في الحقيقة لم تتح لي الفرصة لقراءة أعمال الروائي المغربي فؤاد العروي والتي تعد بعشرات العناوين، والذي يعيش بالهجرة منذ سنوات ككاتب وباحث، وحاضر أيضا في الإعلام ،وبدأ يأخذ مكانه ومكانته كأحد أكبر الكتاب الناطقين بالفرنسية.وقد كان من بين الكتاب المرشحين للائحة الكونغور الفرنسية. وهي إحدى أرقى الجوائز الأدبية الفرنسية. وهي اعتراف بهذا الكاتب المغربي الذي ليس في بدايته، بل وصل عدد أعماله الروائية إلى 17 لحد الآن . وأول عمل قرأته له كان: «سنة عند الفرنسيين» ،الحقيقة ما جذبني هو العنوان والاهتمام بقضايا الهجرة والكتابة حولها.اعتقدت في البداية أن الرواية هي حول مهاجر أو طالب مغربي بالهجرة،لاكتشف أن الأمر يعني هجرة أخرى. وهي هجرة بعض مغاربة الداخل لدراسة بالبعثات الفرنسية بالمغرب.وهي هجرة حقيقية تنقل وقائعها هذه الرواية الجميلة والجذابة،التي تحكي كيف يعيش مغربي من بني ملال من منطقة الأطلس،وهو المهدي كتيم بطل الرواية،حيث تفوق في دراسته الابتدائية ليحصل على منحة تؤهله إلى الدراسة بالسنة الأولى إعدادي في البعثة الفرنسية بالدار البيضاء ،أي «سنة وسط الفرنسيين «، حيث يعيش خلال سنة داخل عالم فرنسا بالدار البيضاء بمدرسيه ،وحراسه ونمط عيشه داخل الأقسام الداخلية ونظام التغذية وكل ما يحيط به من جزئيات وكذلك نوعية العائلات الفرنسية المستقرة بالمغرب . الراوي المهدي، ينقل لنا -بدقة وبلا إضافات- فضاء هذا العالم، باستعماله تقنية الفكاهة والنكتة والهزل. ينقلنا إلى عالم العيش وسط الفرنسيين.والمهدي وجد نفسه بينهم بفعل كفاءته ونبوغه،حيث منحه تفوقه وولوعه بالقراءة منحة مكنته من الدارسة بين الفرنسيين المغتربين بالمغرب وبين أبناء الأعيان، الذين اختاروا تعليم أبنائهم مع أبناء الفرنسيين بنمطهم الدراسي و ثقافتهم. ومؤسسة البعثة الفرنسية -حسب الراوي- هي جزء مصغر لفرنسا من خلال النظام الداخلي الذي يسيرها ونظامها الإداري ،وكذلك طبيعة الحياة داخلها.وهو ما شكل صدمة ثقافية للمهدي منذ البداية. المهدي يصل إلى مدرسة البعثة بالدار البيضاء بدون مرافق،ليجد هذا الطفل نفسه أمام عالم غريب ويبدو منذ الوهلة الأولى بعيدا عنه ،يصف طريقة استقباله من طرف حراس المؤسسة والحارس العام،وحضوره من دون أحد أعضاء أسرته بالإضافة إلى حقيبته المتلاشية.كان المهدي رفقة ديكين هنديين « بيبي» وهي عادة كانت عند الأسر المغربية القروية، حيث كان الديك الهندي بمثابة هدية ثمينة وعربون للكرم. لكن هذه الهدية لا تعني شيئا عند الفرنسيين. المهدي أوصله إلى المؤسسة أحد الأقارب المختار والذي تركه ليجد نفسه في وضعية إحراج بفعل هذين المرافقين الغريبين، وهو وصول سوف يصبح نكتة تحكى من طرف اصدقائه. بالإضافة إلى أن موظفي البعثة لم يفهموا كيف وصل إليهم هذا التلميذ دون مرافق آو أحد أفراد العائلة للحديث إلى الإدارة.فؤاد العروي، يستعمل أسلوب الهزل منذ بداية روايته لوصف لقاء هذين العالمين المتناقضين ،وكيف سوف يستعمل المهدي الهزل والنكتة واللعب بالكلمات لحل لغز هذا العالم.فؤاد العروي سوف يستعمل أسلوب و تقنية تذكر بالكاتب الفرنسي مونتيسكيو الذي كان ينتقد الفرنسيين من خلال استعمال أسلوب فكاهي ،هزلي في « الرسائل الفارسية». المهدي يحكي بتفصيل نظام المؤسسة ومرافقها.وكيف وضع الطاقم المسؤول عن القسم الداخلي لتلاميذ في وضعية حرجة لعدم توفره على الحاجيات اللازمة من ملابس وغيرها بالإعداد المطلوبة في النظام الداخلي، وهذا اللقاء لتلميذ قادم من أحد المناطق المغربية النائية إلى أحد أكبر المؤسسات الثانوية لفرنسية بالدار البيضاء، هو في الحقيقة لقاء بين عالمين ،بين ثقافتين.والكاتب يصف هذين العالمين ،والتناقض بينها بدون إصدار أحكام قيمة ويسهر فقط على إبراز الاختلاف دون تعليق أو تفضيل لأحدهما عن الآخر،حتى وإن كان المهدي أحيانا طرفا يدافع عن نظرته وتصوره للأشياء. طبعا منذ البداية ينقلنا المهدي إلى التناقضات والاختلافات التي يحملها المهدي من المجتمع المغربي مع مؤسسة تمثل فرنسا بثقافتها ونمط عيشها والتي تعتبر وسيلة أساسية من وسائل استمرار وبناء المجتمع الفرنسي كما ذكر ذلك لوي التو سير حول دور المدرسة في المجتمع.كما أن الشخصيات المكونة لرواية كل منها يحمل جزءا من تاريخ فرنسا سواء الاستعماري آو غيره. ميلود الحارس وهو في نفس الوقت أحد قدماء حرب الفيتنام التي أقحمت بها فرنسا العديد من الجنود المغاربة.وشخصية موريل بكل تناقضاتها ووهو أحد «الأقدام السود» أي الفرنسيين المزدادين بالجزائر وما لهم من خصائص بفعل هذا الانتماء الجغرافي.كما أنه خلال عدة فصول سوف يعطي المهدي وصفا عن كل أستاذ من الأساتذة الذين سيدرس عندهم في سنته الأولى في مختلف التخصصات ومختلف انتماءاتهم الايديولوجية بين الشيوعي والليبرالي والعلاقات المعقدة التي تحكم هذا العالم المصغر لفرنسا وأحكام القيمة السائدة عند بعضهم حول المغرب وثقافة المغاربة وحول باقي العالم التي تتسم أحيانا بالعنصرية في النظرة إلى الآخر وكل ماهو غريب. المهدي الذي كان يجد نفسه غريبا في هذا العالم الفرنسي، سوف يتمكن خلال السنة من الاندماج في هذا العالم بل الانغماس به وهو ما عكسته علاقته بعائلة دوني لوبيرجي زميله في القسم ،حيث عاش المهدي خلال العطل داخل هذه الأسرة الفرنسية ووصوله لها في البداية يبرز أيضا اللقاء بين عالمين ،ووصول المهدي إلى هذا العالم كان بالصدفة، لأنه لا شيء يمكن أن يجمع بين المهدي وعائلة دوني بيرجي،ووسط هذه العائلة الفرنسية وهي من أسرة مقاول مستقر بالمغرب، سيكتشف المهدي هذا التمايز بين عالمين ،بين ثقافتين، بين نمطين للعيش واختلاف في العلاقة التي تربط الأسرة بالأطفال.وكذلك العلاقة المعقدة بين هؤلاء الفرنسيين والمغاربة المحيطين بهم، وتأثير هذه العلاقة على علاقة المهدي زميل طفلهم دوني. هنا سيكتشف المهدي العالم الآخر لثقافة الفرنسية ونمط عيشها من المدرسة إلى الأسرة والتي لا تختلف كثيرا عن المدرسة والتكامل الموجود بينها. وسيتمكن المهدي من أن يصبح جزءا من هذا العالم لحد التماهي. لكن بعد ذلك ،كان على المهدي إيجاد المسافة في علاقته بهذه الثقافة وهذا العالم .وهنا انتقل المهدي إلى قضاء العطلة من عند عائلة زميله الفرنسي دوني إلى عائلة أحد أقربائه الطيب ، وهي فرصة لطفل ليكتشف عالم المغاربة بالمدينة،وكيف تم استقباله داخل أسرة الأقارب بكل الحفاوة والتلقائية المغربية وكيف يتم التعامل معه ونوعية التسلية من النزهة في البحر عبر يخت لدى عائلة دوني إلى متابعة مبارة لكرة القدم للاتحاد البيضاوي ضد فريق الجمارك، أيام كان العربي الزاولي مدربا للفريق وهو ما يحيل إلى جزء من الذاكرة البيضاوية.ما عاشه المهدي في عائلة الطيب جعله يدرك الفرق الشاسع بين عالمين :عالم عائلة الطيب بحي شعبي بالمدينة القديمة بالدار البيضاء وعائلة دوني في مرتفعات أنفا بالدار البيضاء .وكان الطفل المهدي أيضا يستمع لأحكام القيمة سواء من السيدة دوني تجاه كل ما هو شعبي ولا ينتمي إلى عالمه كما تتصوره وكذلك أحكام القيمة لطيبي حول «الكفار» والحياة «غير الشرعية « بين النساء والرجال دون غطاء شرعي، المهدي كان يكتفي بملاحظات أحكام القيمة لكل عالم تجاه العالم الآخر.في مؤسسة سوف تنتج جزءا من النخبة الفرنسية والمغربية.ودائما باستعمال الأسلوب الهزلي والفكاهي الذي يسقط فيه المهدي وقدرته على استعمال الكلمات الفرنسية الجديدة حتى دون أن يدرك أحيانا معناها. في الأخير يحكي الراوي صورة المهدي مع أمه التي حضرت التكريم الذي يتم في أخر السنة ،وهي لحظة نضج في علاقة المهدي بهذا العالم وقدرته على إيجاد مسافة بل علاقة ناضجة مع ثقافته الفرنسية التي يتكلم بها ويحلم بها رغم الإحباطات الكثيرة التي اعترضته طيلة السنة وبين ثقافته وانتمائه المغربي.هذا التكريم الذي سوف يستفيد منه المهدي بفضل عمله المتميز واللقاء بين عالمين لا يفهمان بعضهما البعض . نصائح أستاذ الرياضيات الذي يقول لأم المهدي «أمام ابنك مستقبل يأخذه في طريق ملكي نحو كبريات المدارس الفرنسية لنخبة»، لكن أم المهدي لا تدرك مفاتيح هذا العالم وهذا المدارس التي تتقاتل من أجلها نخبة الأسر الفرنسية لوضع أبنائهم بها وضمان مستقبلهم المهني ، هذه النصائح والمعلومات لا تعني شيئا بالنسبة لأم المهدي، ما يهم هو أن ابنها يدرس بجدية ويحصل على الدرجة الأولى.المشهد المهم بهذه الرواية هو لقاء أم المهدي وأم زميله دوني وهو لقاء بين عالمين يجهلان بعضهما البعض.وهما عالمان يعيش بينهما المهدي منذ الآن ،لكنهما عالمان بعيدان عن بعضهما البعض. هذا التباعد بين هذين العالمين استعمل فؤاد العروي تقنية الفكاهة لإبراز تناقضاته دون أن يسقط في أحكام القيمة،بل إنه يطرح قضايا جد معقدة ومحل خلاف مثل تأثير الاستعمار ،الازدواج الثقافي،أحكام القيمة العنصرية ،هذه الملفات العالقة بين الثقافة المغربية والفرنسية ،تمكن الكاتب من طرحها بحكمة وباستعمال أسلوب المزح والنكت ودون إعطاء دروس لأحد.