تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    ترامب يؤكد التصدي للتحول الجنسي    حداد وطني بفرنسا تضامنا مع ضحايا إعصار "شيدو"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    توقيف شخص بالبيضاء بشبهة ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير        تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الربيع العربي والفوضى الخلاقة، هل يؤديان إلى الشرق الأوسط الكبير؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 11 - 2011

لعل أكثر المصطلحات السياسية التي جرى تداولها ، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط خلال العشرين سنة الأخيرة هي : ( الشرق الأوسط الكبير )
و ( الفوضى الخلاقة ) و (الربيع العربي ) . ونظرا لارتباط هذه المصطلحات ببعضها وخطورتها على حاضر ومستقبل أمتنا وعموم المنطقة، لا بد لنا من إلقاء أضواء على هذه المصطلحات قبل أن ندخل في توضيح مخاطرها ومسارها وصيرورتها.
الفوضى الخلاقة
CREATIVE CHAOS
يكاد يجمع المهتمون بالشؤون الإستراتيجية على أن هذا التعبير قديم ، بل وقديم جدا ، فيرى البعض أنه ورد في كتابات ميكافيللي صاحب كتاب «الأمير» ونظرية الغاية تبرر الوسيلة ، ويرى البعض الآخر أنه أخذ مجراه العملي أيام الثورة الفرنسية عندما أكلت الثورة أبناءها ، وهناك من يقول إن جانبه الاقتصادي ورد في كتاب عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شامبيتر عن الرأسمالية والاشتراكية عام 1942 ، وهناك من يقول بأن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر تحدث عن الفوضى الخلاقة من خلال كتاباته عن الوجودية والفوضوية .
الأمر المؤكد أن هذا المصطلح انتشر في منطقتنا في هذه الفترة على يد المحللين والساسة الأمريكيين ، ويقول البعض إن أول تجسيد له بدأ في عهد الرئيس جورج بوش الأب بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 ، ويرى البعض أنه ابتدأ في عهد الرئيس جورج بوش الابن بعد سقوط بغداد عام 2003 ، ولعل أبرز الإشارات إليه جاءت على لسان كوندوليزا رايس / وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الابن في حديث أجرته مع صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في أبريل عام 2005 . وتختلف التعريفات التي أعطيت له ..
فهناك من عرفه بأنه حالة سياسية أو إنسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث .
وهناك من قال إنه عملية اختلاق المشاكل وتفعيلها بصورة منظمة من قبل فاعل خارجي يريد إعادة ترتيب أوضاع معينة . وقالت جهة ثالثة بأنه عملية إشاعة الفوضى السياسية والاجتماعية والأمنية في المجتمعات لتتم السيطرة عليها بأقل مجهود . وقالت جهة رابعة بأنه مصطلح موجود في الماسونية وعقائد الإلحاد والشرك انتشر مع غزو العراق ويقصد به تكوين حالة اجتماعية وفق نمط معين .
ومهما اختلفت التعريفات، فإن الفوضى الخلاقة هي نوع من العولمة ، تهدف إلى تدويل الغضب من أجل تحقيق أهداف تتعدى القطرية والإقليمية . إنه سلاح أمسكت به الإدارة الأمريكية في حقبة هيمنة ( المحافظين الجدد ) الجماعة أو العصابة الأمريكية اليمينية المسيحية الصهيونية التي كان على رأس مخططاتها تشييد الإمبراطورية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم ، وأرادوا من خلال تفعيل هذه الفوضى الخلاقة تجسيد مخطط ( الشرق الأوسط الكبير ) الذي يبتدئ منه تنفيذ المخطط الأمريكي الكوني .
الشرق الأوسط الكبير
من المعروف أن الأراضي العربية التي كانت خاضعة لحكم الدولة العثمانية تم اقتسامها في نهاية الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا وفقا لاتفاقية ( سايكس بيكو ) الموقعة في مايو 1916 . وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ، كان متوقعا أن يعاد تقسيم منطقة الشرق الأوسط وفق ميزان القوى الجديد ، ولكن ذلك لم يكن ممكنا في فترة الحرب الباردة مع الكتلة الاشتراكية .وبعد انهيار الإتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو مما أشر على انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم ، بدأت مراكز الأبحاث والتخطيط تعد الخرائط لإعادة تقسيم المنطقة وفق المنظور الأمريكي وبما يخدم مصالحها ، ووصلت إلى مرحلة التنفيذ في عهد الرئيس جورج بوش الابن .
ففي خطاب ألقاه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول يوم 12 دجنبر 2002 ، أعلن عن مبادرة شراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط تتوخى ( تشجيع المشاركة الشعبية في العملية السياسية ، ومساعدة المؤسسات التعليمية والتربوية في أرجاء الشرق الأوسط ، ومكافحة الأمية ، ومؤازرة حقوق المرأة ، ودعم القطاعين العام والخاص على تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاستثمار ) . وبعدها أعلن مارك غرو سمان نائب كولن باول عن عزم الولايات المتحدة تخصيص مئة مليون دولار لمبادرة الشراكة الشرق أوسطية . وفي 9 مايو 2003 أعلن الرئيس بوش عن مقترح إقامة منطقة تجارة حرة مع الشرق الأوسط خلال عشر سنوات .
وبالرغم من عدم توفر صيغة رسمية لهذا المشروع فإنه بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، يستهدف إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وفق المنظور الأمريكي الذي تشكل بعد أحداث 11 شتنبر 2001 وأعطى الأولوية لما سمي بإستراتيجية مواجهة الإرهاب. وينطلق المشروع الأمريكي مما ورد في تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية لسنتي 2002 و 2003 وخاصة في فقرته التي تقول ( يمثل الشرق الأوسط الكبير تحديا وفرصة فريدة للمجتمع الدولي . وساهمت النواقص الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة المذكورين ( الحرية المعرفة المرأة ) في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية. وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة المشروعة. إن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في الشرق الأوسط الكبير مروعة ).
هذا ما أريد له أن يعرف عن المشروع ، ولكن حقيقة الأمر تظهر في ما كتبته جريدة لوس انجلوس تايمز الأمريكية يوم 1 شتنبر 2002 عند ما قالت إن إحدى الركائز الأساسية لفكر المحافظين الجدد ( تمركزهم حول المصالح الأمريكية الإسرائيلية بشكل مفرط ، وأن رؤيتهم تقوم على حماية أمن وسلامة دولة إسرائيل عن طريق تدخل أمريكي كبير لإعادة رسم خريطة المنطقة ، يبتدئ بغزو العراق ، ثم الانطلاق لبسط نفوذها على المنطقة ، وفرض تحولات سياسية داخلية على دول المنطقة الرئيسية مثل سوريا والسعودية ومصر وإيران ، وفرض حل للصراع العربي الإسرائيلي ) .
الربيع العربي
من المعروف أن ( الربيع ) كتعبير سياسي أتى من ( الربيع ) كفصل يشهد تفتح الأزهار وتبرعم الأشجار ، أي أن التعبير السياسي للربيع يعني بدء مرحلة تفتح جديدة أكثر إيجابية وأغزر مكتسبات للجماهير وتحقيق قدر مهم من الإنجازات على طريق تحقيق طموحات هذه الجماهير .وأقدم ما تحمله الذاكرة المعاصرة من ثورات أو انتفاضات حملت اسم ( الربيع ) هو ما شهدته تشيكوسلوفاكيا عام 1968 في محاولة للتملص أو الافتكاك من حلف وارسو وحكم الحزب الوحيد والتي أطلق عليها ( ربيع براغ ) ، وكانت نهايتها الفشل، لأن الإتحاد السوفياتي كان لايزال الطرف الثاني في قيادة العالم الثنائي القطبية ، أي أنه وهو يقود حلف وارسو كان في ذلك الوقت قادرا على إخماد أي صوت معارض له .
والربيع العربي ابتدأ في تونس بمظاهرات سيدي بوزيد في 18 دجنبر 2010 بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه بعد مصادرة عربة الخضار التي كان يعتاش منها وعندما ذهب ليحتج صفعته مسؤولة في البلدية . ثم انتقل إلى الأردن يوم 14 يناير 2011 وبعدها بأيام إلى الجزائر وعمان ووصل في 25 يناير إلى مصر ، وانتقل إلى اليمن في 11 فبراير ثم البحرين في 14 فبراير ثم ليبيا في 17 فبراير ثم المغرب في العشرين من نفس الشهر، وكانت آخر محطاته حتى الآن سوريا التي ابتدأ ربيعها في 17 مارس.
ولا شك أن هناك أسبابا موضوعية كثيرة أدت إلى خروج الجماهير في تجمعات ومظاهرات ومسيرات واعتصامات حاملة شعارات ومرددة هتافات أيام الجمعة والأحد ثم في سائر الأيام التي أصبحت تحمل أسماء لها دلالات خاصة مثل : يوم الغضب يوم الأحرار يوم الثبات يوم الوفاء يوم النصر ... الخ . فقد تعبت الجماهير العربية مما حملته على أكتافها عشرات السنين ولم تعد قادرة على حمله أكثر ، وضاق صدرها ولم يعد لديها استعداد لأن تصبر أكثر ، ووصلت إلى قناعة بأن انتظار تصحيح الأوضاع بشكل سلمي وطبيعي وديمقراطي انتظار غير ذي معنى أو فائدة ، وأن الخوف من العقوبة لا يمنع وقوع العقوبة وأن الصبر على مرارة الدواء تقي من استمرار معاناة الأدواء.
لقد كانت هذه الأسباب تتطلب إجراءات سريعة وجذرية من أجل إصلاح يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، يسمح بالتعامل مع أوضاع كل قطر على حدة مع انتظامه في نسق عام يسمح بخلق تعاون إقليمي يجعل الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط أكثر فاعلية على الصعيد الدولي ويساهم في حل القضايا الإقليمية وفي مقدمتها قضية فلسطين. وكنا في غنى عن إصلاح قادم من وراء المحيطات لا يستهدف إلا جعلنا أكثر قدرة على خدمة المصالح الأمريكية وأكثر رضوخا لأوامرها وإملاءاتها وأكثر قبولا لربيبها الكيان الصهيوني .
عوامل داخلية وأخرى خارجية
ولكن طبيعة الأنظمة الحاكمة في غالبية أقطارنا العربية لم تكن تتيح لها سماع صوت الجماهير وتفهم مطالبها ، حيث أنها لم تصل إلى سدة الحكم بطريقة ديمقراطية ووفق ما تفرزه صناديق الاقتراع ، فلم تعمل على إقامة دولة الحق والقانون والمؤسسات . وانشغلت بالنهب والإثراء وتركت الغالبية العظمى من شعوبها تحت مستوى خط الفقر رغم ثراء بلدانها الفاحش ، واستخدمت القوة المفرطة وأبشع أنواع البطش والتعذيب بحق كل من يستشم منه رائحة الامتعاض من السياسات المتبعة ، فأصبحت الشعوب العربية بين راضخ مستكين للعنف الممارس ضده ، أو مهاجر خارج وطنه ، أو قابع في سجون وزنازن الأنظمة ، ففقدت بذلك احترام شعوبها والتفافها حولها وقبلت أن يكون ضامن بقائها على كراسي الحكم مظلة خارجية لها أهدافها ومخططاتها الخاصة المختلفة كلية عن أهداف ومطامح الجماهير العربية . ومن الطبيعي أن تتصرف هذه القوى الخارجية وفق مصالحها ، بحيث أنها عندما تشعر في أي وقت بأن الحاكم لم يعد قادرا على خدمة مصالحها بشكل جيد فإنها سترفع عنه الغطاء وتبحث عن بديل آخر قادر على أن يؤدي نفس الدور بكفاءة أكبر.
وزاد من صعوبة الوضع ، بروز قوتين إقليميتين استغلتا الضعف العربي وبدأتا البحث عن حصتهما من الكعكة العربية التي تخيلتا أنه ليس لها مالك ، وأعني بهما إيران التي أرادت تحقيق مآربها من خلال الوجود الشيعي الحاكم في العراق والمؤثر في لبنان ومن خلال دعمها لبعض الحركات الإسلامية في فلسطين وغيرها . أضف إلى ذلك تركيا التي لم تنس بعد مجدا سالفا للإمبراطورية العثمانية وحكمها أربعمائة سنة للمنطقة العربية ، ولايزال يساورها الحنين لأن تكون عنصرا فاعلا في تقرير مصير المنطقة وأخذ نصيبها من ( المال السايب ) ، أو على الأقل استخدام ذلك للضغط على الإتحاد الأوروبي لقبول عضوية تركيا فيه .
ورغم كل ما يقال عن عداوة الولايات المتحدة ودول الغرب عموما لإيران ، فإنني لا أعطي ذلك أهمية كبيرة لأنني أرى أن هذه العداوة متفاهم عليها ، لأنها تخدم مصلحة أمريكا حيث أن تضخيم القوة العسكرية والخطر الإيراني يجعل كل دول المنطقة تطلب ود أمريكا لحمايتها من الخطر الإيراني ، وتخدم مصلحة إيران بإطلاق يدها لحصول على حصة كبيرة ( بقبول أمريكي ) من مقدرات العراق ، وتستمر في برامجها النووية المعروفة سلفا من قبل الأمريكيين . وبالنسبة لتركيا فإنها أولا وآخرا عضو في حلف الناتو ولا تتعدى في مواقفها من الكيان الصهيوني مهما فعل سوى( إظهار الغضب ) أو ( التعبير عن الأسف ). ولا داعي للحديث عن الدور الإسرائيلي الذي هو أولا وأخيرا جزء أو مكمل للدور الأمريكي .
وجرت الأحداث بشكل دراماتيكي ، بحيث فر حاكم تونس وسجن حاكم مصر وقتل حاكم ليبيا ومازالت شوارع اليمن وسوريا تتضمخ يوميا بدماء الشباب المنتفضين . ورغم سعادة الجماهير العربية بوضع حد لمنكر طال انتظار تغييره ،وليل تأخر انبلاج فجره إلى الحد الذي (هرمنا ) ونحن ننتظره ، فإن النتائج التي أسفر عنها الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا وما جرى قبلها وأثناءها في العراق والسودان ، تجعلنا نمعن التفكير في ما ذكرناه في الفقرات السابقة عن الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير .
فقد أصبحنا نرى من هب ودب ينزل إلى الشوارع المطالبة بالتغيير مع أن كثيرين منهم كانوا إلى وقت قريب من أزلام وأدوات الأنظمة ، وأصبحنا نرى تطاحنا بين العديد من القوى الإسلامية الراديكالية والإسلامية المعتدلة والماركسية اللينينية والاشتراكية والقومية والوطنية وكل واحدة منها تدعي الريادة والقيادة ، ورأينا بعض هؤلاء الشباب من السذاجة والغرور بحيث يتصور أن التاريخ يبتدئ من لحظة نزوله إلى الشارع ، وأن كل ما عداه جاهل وغير قادر على تدبير شؤونه ، وأصبحنا نرى دولا لا يزال حكامها يحكمونها بقوانين القرون الوسطى تتصدر القوى المؤيدة والداعمة للانتفاضات ( المطالبة بالحرية والديمقراطية ) ، بل وتشارك بأموالها وقواتها وقنواتها الفضائية لإزاحة هذا الحاكم أو ذاك . وأصبحنا نرى مؤتمرات ولقاءات دولية وإقليمية عديدة تعقد على الأرض العربية وخارجها لتنظيم المعارضة ودعمها، وتتواضع القوى العظمى وتقبل أن تكون مجرد عضو في تحالف دولي تقوده دولة يقل عدد مواطنيها عن ثلث سكانها .
أمريكا والإسلام المعتدل
والأخطر من ذلك ما رأيناه يطفو على السطح من دور خطير أمريكي وأوروبي كدول ومجتمعة في حلف الناتو ، والذي لولاه لما أمكن إنهاء حكم القذافي . ونتساءل هل اكتشفت دول حلف الناتو فجأة أن بعض الحكام العرب ديكتاتوريون ولصوص ؟ ومنذ متى كانت هذه الدول حريصة على حرية وديمقراطية ورفاهية الشعوب العربية ؟ وهل تستطيع هذه الدول الاستمرار في نهب خيراتنا لو استعادت الشعوب العربية إرادتها واستقلت بقرارها ؟ . وأول ما يثير الشكوك هو الموقف الأمريكي المستغرب من الجماعات الإسلامية التي كانت إلى وقت قريب بالنسبة إليها كلها ( إرهابية ) لا فرق بين تنظيم القاعدة ولا حركة الإخوان المسلمين بكل تفريعاتها ولا الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خاصة بعد تفجيرات 11 شتنبر 2001 .
ففي لقاء تم يوم 5 نونبر 2011 في منتدى ( المجلس الأطلسي ) وهو معهد للأبحاث في واشنطن مع السيد وليم تايلور الذي عينه الرئيس الأمريكي باراك أوباما كمنسق خاص لانتقال السلطة في الشرق الأوسط ، وجه له سؤال يقول : هل ستكون واشنطن راضية إذا أسفرت انتخابات برلمانية نزيهة في مصر عن فوز الإخوان المسلمين ؟ أجاب: نعم سنكون راضين . إن ما يتعين علينا فعله هو أن نحكم على الناس وعلى الأحزاب والحركات بناء على أفعالها وليس على مسمياتها.
وفي يونيو 2011 صرحت السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية أن واشنطن أجرت اتصالات محدودة مع جماعة الإخوان المسلمين ، في إطار مسعاها للتكيف مع التغييرات السياسية التي تحصل في مصر .
وفي 27 مايو 2011 التقى اثنان من كبار قادة حركة الإخوان المسلمين الدولية وهما المصري كمال الهلباوي والأردني همام سعيد في أنقرة مع مسؤولين في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية .
وهنا يجدر بنا التوقف عند حوار أجرته صحيفة الأهرام المصرية مع الأستاذ محمد حسنين هيكل في أكتوبر 2011 ،قال فيه ( إن الاعتراف الأمريكي الغربي بالإخوان المسلمين لم يأت قبولا بحق لهم ولا إعجابا ولا حكمة ، لكنه جاء قبولا بنصيحة عدد من المستشرقين في مقدمتهم برنارد لويس ، لتوظيف ذلك في تأجيج فتنة مذهبية في الإسلام ليستكمل عزل إيران في العالم العربي والإسلامي). وبحسب ما يراه الأستاذ هيكل فإن السياسة الأمريكية حاولت تنفيذ نصائح برنارد لويس عبر توظيف قادة وزعماء عرب لتغيير طبيعة الصراع في المنطقة من صراع ( عربي إسرائيلي ) إلى صراع ( عربي فارسي ) ، ولكن فشل هؤلاء القادة جعل الإدارة الأمريكية تتجه نحو تشجيع وتوسيع عملية المواجهة بين جماعات سنية وجماعات شيعية وبين مجموعات إسلامية وأخرى مسيحية ، مع الاعتراف بحركة الإخوان المسلمين وقبول مشاركتهم فيما كان محظورا عليهم من قبل .
يضاف إلى ذلك أنه أمام عجز الولايات المتحدة عن القضاء على تنظيم القاعدة عبر الأنظمة الحاكمة في المنطقة ، ورغم استخدام أحدث وأفتك الأسلحة وتسخير ملايير الدولارات، فإنها بدأت تستمع وتستجيب لآراء ومقترحات المستشرقين ومراكز الأبحاث الإستراتيجية التي أشارت بوجوب تسخير جماعات إسلامية أخرى ( معتدلة ) لمواجهة تنظيم القاعدة (الراديكالي )، مما استدعى استئناس أو تدجين هذه الجماعات أولا عبر فتح قنوات سرية معها ثم لا بأس من تسريب أخبار هذه القنوات مما يشكل اعترافا علنيا بهذه الجماعات . وعندها ستحس هذه الجماعات بأنها أصبحت طرفا مهما وتكبر طموحاتها لتصل إلى حد الحلم بالوصول إلى الحكم ، فتصبح بسبب فرحتها بهذا الاعتراف أكثر استعدادا للتعاون وتقديم الخدمات ، وتنسى شعاراتها السابقة المعادية للأمريكيين ، وليس مهما عندها أن تعرف أسباب التغير المفاجئ في الموقف الأمريكي منها.
ولما كانت حركة الإخوان المسلمين هي أقدم هذه الجماعات وأقواها حيث تأسست عام 1928 ولم تستطع الوصول إلى الحكم في أي من الأقطار الإسلامية ( باستثناء إمارة قطاع غزة) ولها فروع في معظم البلدان الإسلامية ، ولها قدرة مالية وإعلامية كبيرة ، في مقدمتها قناة الجزيرة في قطر ، فقد اتجه الأمريكيون مباشرة إلى حركة الإخوان المسلمين . ولكن الحركة وإن كانت قد أظهرت قبولا بالخطوة الأمريكية ، إلا أنها لايزال يتنازعها تياران قويان أولهما تيار راديكالي لا يزال ينظر إلى الولايات المتحدة كعدو ويقول بأنه لا ثقة بأمريكا ولا يرى مانعا في التعاون مع إيران ، والثاني يقول بأن الولايات المتحدة قادرة على إيصالهم للحكم فلماذا لا يتحالفون معها ؟ وبعد ذلك لكل حادث حديث كما يقول مبدأ التقية .
إن مجريات الأمور في منطقتنا العربية وخاصة بعد أحداث تونس وليبيا ومصر تقول بأن التيار الثاني في حركة الإخوان المسلمين هو الذي تغلب ، وأن تعاونا أو تنسيقا أو عدم تعارض يتم بين الإدارة الأمريكية وحركة الإخوان المسلمين ، لم يعد الأمريكيون مضطرين لإنكاره أو التنصل منه ، ما دام أنه أصبح يعطي ثمارا تغري بعضا آخر من الجماعات الإسلامية في بعض الأقطار العربية والإسلامية لأن تنخرط فيه .
وهذا يدفعنا إلى التفكير مليا بما قاله فيتالي ناعومكين / رئيس معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية في حديث لوكالة نوفوستي الروسية للأنباء يوم 8 نونبر 2011 : ( أصبح جليا أن الربيع العربي يغير الحكومات العلمانية إلى حكومات إسلامية ) وعندما قال أن البديل الوحيد للإسلاميين حاليا هو النخبة العسكرية ( لأن العسكريين والإسلاميين هما القوتان الأكثر تنظيما في بلدان الشرق الأوسط حتى الآن ، وإلا فإن الفوضى العامة هي التي ستسود ).
ذلك أن التنظيمات الإسلامية أقدر على ضبط أعضائها ولملمة أي تشرذم يحدث داخلها ، وتستطيع أن تلزم أعضاءها بتنفيذ القرارات الصادرة عن الجهات القيادية وفرض مرشحين معينين وإلزام الأعضاء بالذهاب إلى مكاتب الاقتراع والتصويت لهؤلاء المرشحين . بعكس الجماعات العلمانية من يسارية وقومية ووطنية التي تعاني من تشرذم يصل إلى حد التسيب والانفلات ، مما يجعلها غير قادرة على ضبط أعضائها للالتزام بمرشحين محددين والذهاب يوم الاقتراع للتصويت لصالحهم .. مما يتيح الفرصة للجماعات ( الحديدية ) وفي مقدمتها الجماعات الإسلامية للفوز . وقد تجلى ذلك عمليا في آخر انتخابات تشريعية في فلسطين عندما فازت حركة حماس ، وفي انتخابات المجلس التأسيسي في تونس حيث فازت حركة النهضة .
«في الآخر ما يبصح إلا الصح»
إن ما يجري في المنطقة العربية حراك سريع وعنيف سيؤدي لا محالة إلى تغيير عميق في المنطقة بل والعالم ، وهو حراك محفوف بالمخاطر الداخلية والخارجية. وأنا لا أريد أن أغرق في السوداوية وأنا أرى غالبية الحكام العرب يمالئون الإدارة الأمريكية إن لم أقل ينفذون أوامرها ، ورغم وجود بعض العملاء أو الانتهازيين وبعض الجماعات الإسلامية والعلمانية التي تريد ركوب موجة الربيع العربي ، ورغم تدافع محترفي المعارضة الخارجية المريحة بغية الوصول إلى الحكم في أقطارهم ولو على ظهور الدبابات الأطلسية.. لأنني أرى في نفس الوقت شبابا ممتلئا إصرارا وحيوية يملأون الساحات العربية بهتافاتهم وشعاراتهم ويضخموها بدمائهم .. هؤلاء الشباب أرى أنهم إذا كانوا ثاروا على ظلم واستبداد حكامهم، فإنهم لن يقبلوا أن تعود بلادهم إلى حقبة الاستعمار المباشر أو الهيمنة من جديد. لقد انكسر حاجز الخوف، واستعادت الجماهير قدرتها على التصدي والتحدي، وعاد نهر التضحية والفداء والاستشهاد إلى الجريان.. والمثل الفلسطيني يقول ( في الآخر ما بيصح إلا الصح ).
(عضو المجلس الوطني الفلسطيني)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.