك يحب أن يردد مع أصدقائه الكثيرين أنه محظوظ لأنه عاش حيوات متعددة. وأحد الجوانب التي لا يعرفها الكثيرون عن حياة هذه الشخصية هو مقامه في المغرب» أو »حياته المغربية»كما كان يحب أن يقول، أي المرحلة التي عاشها ريمون ولوسي أوبراك في المغرب (1963-1958) رفقة ابنتيه كاترين واليزابيت وابنه جان بيير. ونحن، صديقا عائلة أوبراك منذ أزيد من نصف قرن، كنا شاهدين ومساهمين في مسار لوسي وريمون في المغرب. في 2 مارس 1956 اعترفت فرنسا باستقلال المغرب بقيادة جلالة الملك محمد الخامس، وانخراط المغرب في سياسة الانفتاح الاقتصادي والتعاون الدولي وفي مجال التنمية, خاصة مع فرنسا التي اضطلع العديد من أطرها العليا بمهام المرحلة الانتقالية الهادئة بين فترة الحماية وسنوات الاستقلال الأولى. وتحت اشراف عبد الرحيم بوعبيد, القائد الوطني ورجل الدولة الكبير، الذي شغل مهام نائب رئيس الحكومة ووزير المالية والاقتصاد في حكومة عبد الله ابراهيم، تم تنفيذ قرارات حاسمة. فالأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، محاطا بثلة من كبار رجالات الدولة (مامون الطاهري، أحمد ومحمد بنكيران، محمد لحبابي، ابراهام السرفاتي، صمامة.. وآخرين) استعان بخبرة وخدمات عدد المستشارين المرموقين من أبرزتهم رايمون أوبراك وجورج أوفيد. هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ المغرب شهدت تحت اشراف عبد الرحيم بوعبيد تحديث وتنظيم وتأسيس العديد من آليات ومؤسسات السيادة الوطنية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية (بنك المغرب، البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، البنك المغربي للتجارة الخارجية، بنك الإيداع والتدبير، مكتب التنمية الصناعية، مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، البنك الشعبي، القرض العقاري والسياحي...) والعديد من المكاتب والمؤسسات الوطنية التي لا يتسع المجال لذكرها. ودور الراحل رايمون أو براك وجورج أوفيد بمساعدة العديد من الأطر المغربية والفرنسية، كان دورا حاسما في هذا الصدد. ومن بين أبرز الأعمال وأقواها تأسيس المكتب الوطني للري نهاية 1960. عين رايمون أر براك كاتبا عاما صحبة محمد الطاهري كمدير عام ومهندس لامع في مرحلة أولى تم محمد العيماني مهندس خريج القناطر والطرق (فوج 57) وضم هذا المكتب العديد من أطر الهنسة المدنية والهندسة القروية وعلماء الجيولوجيا وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والأطر الإدارية اللامعة... وقد كان تأسيس المكتب الوطني للري سابقة شكلت مثالا، لاسيما في فرنسا, ومكنت هذه التجربة من إنجاز عمل مشترك بين مهندسين مكلفين بالسدود وقنوات الري ومسؤولين عن مراكز التأطير والارشاد الفلاحي والخبراء المكلفين بدراسة البنيات الفلاحية وتحويل المنتجات الفلاحية وتكوين الفلاحين... وقد كان إدخال زراعة وإنتاج الشمندر السكري أحد الانجازات الناجحة للمكتب الوطني للري والانخراط الشخصي لرايمون أوبراك في كتابة ? o? la m?moire s?attarde ? يخصص أوبراك لحياته المغربية ولإدخال زراعة الشمندر وإنشاء وحدات صناعة السكر حيزا مهما، وقد كان دوره مهما كذلك في التقارب والتعاون وحتى نسج علاقات صداقة بين الأطر المغربية (حاييم بنيستي، مصطفى فارس، بن سوسان، حارقي، دفيد بيردوغو، روجي عزان، بول باسكون، درحي، محمد دادسي...) والعديد من المتعاونين والمستشارين الفرنسيين (كلود رايتي، هنري بومنديل، دميتري كافسياس، جاك بورديون، جاك بروني، اندري فاليت, مارسيل جيتون، هنري مازيول، سيرليس...). بعد رحيله من المغرب, أنهى رايمون أوبراك حياته المهنية في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في روما، وأثناء اشتغاله هناك ساهم بشكل كبير في إنشاء المركز الوطني للتوثيق بالرباط الذي وثق وجمع عشرات السنوات من الوثائق المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب. وختاما, لابد من الحديث ولو باقتضاب عن السيدة لوسي أوبراك, الأستاذة بثانوية مولاي يوسف بالرباط ,تتلمذ على يدها العديد من المسؤولين والاطر المغربية من بينهم الاستاذ فتح الله ولعلو والاستاذ عبد الجليل حجمري والعديد من الأطر المغربية. بنتاها كاترين وايزابيل، كانتا رفيقتين للعديد من الأصدقاء المغاربة الذين تقلدوا فيما بعد العديد من الوظائف السامية سواء في الإدارة العمومية أو في القطاع الخاص. لكل هؤلاء التلاميذ، علمتهم لوسي قيم النزاهة والاستقامة الأخلاقية والجهد وقد استمرت في هذا النهج حتى آخر سنوات حياتها في الثانويات الفرنسية. بعد وفاتها سنة 2007 أخذ ريمون أوبراك مشعل لوسي وكانت آخر زيارة له للمغرب سنة 2009 مناسبة لينقل لتلاميذ ثانوية ديكارت بالرباط القيم التي ميزت حياته وحياة زوجته لوسي ومعنى المعركة التي ميزت حياتهم, هذه الرحلة الأخيرة لبلد كان يعشقه أكثر من أي شيء آخر، سمحت له بلقاء العديد من كبار الشخصيات المغربية والعديد من أصدقائه الذين لمسوا فيه الرجل المخلص الوفي والخجول. لينم مرتاحا بعد هذه الحياة الاستثنائية وليجد أبناؤه وأفراد عائلته وأصدقاؤه كل عبارات التعازي الخالصة في هذه الشهادة. (*) مصطفى فارس: مهندس قناطر وطرق (فوج 59) تقلد عدة مسؤوليات سامية منها مسؤول عن الاستغلال بميناء الدارالبيضاء، ثم الاشغال العمومية بتطوان واكادير (بعد زلزال 60) ثم مديرا للتجهيز بالمكتب الوطني للري ومديرا عاما للماء, ثم مديرا عاما للبنك الوطني للتنمية الاقتصادية والبنك المغربي للتجارة والصناعة، كما شغل منصب وزير في الحكومة عدة مرات. (*) جاك بورديون: مهندس عام للقناطر والطرق (فوج 50)، اشتغل في المغرب من أجل خلق وتسيير مؤسسة التعاون في المغرب ومساعدة المؤسسات المغربية في عدة مجالات (مراقبة سد مشرع كليلة، دراسة وإعداد مختلف أحواض الري: تادلة، اللوكوس، دكالة، حوض الحوز بمراكش وسوس ماسة، وعدة خدمات لفائدة الإدارة المغربية.