بعد أن برر في أواسط الثمانينات أسباب القطيعة مع الشبيبة (الإسلامية) ورئيسها مطيع وكذا الاعتراف الكامل بالمؤسسات القائمة، سعى قادة الحركة إلى إقناع أتباعهم بفائدة المشاركة. ففي كتابه «الحركات الإسلامية وإشكالية المنهج»، الذي هو تجميع لمقالات ومحاضرات، يشرح بنكيران أسباب التوجهات الجديدة خلال سنوات التسعينات. فبقبول التفرغ للمشاركة السياسية ضمن بنية كانت غريبة عنهم، والتي لن تكون أياديهم حرة مطلقة فيها، قرر بنكيران والعثماني وبها ورفاقهم التخلي عن الدعوة. وكان تبريرهم أن ذلك مجال له شروطه الخاصة. لقد تحول دعاة الثمانينات إلى منظري استقلالية السياسي عن الديني. يقول بنكيران في كتابه: «بخصوص الفعل السياسي، أعتقد أن هدفه ليس خدمة يوتوبيات لا يمكن أن تتحقق. إنه مجال رهين بالواقع الاجتماعي. والحركة الإسلامية ليست سوى جزء منه، وليس لها لا المقدرة ولا الإمكانيات للقيام بها به لوحدها. إنها تسعى إلى التحسيس بالبعد الديني في الحياة الفردية والمجتمعية والسياسية للناس. وسيكون دورها في المستقبل هو تعزيز تواجدها بتدرج في الواقع السياسي حتى تصبح له ملامح واضحة. إن الخروج من السرية والعتمات إلى الواقع، بما يتطلبه ذلك من تنازلات وتضحيات وتواضع وقبول للآخر، هو الذي سيحقق لنا ذلك. إن حضوره في المشهد السياسي كقوة أخلاقية مهما كان حجمها، سيكون لها تأثير واضح قيمي وتربوي على الواقع السياسي وسيكون لطروحاتها وأفكارها مكانتها ضمن هذا الواقع. إن طبيعة البشر نزاعة نحو الإيجابي ودور الحركة الإسلامية أن تساهم ليس في القضاء على المنكر، بل على الأقل على التقليل منه. وأعضاؤها معروفون بتقواهم وجديتهم التي لا نجدها دائما عند الآخرين. فإذا وجهت هذه الطاقات والكفاءات إلى الشأن العام، فإن الكثير من المشاكل ستجد طريقها إلى الحل أو أنها لن تكون بذات القوة في الصلافة (المشاكل)." إن بنكيران يطالب هنا بخصوصية السياسي تأسيسا على منطق الواقعية، وهو مصطلح كثيرا ما يرد في خطب أقطاب الحركة.. بالنسبة له فإن ذلك مندرج في عالم الممكن والاختيار بين الأقل ضررا. وتواجد أعضاء الحركة الإسلامية في المشهد السياسي يشكل في حد ذاته قيمة مضافة. فبحكم تربيتهم من خلال الدعوة فهم أكثر أخلاقية من باقي الطبقة الحاكمة. إن تمييزه عن الديني، يجعل السياسي نسبيا. وإذا كان بنكيران يقدم هنا رؤية استراتيجية واضحة فإن مواقفه ليست مدققة في ما يرتبط بالقانون العام الإسلامي. في البداية كان الدكتور المتخصص في علم النفس، خريج دار الحديث الحسنية، سعد الدين العثماني، هو الذي بادر إلى إعطاء تفسير ديني للإستقلالية السياسية (عن الديني). فغداة انتخابات 1997 التشريعية، كتب نصا بعنوان «المشاركة السياسية في فقه الشيخ ابن تيمية»، أبرز فيه أن بن تيمية الذي يمجده عاليا السلفيون (الذين يعتبرون أن أهل الدين لا يجب أن يتحركوا كرجال سلطة) يعتبر المشاركة السياسية واجبا: «إن سوء استيعاب أسس الشرع في التعامل مع الواقع، قد دفع الشباب المسلم يصدر أحكاما بعيدة عن الشرع وعن اجتهاد العلماء. لقد ذهب بعضهم إلى أن تحمل مسؤوليات في التدبير العمومي بالمجتمعات الإسلامية مخالف للشرع بدعوى أن أفعالا سلبية ستقرن بهم. والآن والحركة الإسلامية المغربية تستعد للمشاركة في الإنتخابات التشريعية مهم أن يدرك الشباب المؤمن أن ذلك غير متعارض مع أسس الدين بل إنه في مواقع عدة واجب كما نجد عند ابن تيمية». بهذا المعنى، فإن عالم الحكم والسياسة وعالم العبادات يحكمهما منطقان مختلفان. ويضيف العثماني: «الفعل السياسي هو مجال الحكم وأهدافه ليست أهداف الدعوة. فحسب ابن تيمية وجمهور العلماء مهم تمييز ما هو تعبد وما هو عادي. لقد كتب ابن تيمية: إن التحرك وأخد الكلمة بالنسبة للمؤمن بابان. فالتعبد امتثال للدين والتحرك لتنظيم الحياة الأرضية. إن دراسة أسس الشريعة يسمح يفهم التعبد الذي يفرضه ويحببنا فيه الله، ولا يمكن تحققه بدون التشريع. وفي مجال العلاقات والعادات التي تجمع بين الناس في حياتهم الأرضية فإن غياب الموانع غالب». كل شئ إذن محدد في مجال التعبد، ما عدا في حال وجود إذن شرعي، وكل شئ ممكن في العمل الميداني ما عدا ما منع شرعا. والحال أن الشباب الإسلاميين يتحركون في الأمور الأرضية للإنسان كما لو أنها جزء من التعبد، لأأنهم لا يدركون أن الفعل السياسي هو اجتهاد بشري وتواجه للآراء. وحتى بالنسبة لابن تيمية: «إذا كان لعالم دين أو أمير رأي مخالف لواحد من الرعية ليس عليهم أن يجعلوا منه قضية. يمكنهم اتخاد قرارات إذا ما رأوا فيها مصلحة لكن ليس لهم الحق في المنع ضمن هذا الباب وليس لهم الحق في منع الآخرين من حقهم في الإجتهاد». ليس هناك كمال في الحياة الأرضية. بالتالي علينا الاختيار بين أمرين وأن نزيح الأكثر ضررا. وهنا يعود العثماني مرة أخرى إلى ابن تيمية، الذي استشهد بانتصار المسيحيين على المزديين (ديانة توحيدية في إيران)، فكلاهما غير مسلمين، لكن المنتصرين هم الأقرب للإسلام من المهزومين. مثلما أعطى ابن تيمية مثالا بيوسف حين خدمته عند فرعون وبشعبه وقد كانوا خدما. حسب العثماني فإن ابن تيمية يستعمل المقاصد لهذا الغرض: «إن ممارسة الحكم في مجتمع كافر مثل ما حدث مع يوسف جائز، لأن ذلك يسمح بالقيام بالخير وترسيخ العدل وتبيان طريق الإيمان. إذا كان ذلك ممكنا في مجتمع كافر فكيف لا يكون في مجتمع مسلم يعيش في الفتنة، مهما كانت درجتها. فهذه مهما كان أقل من الكفر البين». إننا نجد عند العثماني «تعايشا للأزمنة» يحيل على يوسف وعلى شخصيات قبل الإسلام (مثل هارون وموسى وسليمان والإسكندر). إنهم يقدمون المثال عن الحكم السياسي العادل ويقيمون توازنا في عهد الجاهلية. واعتمادا على ابن تيمية يمايز العثماني بين الحكم والشرعية الدينية للمحكومين. بذلك فإن حاكما غير مؤمن قد يكون مسيرا جيدا فإنه ينجو من العقاب يوم الحساب العظيم. إن الإحالة على علماء الإسلام مثل ابن تيمية هو حجة دامغة تبرر تمييز السياسي عن الديني، لكنها تستعمل أيضا في سياقات أخرى من أجل تبرير عنف يمارس ضد رموز للسلطة مثل ما وقع ضد الرئيس المصري السادات. علينا تذكر أن ياسين نفسه يعتمد ابن تيمية في تبرير التصوف المتوافق مع الشرع. إن هذا الإستعمال المتناقض لنفس العالم لا يختص به المسلمون فقط، بل إنه أمر منسحب على كل ثقافة للمكتوب. ففلاسفة الأنوار قد استعملوا لأجل إصدار بيان حقوق الإنسان والمواطنة وأيضا لإعدام لويس السادس عشر باسم العدل والإنسانية. تأكيد العثماني على استقلالية السياسي إزاء الديني، جاء لأنه لا يمكنه ادعاء لعب دور الداعية. حقا هو حاصل على دبلوم في الفقه وله تكوين ديني ومثله مثل بنكيران الذي مارس الوعظ في مساجد الرباط وسلا، لكنهما لا يريدان التفرغ فقط للوعظ. فإظافة لدوره السياسي، كان بنكيران مديرا لجريدة الحركة، وكان مسيرا لمدرسة بالرباط، بينما العثماني يمارس دوره طبيب يعالج المرضى. ولو قيد لهم فقط ادعاء صفة الوعاظ لخسروا الكثير من مصداقيتهم، لأنهم كانوا يبتعدون رويدا رويدا عن هذا الدور. وحين دخلا إلى البرلمان سنة 1997 لم يعد مسموحا لهما من قبل الدولة القيام بتقديم دروس في المساجد. لقد قلد هؤلاء السياسيون ربما حكمة توكفيل: "لقد اقتنع القساوسة الأمريكان بضرورة التخلي عن التأثير الديني إذا ما أرادوا امتلاك قوة سياسية". بينما عنصر هام آخر في الحركة، هو فريد الأنصاري، قد اختار دورا آخر وهو الرهان على تأثير الخيار الديني على الإلتزام السياسي من أجل حماية الدعوة. هو من مواليد 1960 بنواحي الرشيدية، وهو حاصل على الدكتوراه في أصول الفقه، كان يتمتع بصفة واعظ وخطيب بالمجلس العلمي لمكناس وكان رئيسا لشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بنفس المدينة. لهذا السبب كلف لسنوات بالمنظمة الطلابية لحركة التوحيد والإصلاح لكنه اختار التراجع إلى الوراء حين اختار رفاقه المنطق السياسي. من موقعه كرجل منفتح على العلوم الإجتماعية، أكد في كتابه «البيان الدعوي والتضخم السياسي» أن الحركة الإسلامية هي ظاهرة هويتها في التدين حتى في قوتها المنحرفة. لأنه بإمكان أي أحد استغلال الإحساس الديني للناس من أجل خدمة أمور لا علاقة لها بالغاية الإصلاحية (ص. 35). إن "حركة الصحوة الإسلامية هي التعبير الإجتماعي عن مجتمع متدين، وهي بيان دعوي. وفي سياق قلصت فيه الدولة من دور العلماء تولدت رغبة طبيعية للتدين وإحساس بالإقصاء. (...) إن التمييز بين السياسي والديني ليس أمرا تختص به حركة الأنصاري وبنكيران بل إنه يشمل أيضا حركة ياسين وأتباعه. بالتالي، لا يمكننا إلا وضع علامات استفهام حول محاولات المقارنة بين المسيحية والإسلام التي يطرحها بيرنار لويس. فحسب هذا المستشرق الإنجليزي فإن خصوصية المسيحية أ،ها تمايز بين الكنيسة والدولة: " يمكن أن يجتمعا ويمكن أن يفترقا وبالإمكان أيضا أن يتعايشا في تناغم أو أن يتصارعا وبالإمكان أن يحتوي الواحد الآخر وأن يقبل أحدهما استحواذ الآخر عليه. بالإمكان أن يغرق الواحد منها في مجال الآخر أو يستغله وبإمكان الآخر أن يحتج. لكنها دوما اثنان: السلطة الروحية والسلطة الأرضية. ولكل واحد منها قوانينه وبنيته وتراتبيته. الإسلام لم يعرف نظامين بل واحد، وبالتالي فإن سؤال التمييز بين السلطتين لم يطرح. وليس هناك إصطلاح يمايز بينهما". إن تكذيب هذا الطرح لم يأي من مفكرين مسلمين لائكيين، بل من الحركات الإسلامية نفسها. فلم يطرح أي منهما سؤال العلاقة بين الديني والسياسي بداخلهما كما لو أن الجواب بدهي. لقد جعلوا من الإلتباس بين الديني والسياسي أولوية وأنه مجرد فرضية للعمل تتطلب إما التأكيد أو النفي (حسب السياق).