ننفتح من خلال هذه الورقة على معاناة هذه الفئة من المغاربة الذين لحقهم الحيف لعقود فننصت إلى أربعة أطر تقنية في تخصصات مختلفة بإقليم تنغير، يستعرضون ما يعيشه التقنيون على الصعيد المحلي، وأيضا على المستوى الوطني، كما انفتحت الجريدة على سؤال «المتحقق» والمعلق» في تاريخ هذه الهيئة من الأطر الوفية لخدمة مسلسل تنمية البلاد. فمن المعروف أن التقنيون يعتبرون دينامو التنمية الاقتصادية في المغرب منذ فجر الاستقلال، فقد ساهموا في بناء الاقتصاد الوطني، وبناء الدولة المغربية في فترة صعبة من تاريخ البلاد، أي فترة الاستقلال، حيث الأطر قليلة، بالكاد تكوّن، ولعلّ التقني المغربي هو أول من سبق تاريخيا للإدارة، خصوصا في المصالح ذات الطابع التقني، من ثمّ قيّض له أن يلعب دورا رياديّا على مستوى التأطير والتنمية بشكل عام، ومنذئذ سيظلّ القطب الذي لا يمكن لرحى الاقتصاد الوطني أن تدور دونه. لم يؤسس التقنيون المغاربة جدارتهم وأهميتهم على فراغ، فوجودهم الجوهري والعضوي في تفعيل مسلسل التنمية كان ينهض - ولا يزال- على عدة اعتبارات منها: * التكوين المهني الذي حصّلوه في مختلف مجالات الحياة، كلّ حسب تخصصه وميدان اشتغاله. * الوضعية الاجتماعية والمهنية التي تجعلهم يتموقعون استراتيجيا بين العمال المؤهلين والمهندسين المختصين، فالتقني هو الذي يرشد العمال ويوجههم، ويباشر عن كثب العملية الإنتاجية والخدمية، فهو حلقة وصل بين العمال والمهندسين. * العدد الهائل للتقنيين بمختلف تخصصاتهم، فاق عددهم المليون تقنيّ وتقنية خلال 2006، فبالإضافة إلى حوالي 300 معهد عمومي للتكوين المهني بما فيها معاهد التكنولوجيا التطبيقية، فإنّ هناك المئات من المعاهد الخاصة للتكوين تخرّج كل سنة أفواجا من التقنيين، والتقنيين المختصين، عدا معاهد التكوين التابعة لبعض الوزارات. علاوة على الاعتبارات المذكورة سابقا، فالتقني هو بالأساس إطار يحمل شهادة عالية تثبت أنه تقني له دراية دقيقة في الدراسات والمشاريع والتخطيطات، كما أنه «ابن الميدان» بامتياز، قد لا يحسن «لغة الكلام»، لكن عطاءه على مستوى الممارسة والفعل لا تخطئه العين. ويكاد يكون التقنيون أكبر عدد من الموظفين في الدولة، فهم متواجدون في جميع الإدارات العمومية وشبه العمومية ذات الطابع الإداري، والجماعات المحلية، والشركات الخاصة وشركات الدولة، ولا تزال الدولة تكوّن أطرا في هذا المجال إلى الآن، بحيث تخرج معاهد التكوين بالمغرب آلاف التقنيين كلّ سنة. يفيدنا (م.ح.س)، تقني المكتب الوطني للسلامة الغذائية بقلعة امكونة، على مستوى تكوين تقنيي الفلاحة، أنّ هناك 14 معهدا للتكوين، وكلّ معهد يخرّج تقريبا معدّل 50 تقنيا في السنة، أي ما يناهز 700 تقني. بداية التنكر لأدوار التقني: ما الذي حدث مع التقنيين المغاربة؟ وكيف حدث؟ يرى «م.ح.س» أنه مباشرة بعد بداية ظهور أطر أخرى وتكاثرها في الإدارة المغربية، خلال الثمانينات من القرن الماضي تحديدا، همّش دور التقني، وقصّ جناحاه لعدة اعتبارات، خلال هذه الحقبة بالضبط بدأت الدولة المغربية تتنكّر لعطاءات هذه الفئة ومساهماتها، وتولي لها الظهر بمناسبة أو بدونها، ولعلّ أولى الضربات الثقيلة التي سوف تتعرض لها هيئة التقنيين المشتركة بين الوزارات، تتعلق بصدور النظام الأساسي الخاص بهذه الفئة سنة 1987، والذي حمل معه حيفا كبيرا، وإجحافا واضحا في حقّ هذه الأطر، جرّاء ما اعتوره من اختلالات وثغرات قانونية أثرت سلبا على تحصين الإطار، وجمّدت وضعيته الإدارية والمهنية، وعمقت أزمته المادية والمعنوية. لأجل ذلك بادر الاتحاد الوطني للتقنيين المغاربة سنة 1989 بالتدخل لدى الحكومة بهدف إعادة النظر في هذا النظام الأساسي، والبت في مراجعته، وتقدّم وقتها بمشروع تعديلي لهذا النظام، غير أنّ صمت الحكومة عمّا آلت إليه أوضاع التقنيين من تدهور وتردّ خطيرين، ورفضها الاستجابة لمطالبهم المشروعة، ونفض المسؤولين لأيديهم من هذا الملف عبر الحكومات المتعاقبة، وعدم الوفاء بالعهود والالتزامات المتفق عليها خلال حوار 1989، خلف استياء عارما لدى التقنيين المغاربة، وأجّج شرارة الاحتجاج، إذ خاض هؤلاء وقفة احتجاجية في 26 فبراير2001 أمام مقرّ الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، وتلاها إضراب إنذاري في 26 أبريل من نفس السنة. وقد تلخصت بعض مطالب التقنيين وقتها في: - إخراج المشروع التعديلي إلى حيّز الوجود وفق ما تقدمت به الهيئة كحدّ أدنى، وخاصة صيانة وتحصين الإطار بتعديل المادة 5 من مرسوم 1987. - الترقية الداخلية إلى السلم 11 وخارج الإطار، حسب الطرق الأربع، المنصوص عليها في النظام الأساسي للوظيفة العمومية مع احتساب الأقدمية العامة. - إقرار نظام التعويضات عن التقنية والأتعاب والتأطير بأثر رجعي منذ سنة 1987 . * التنصيص على المهام المسندة لهيئة التقنيين في نظامها الأساسي. * فتح مدارس المهندسين في وجه التقنيين. * فتح المبادرة الفردية أمام التقنيين وتشجيعهم بخلق المقاولات الصغرى والمتوسطة. وعقب استمرار تجاهل ملف هذه الفئة، خاض التقنيون مرة أخرى إضرابا وطنيا يومي 16 و17 ماي 2001 احتجاجا على سياسة الصمت والإعراض التي يقابل بها المسؤولون في الحكومة مطالب هذه الفئة. أثار هذا الحيف غضب التقنيين، فنفذوا مجموعة من الخطوات النضالية المتصاعدة للمطالبة بإصلاح نظامهم الأساسي، وقد سجلت هذه المحطات وعودا تضمنتها اتفاقيات الحوار الاجتماعي في جولتي أبريل 2003 ويناير 2004، ونصت على تسوية وضعية التقنيين من خلال: مراجعة النظام الأساسي الخاص بالتقنيين في اتجاه تحصين هذه الهيئة وتحديد مهامها، وإحداث درجة إضافية يخصص لها ترتيب استدلالي مماثل للسلم 11، إحداث نظام للتعويضات خاص بهيئة التقنيين المشتركة بين الوزارات، يترتب عنه ، زيادة في التعويضات التي كانوا يستفيدون منها، تحديد مبالغ التعويضات الشهرية الخاصة بالسلم 11 الدرجة الجديدة في 5550 درهما بالنسبة للتقنيين المرتبين من 1 على 5، و 9100 درهم لما فوق الرتبة 6 . لم تحمل سنة 2005 فتحا كبيرا بالنسبة لقضية التقنيين المغاربة، فبعد سلسلة من النضالات المريرة صادقت الحكومة على مشروع مرسوم رقم 72-05-2 بشأن النظام الأساسي الخاص بهيئة التقنيين المشتركة بين الوزارات يوم 27 يناير 2005 دون استشارة لممثلي التقنيين، وشكّل هذا المرسوم ضربة أخرى أشد وقعا على التقنيين بعد ضربة 6 أكتوبر 1987 عندما قامت الدولة وبشكل انفرادي أيضا بالمصادقة على المرسوم رقم 812/86/2 بشأن النظام الأساسي لهيئة التقنيين، والذي فصل وقتها بين التقنيين والمهندسين، حيث كان يجمعهم نظام واحد متمثل في المرسوم الملكي 1189/66 بمثابة النظام الأساسي المشترك بين المهندسين والتقنيين بتاريخ 9 مارس 1967 . وقد حرم مرسوم 1987 التقنيين من حقهم في الترقية إلى السلم 11 وخارج الإطار، كما حرمهم من نظام منصف وعادل للتعويضات، وبقيت المادة 13 المتعلقة بها جامدة لمدة 15 سنة، فضلا عن التبخيس من مهنة التقنيين. كان النظام الأساسي ل2005 مخيبا للآمال، بل صادما، لأنه أجهز على مكاسب التقنيين، وسجّل تراجعات خطيرة مقارنة مع مرسوم 1987، منها على سبيل المثال: إضافة مرسوم 2005 سنتين من الأقدمية في الدرجة كشرط لاجتياز الامتحانات المهنية، وارتفعت إلى 6 سنوات بدل 4 سنوات، مع تحديد نسبة 11% بدل 25% ، إضافة 5 سنوات من الأقدمية في الدرجة للتسجيل في لائحة الترقية بالاختيار، حيث ارتفعت إلى 10 سنوات عوض 5 سنوات مع تحديد نسبة 11% بدل 25%، التنصيص على تطبيق العمل بهذا المرسوم ابتداء من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية، وهو ما ينفي الأثر الرجعي، مما يعدّ حيفا في حق فئة عريضة من التقنيين الذين سيحالون على التقاعد، عدم التطرق إلى التعويضات التي سيستفيد منها التقنيون من الدرجة الأولى، عدم التطرق إلى حق التقنيين في ولوج درجة تقني خارج الإطار، إجحاف في حق فئة التقنيين المصنفة في الدرجة 8 و9 خاصة في ما يتعلق بالتعويضات الممنوحة لها، والتي لا تتعدى 500 و 600 درهم، في حين منح لمثلهم في الوظيفة العمومية 800 و900 درهم، عدم التطرق إلى حق التقنيين في التكوين وإعادة التكوين وولوج المعاهد العليا، كلّ حسب تخصّصه، تكريس الحيف على صعيد التسميات من حيث ترتيب التقنيين بالدرجات( تقني من الدرجة الثالثة، تقني من الدرجة الرابعة إلخ). في المقابل لم يجن التقنيون من جعجعة مرسوم 2005 غير الزؤان ( تحصيل الإطار والسلم 11) فيما طال الصمت بقية المطالب الأساسية الواردة أعلاه. الهيئة الوطنية للتقنيين بالمغرب: تحيين الملف المطلبي واستمرار النضال حسب «م.ح.س» ، فإنّ تأسيس الهيئة الوطنية للتقنين المغاربة سنة 2007 بالرشيدية جاء امتدادا لنضالات التقنيين في الإطارات السابقة، وأيضا كي لا تظلّ الساحة فارغة على عروشها، خصوصا مع تفاقم وضع هذه الفئة، والإمعان في تهميشها من قبل المسؤولين، وقد سعت هذه الهيئة إلى الجمع بين الشق النضالي والشق التكويني، ورصدت لذلك مجموعة من الوسائل والأنشطة بهدف تحصين وحدة التقنيين، ورصّ صفوفهم، وصيانة مكتسباتهم، والهيئة ماضية حاليا في تأسيس فروعها على الصعيد الوطني، بينما تشتغل لجان تحضيرية في مناطق أخرى لنفس الهدف. لم يكن مرسوم 2005 ، محلّ ترحيب من قبل التقنيين المغاربة، كما أنّ مشاكل هذه الفئة أخذت في الاستفحال ماديا ومعنويا، ولم يراوح ملفها مكانه إلاّ وعدا أو ذرّا للرماد في أعين المتضررين. في جمعها العام الثاني لنونبر 2010 سجلت الهيئة الوطنية للتقنيين بالمغرب ترديا عميقا لأوضاع التقنيين والتقنيات المغاربة، وأعادت تحيين ملفهم المطلبي داعية الحكومة السابقة إلى حلّ هذا الملف المتقادم، وإنصاف فئة التقنيين من خلال الاستجابة لمطالبهم المشروعة الأساسية المتمثلة في: * تعديل القانون الأساسي للتقنيين يراعى فيه: تعديل نظام التعويضات (التعويض عن التقنية)، تعديل نظام الترقية، تحديد المهام المنوطة بالتقني. * توحيد معايير الترقيات (القطاع العمومي والشبه العمومي والقطاع الخاص والجماعات المحلية). * اعتماد الامتحانات الكتابية وإلغاء الامتحان الشفوي لما يشوبه من محسوبية وزبونية. * مراعاة التخصصات أثناء الامتحانات والكفاءة المهنية. * العمل على تنظيم امتحانات الكفاءة المهنية في شهر دجنبر من كل سنة. * مراجعة المرسوم رقم 2 04 403 الصادر بتاريخ 02/12/2005 الخاص بترقية موظفي الدولة في الدرجة والإطار مع الاحتفاظ بالمكتسبات السابقة ورفع الحصيص إلى 33 في المائة بالنسبة للترقية ابتداء من 2010 . * إحداث درجة تقني ممتاز مرتبة خارج السلم، تعطى لها الأرقام الاستدلالية المعمول بها في قانون الوظيفة العمومية عملا بمبدأ المساواة بين كافة مكونات الوظيفة العمومية. * فتح المجال أمام التقنيين لشغل مناصب المسؤولية. * فتح المعاهد والمدارس العليا والجامعات في وجه التقنيين دون شرط أو قيد وتوسيع مجال التكوين المستمر والحرص على جودته. * رفع الحيف والإقصاء عن التقنيات والعمل بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الواجبات والحقوق. * إدماج وتسوية الوضعية الإدارية لحاملي شهادة تقني معترف بها دون إجراء مباراة. * توفير مناصب شغل للمعطلين حاملي شهادة تقني. * فتح حوارات قطاعية للتقنيين العاملين بمختلف القطاعات العمومية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية والجماعات المحلية والقطاع الخاص. * سن قوانين لضبط وتنظيم مؤسسات تكوين التقنيين في القطاع الخاص حسب متطلبات الشغل. * الحفاظ على حقوق ومكتسبات التقنيين والتقنيات العاملين بالقطاعات المهددة بالخوصصة، وتطالب بإصلاحها وترشيدها. وأمام إصرار الحكومة على تغييب ملف التقنيين من مائدة الحوار الاجتماعي، أصدرت الهيئة بيانا تنديديا في 09 يوليوز 2011 تشجب من خلاله «رغبة بعض الجهات في إقبار ملف التقنيين وتعميق معاناتهم إثر التهميش والإقصاء المضروب عليهم »، كما دعت التقنيين والتقنيات إلى «الالتحام والاستعداد لخوض معارك نضالية إحقاقا لمطالبهم في حال استمرار الحكومة في التعنّت وتجاهلهم». مهام التقنيين المغاربة ومسؤولياتهم: مجال غامض وهلامي ينتج مشاكل لا حصر لها من أجل الاقتراب أكثر من مشاكل التقنيين بالمغرب عموما، وبإقليم تنغير خصوصا، سألنا «س.ب»(تقني الإنتاج الحيواني بقلعة امكونة) عن العراقيل التي تعاني منها هذه الفئة، حيث أفاد بأنّ إشكال تحديد المهام يمثل أحد الأوجه البارزة لمعاناة التقنيين، فالدولة تكوّن تقنيا في مجال محدّد، ثمّ تكلفه بمهام مختلفة لفئات أخرى، فتقني تربية المواشي مثلا، يمارس مهام البياطرة، وهذا ما جعل بعض المواطنين يعتقدون - على سبيل التمثل- أن تقني تربية الماشية هو طبيب بيطري. كما أن تقنيي الجماعات المحلية ، والذين يساهمون كثيرا في برامج التنمية المجالية، يعانون كثيرا من مشكل تحديد المهام، حيث نجد أن التقني المتخصص في الطبوغرافيا والذي يشتغل بالبلدية، لا يقوم فقط بمجال تخصصه، وإنما قد يقوم أيضا بالهندسة المدنية، ويكون في فريق التنشيط والتنمية البشرية وغيرها. على مستوى النظام الأساسي تتحدد مهام التقني في تسيير الأوراش وتأطير العمّال، مثلا التقني في الأشغال العمومية أو البلدية يسيّر الأوراش ويؤطّر العمّال، بينما تقني تربية المواشي، أو تقني فلاحي، لا عمّال لديه، ولا أوراش، لذلك فهو يقوم بمهام فئات أخرى تستفيد من الامتياز بينما لا يجني التقني غير التعب والتهميش، أضاف «م.ح.س»، لهذا يطالب التقنيون بتحديد المهام أو على الأقل إنصافهم، فالقانون الأساسي مجحف في حقهم كثيرا. في سؤالنا عن أسباب هذا الصمت الذي يلف قضية التقنيين، أجاب «س.ب» أنّ «السبب الرئيسي يكمن في عدم وجود ممثلين لهذه الفئة على مستوى مراكز القرار، لذلك عانى ملفها من التهميش طويلا، فحين نبحث في المسؤولين على مستوى الوزارة، وكاتب عام الوزارة، ورئيس قسم، ورئيس مديرية، نجد أنهم «إطار مهندس وليس تقنيا»، بينما على مستوى التنفيذ فإنّ العنصر الأساسي هو التقني، إنها مفارقة ظالمة في الواقع». لعلّ الغموض الذي يحوط مهام التقني، وتعويم المسؤوليات التي تلقى على كاهله زادت من أعباء التقنيين وأشغالهم رغم وجود أطراف وأطر أخرى، وذلك ناجم أساسا عن التطوّر الذي تشهده البلاد، على مستوى قطاع الفلاحة يرى (س.ب) أنه « نظرا لكثرة المخططات والمشاريع، ومنها المغرب الأخضر مثلا، فإنّ الذي يلتقي بالسكان ويتعامل معهم هم التقنيون في هذا المجال، لأنهم في الواجهة المباشرة، وأحيانا يصبح لزاما على التقني أن يصير سوسيولوجيا وسيكولوجيا قبل أن يكون تقنيا لأجل أداء مهامه، لاسيما حين يتعلق الأمر بالإقناع والتواصل والتوعية والتحسيس وحل المشاكل والصراعات، كلّ هذه الأمور تستلزم بحثا دائبا وتكوينا مستمرا، حتى الحق في ولوج السلك العالي والمدارس العليا حرمنا منه ، يضيف (م.ح.س) «التكوينات التي يخضع لها التقنيون خصوصا في القطاع الفلاحي، تمسّ للأسف الجانب التقني المحض في مقابل تغييب التكوين في مجالات أخرى، أمّا تقنيو الجماعات المحلية فلا يستفيدون من التكوين الحقيقي، اللهم بعض التكوينات البسيطة ، مثل تلك التي تأتي بها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية». بالنسبة لمعضلة التعويض عن المسؤوليات وبعض المهام، وأيضا الخطر المهني، كما هو الحال لدى تقنيي الجماعات المحلية الذين لا يستفيدون إطلاقا من التعويض، نفس الأمر بالنسبة لتقنيي الصحة، يقول (م.ح.س): « كيف يعقل أن يتقاضى الطبيب والممرض تعويضا على الخطر المهني، والتقني الذي ينتمي لنفس الوزارة ( في المختبرات، يقوم بالتحاليل، في السكانير، في الراديو...) لا يتقاضى تعويضا مماثلا». على مستوى المسؤوليات دائما، في عمالة تنغير يمثل الفلاحة فيها تقني كمدير للمركز الفلاحي مقابل تعويض هزيل جدا، وغير مشرف بالمرة ، لقاء تمثيله لإدارة الفلاحة في إقليم بكامله. «من يمثل السلامة الغذائية في نفس الإقليم ؟ ومشاكل الهندسة القروية وغيرها ؟ إنهم تقنيون مقابل صفر درهم في التعويض» يقول (م.ح.س) بمرارة، قبل أن يضيف بلهجة حادة: « هذه ليست لغة ضحية تضخّم معاناتها استدرارا للعطف، وإنما هو واقع أطر مهمشة منذ عقود». (ح.ب) تقني هندسة قروية ببومالن دادس يخرج عن صمته قائلا: « حتى على مستوى المراسلات نعاني تهميشا واضحا، لقد كانت المراسلات تفد سابقا على سبيل المثال باسم البياطرة والتقنيين، الآن أصبحت تَرِد إلينا باسم البياطرة فقط، أو الأطر فقط، لا أدري لماذا هذا الهجوم علينا ؟ هل لأننا لا نحسن لغة الكلام والدفاع؟ لا يهمّ، فنحن نحسن لغة الميدان والممارسة، والتواصل الفعّال والناجع مع المجال الذي نشتغل فيه، فمن خلال الميدان نفهم ما ينقصنا في التكوين، ونوفر حقيبة معرفية ومهاراتية تعزز نجاحنا، هذا النجاح الذي لا توّد الدولة الاعتراف به على المستوى العملي للأسف». (م.أ) تقني الإنتاج الفلاحي بقلعة امكونة متلفعا ببرنسه على هيئة من «قرصته» برودة الطقس، نبس بصوت جهوري لم تتعبه قساوة الأيام ومشاكل المهنة : « نحن لا نطالب بالامتياز، فقط نريد ما يوازي عملنا ومهامنا، لا نطالب بتغيير التسمية مثلا، وإنما على مستوى التصنيف، في البداية كان مطلبنا إضافة تقني السلم 11 في إطار «تقني دولة»، لكن المطلب رفض بشدة، وكأن التقنيين لا ينتمون لهذه الدولة، ألا يستحق التقني الذي يساهم في بناء المغرب منذ الاستقلال هذه التسمية ؟ حين تم منح السلم 11 صار التقنيون يصنفون على نحو تقني درجة1، تقني درجة 2 إلخ»، «أعتقد أنّ هناك تواطؤا خفيا على ملفنا ، وهناك من لا يرغب في توحّد التقنيين وتكتلهم» أضاف (م.ح.س). المخاطر المهنية و سياسة العرقلة لمستقبل التقنيين المغاربة: في مجال الأخطار المهنية التي تتعرض لها فئة التقنيين بالمغرب، أجمع التقنيون الأربعة الذين التقتهم «الاتحاد الاشتراكي» على تنوع المخاطر وكثرتها بشكل يهدد صحة وسلامة هذه الفئة. فمثلا بالنسبة للصحة الحيوانية يتعرض التقني- كما أوضح (م.ح.س) - لأخطار المواد الكيماوية والأدوية البيطرية، وخطر مواجهة الحيوانات المريضة (العدوى) من خلال التعامل المباشر، وفي الحملات الميدانية، أمّا الإنتاج النباتي - يقول (م.أ)- « نخرج إلى الميدان في غياب وسائل وقائية»، حتى على مستوى الصراعات بين السكان والقبائل فإنّ التقني هو أول من يتدخّل في الحلول والتسويات مع ما يمكن أن ينجم عن ذلك من أخطار، يضيف (س.ب). في مجال السقي المتوسط والصغير(الخطارات والسواقي) يفيد (ح.ب) «أنهم يواجهون مشاكل وصعوبات من أجل إقناع السكن بالمرور أحيانا في أراضيهم وفدادينهم، لكنهم استطاعوا إنجاز سواقي وغيرها بحكم العلاقة الطيبة وحسن التواصل مع السكان». (ح.ب) هذا الرجل ذو الخامسة والأربعين ربيعا، لم يسلم من أخطار مهنته، فهو يعاني من «الانزلاق الغضروفي» على مستوى العمود الفقري، وقد تمّ تشخيصه إكلينيكيا من خلال التحاليل والأشعة، يعزو ذلك إلى قيادته لسيارات الخدمة المهترئة باستمرار في طرق غير معبّدة (السوكوس)، هذه السيارات لا تتوفر على شروط السلامة، كما أنه يشتغل في غياب الحماية ووسائل العمل البسيطة والضرورية، اللهم ما يجتهد - هو وغيره- في توفيره بشكل شخصي . من جهة أخرى يرى (ح.ب) أنّ التقني هو أساس الإنتاج والتنمية، في مقابل الفئات الأخرى التي تقوم بدور التنسيق فقط، فحتى على مستوى بنك المعطيات والتوثيق والأرشفة، فالتقني من يوفّر كل ذلك، علاوة على الاشتغال في الميدان، بل أحيانا يتعين على التقنيين الاتصال بالإدارة والمسؤولين على حسابهم الخاص من أجل إتمام مهامهم وتبليغها، «لديّ خمسة رؤساء، أحيانا يتّصل بي أكثر من رئيس، وكلّ واحد يأمرني بإنجاز مهمة مختلفة، الأمر الذي يربكني» يقول (ح.ب) ضاحكا بسخرية ومرارة. على مستوى الامتحانات المهنية يحدث شيء غريب وغير مفهوم، فتقني الهندسة المدنية مثلا لا يجتاز الامتحانات في مجال التخصص، وإنما في مجالات بعيدة تماما، لا يعرفها أو لم يقرأها أحيانا، في القطاع الفلاحي والغابوي أيضا، يعاني التقنيون كثيرا في اجتياز الامتحانات ، حيث يطالبون بإنجاز بحث معمق ومناقشته واجتياز امتحانين كتابيين لأجل السلم العالي إضافة إلى الامتحان الشفوي، كل هذا مقابل زيادة ضئيلة وغير متكافئة، وهذا يبدو مقصودا ومخططا له من أجل تشذير هذه الفئة العريضة وعرقلة اتحادها وآفاق رقيّها، لذلك - يضيف (م.ح.س)- «يجب إعادة النظر في الامتحانات المهنية وإلغاء الامتحان الشفوي بالأخص، وتعميم طريقة اجتياز المباراة بالنسبة لفئة التقنيين، خصوصا تقنيي الجماعات المحلية، والداخلية بالأخص». التقنيون المغاربة ومنطق الحصار والتعتيم الإعلاميين: لم ينحصر الإقصاء والتهميش الذي لحق التقنيين المغاربة في مجرد صمت المسؤولين عن ملفهم، فقد امتدّ إلى الصمت والتجاهل الإعلاميين أو مناولة مهام التقني وأدواره بابتسار وتجزيء واضحين، الأمر الذي ساهم في مضاعفة معاناة هذه الفئة. يقول (م.ح.س) «لم يحدث أن تحدثت قنواتنا الإعلامية الوطنية جميعها، ولو مرة، عن تقني تربية المواشي مثلا، أدواره ومهامه، أذكر حلقة برنامج الوجه الآخر التي تناولت قضية الذبيحة السرية في الدارالبيضاء، لم يتمّ إيراد دور تقني تربية الماشية في هذا المجال، رغم أنّ أغلبية التقنيين هي التي تشرف على مراقبة جودة المواد الحيوانية وذات المصدر الحيواني. التقني يكون في مواجهة يومية مع مثل هذه الأمور، ألا يتساءل الإعلام المغربي مثلا، هل الطبيب البيطري يشتغل وحده في المجال أم إلى جانب تقنيين متخصصين ؟ لماذا يتم تغييب أدوار هذا الإطار وتهميشها ؟» يضيف: « قد تتحمل الإدارة نصيبها من المسؤولية، فحين تتصل بوسائل الإعلام لا تُحضر أو تقدّم التقنيين، وإنما أطرا أخرى قد لا تكون في مواجهة مباشرة مع الساكنة، وفي اتصال مستمر بانشغالاتها ومشاكلها»، يتدخل (م.أ) «هم لا يتركوا لنا فرصة الكلام والتعبير، هناك حصار مقصود علينا». (م.ح.س) مقاطعا: « حين تحدث «الوجه الآخر» أيضا عن الغابويين، رغم إشارته إلى محنة هذه الفئة ومعاناتها إلاّ أنه لم يركز عليها، ولم يعمّق مقاربتها للمواطن (مشاكل السكن، ظروف العمل، الأخطار...) ولم يركز على الإطار كتقني، رغم أنه يرتدي بزّة عسكرية برتبة ADJUDANT إلاّ أنه تقني في الواقع، هذا مقصود في سياق التعتيم على هذه الفئة! أذكر أيضا أنّ عدة برامج في القنوات الوطنية تحدثت عن مجموعة من الفئات من قبيل سائقي الحافلات، عمال النظافة، الممرضين، المعلمين، رجال الشرطة، رجال المطافئ،الأطباء الداخليين، وحدها فئة التقنيين ظلت مغيّبة في إعلامنا المرئي للأسف». هل سيتّسع صدر الحكومة الجديدة لملف التقنيين المغاربة؟ لا تكمن كفاءة التقنيين المغاربة وعطاءاتهم في مجرد قيامهم بمهامهم ومسؤولياتهم فقط، وإنّما تنبع قيمة ما يقدّمون أساسا من ارتكازها على عمل «تضحوي» بامتياز، ينهض على عشق قوي للمجال والمهنة، بحيث لا يهمهم أحيانا أن يقدّموا نفقات أو وقتا إضافيين بشكل تطوعي من أجل إنجاز المهمة وإنجاحها، ولعلّ هذا الأمر هو ما جعل من الصعب تحديد وقت عمل التقني، فهو يشتغل في كلّ الأوقات، أحيانا يومي السبت والأحد، دون حماية أو تعويض، وهو يدرك هذا جيدا، غير أنّ العلاقة التي تجمع التقنيين بالسكان تفرض عليهم هذا النوع من التعاون والتطوع، والمجازفة أحيانا. يتحدث (م.ح.س) عن نموذج للعمل التطوعي الذي يقوم به تقني تربية الماشية في إقليم تنغير « خلال حملة التلقيح في المناطق الجبلية نستيقظ في الخامسة صباحا، أو قبلها بقليل، لأجل السفر إلى مراعي الرحّل وتلقيح ماشيتهم قبل أن تصل الشمس إلى كبد السماء فيغادرون المرعى إلى جهة أخرى، لو مكثنا حتى وقت العمل الذي يحدده القانون(الثامنة والنصف) لما عثرنا على أحد هناك». لعلّها غريزة التطوع والتعاون التي تميّز التقنيين في جميع القطاعات منذ أجيال، وهي التي تحركهم غيرة على المجال، وعلى البلاد بصفة عامة. في سؤالنا للتقنيين الأربعة - الذين فتحوا لنا صدورهم بوحا بما يعتمل فيها من شجون وشؤون- عن الآفاق والأشكال المحتملة للتفاعل مع ملفهم من قبل الحكومة الجديدة، أجمع ثلاثة منهم على أملهم في أن تلتفت هذه الحكومة في سياق «برنامجها وإصلاحاتها الهيكلية» إلى الملف الثقيل لفئة آثرت العمل التطوعي إلى جانب مهامها الرسمية من أجل تنمية البلاد، وتنفض عنه بعض ما علق به من غبار النسيان والإقصاء، بينما أعرب (س.ب) عن خشيته من تراكم كثبان أخرى من الصمت والنسيان على ملفهم القديم/الجديد، لاسيما حين تغيب إرادة سياسية حقيقية في الإصلاح بسبب الخضوع لمنطق التوازنات والتوافقات، ومصالح فئات على حساب فئات أخرى. فهل أَسْمَعَ التقنيون والتقنيات المغاربة من نادوا، أم أنّ لا حياة لمن ينادون ؟