في ذاك المساء البارد من فبراير، بعد أن أشعل حزنه دفعة واحدة، طارد ضحكة خضراء، لأنه كان يدرك أكثر من غيره أنه ذاهب إلى السينما دون أصدقائه الأثيرين. كان يشعر أن قلبه ييبس تحت هذه السماء الضارية، وأن الحياة لمن استطاع إليها سبيلا لا تساوي أكثر من كتاب وفنجان قهوة وطفل أبدي يجمع الحصى ليبني بلادا من الأفلام المملوءة بالدمع والرغيف والأوشام. «لا فائدة من الصراخ»، هذا ما كان يؤمن به. «لتكون حرا تعلم أن تعيش بين عالمين»، هذا ما دأب عليه؛ فكان يقيس المسافة كل يوم بين المسرحي والسينمائي، وينفض الرماد عن عينيه الصقريتين. لقد نجح محمد سكري في صنع عالم سري صغير، أحاطه بأربعة جدران سميكة وسقف زنكي وأرض مغطَّاة بعشب المحبة، ولا يسمح بالدخول سوى للذين صاروا سنابل قمح أو غيمات ممطرة.. للأصفياء الذين يثرثر معهم حول كل شيء.. البلاد المعلقة بين السماء والأرض.. النساء اللواتي يتجردن من معاطفن ليغتسلن بالموسيقى الحزينة.. الأقدام المثقلة بالسلاسل.. الأحلام المجففة بسياط السجون، والمملوءة بالسكاكين.. هناك، تراه دائما منشغلا بشرب كأس أو فتح نافذة أو على الأرجح ينشغل بالابتسام، حينا للوسادة، وحينا لليأس الصالح للشنق. وهناك، بعد حياة ممتلئة بكل الفصول، رأيته كما لم أره.. عملاق من لهب عقد العزم على جعل الموت مجرد قطعة بسكويت. كانت يده تنقفل على صدره من الوجع. «أشعر بالوهن، لكنني سأنتصر عليه». كان واثقا من أنه سيخرج مظفرا من المعركة، ومن أنه سيعود إلينا جنديا لامعا تزين رأسه الأكاليل. ضرب لنا موعدا في بيت المخرج السينمائي لحسن زينون لنتفرج على «الموشومة». «حين أغادر المصحة وأستطيع أن أتنفس الهواء بحرية، سأدعو أصدقائي لنناقش الفيلم خارج الضجيج والصخب»، هكذا قال قبل تعتقله الغيبوبة. تذكرته حين كان يفرط في الحرص على القراءة ليكتب عن الوشم. لم تكن تستهويه الحكاية، ولم يمكن يتعامل مع الموضوع كحزمة جافة من المواقف. كان يدرك أن الأمر أكبر من قلادة أو قرط أو سجادة، وأكبر من هلال أو صليب، وأكبر من جسد مباح. قرأ «الاسم العربي الجريح» لعبد الكبير الخطيبي. جاك دريدا. ياسوزو ماسومورا. بيرنار أندريو. أليس كذلك يا زينون، ويا بوجمعة أشفري؟ لم يكن محمد سكري رجلا ممتلئا بالقش، بل كان نهرا تتدفق في أعماقه أمة مضطهدة. في كل نقاشاته، كنا نتذوق رائحة السادسة صباحا في أحياء «الزيرو كاتر».. أليس كذلك يا مصطفى العلواني، ويا مصطفى فوميسيل، ويا عبد الله امعاشو.. رائحة الشفنج وسوق شطيبة وسينما العثمانية وكاريان بنمسيك.. وقصائد عبد الله زريقة ومسرحيات حوري حسين.. هناك، احتسينا الكثير من الدهشة، ووعينا مبكرا أن الحياة سلاح ذكي للقتل الرحيم. طاردنا العصافير في الضاحية الشرقية للفرح، واصطدنا السحالي والجوش والسمان والأرانب.. وكنا تارة هنودا حمرا، وأخرى رعاة بقر، وحلمنا بالصراع مع التماسيح.. .. وكان يكتب القصة كلما أمسكت يده بظل جائع تحت الوسادة. كتب عن رجل يملك «غرفة صغيرة وضيقة ولا شيء غير ذلك»، ويحلم بالذهاب إلى ثلج إفران على صهوة جواد أبيض.. وكان يريد أن يظل هنا، ليكتب سيناريو القصة.. ولينتمي كعادته لتلك «السينما المفرطة في الإعجاب بنفسها». غدا صباحا، سأكتب الجبل بعين الحصان.. الحصان الذي يرى حوافره تشتعل في أرض باردة بيضاء.. وبدل أن يكتب عن الرجل الأبيض، كتب عن «هذيان الذكورة».. وذاك الحكي المفاجئ وغير المتوقع في أفلام «فوزي بنسعيدي» و«محمد مفتكر» و«مصطفى الدرقاوي».. وعن «الكاميرا التي تختزل الفيلم في تقاطع العين والنظرة».. وعن «الشخصيات التي لا تأكل ولاتنام».. وعن « قوة القطع والإضمار».. وعن مصطفى العلواني الذي قال عنه «إنه من أفذاذ النقد السينمائي في المغرب».. وعن جينرال منتدى المواطنة الذي يصنع للصداقة أبوابا ونوافذ وحدائق.. وكان يطفئ ضمأ العمر أمامنا وبقول بابتسام جامح: «لدي كتب وأصدقاء ولا شيء غير ذلك»!