الصحة النفسية بالمغرب: تحدث النار من مستصغر الشرر أصبحت تقرع الأجراس بشدة في الآونة الأخيرة بشأن واقع الأمراض النفسية والعقلية بالمغرب، فالمريض العقلي أو النفسي بات مثل قنبلة موقوتة تعيش بيننا، في غياب تام لأي تشخيص طب - نفسي، أو متابعة علاجية حقيقيين وفق ما هو متعارف عليه عالميا. وإذا أضفنا إلى ما سبق، التمثل السائد اجتماعيا حول هذه الأمراض، والذي يتوارد تلازميا مع مصطلح «الجنون» ( وهي بالمناسبة كلمة لا تستعمل في تقسيمات الطب النفسي الحديث، وليس لها معنى علمي محدد وواضح)، وهو تمثل سلبي ساهمت في تكريسه مجموعة من القنوات ضمنها السينما العربية والعالمية التي رسمت في أحيان كثيرة صورة شائهة للطب النفسي والطبيب النفسي، وأمعنت في ترهيب الناس من المرض النفسي ، واستنبات بعض المفاهيم الخاطئة بصدده، فإنّ الصورة تبدو قاتمة إلى مدى بعيد من جهة، كما تكشف حجم العبث واللامبالاة التي تشوب تعاطي الدولة مع هذا الملف الحساس والخطير من جهة أخرى. إنّ كل ما ذكر، علاوة على وضعية الطب النفسي المقلقة في المغرب، إن على مستوى الخصاص المهول في الأطر، أو التجهيزات والبنيات التحتية، يجعل الأمر في غاية الخطورة، لاسيما وأنّ هناك العديد من المرضى العقليين والنفسيين الذين يتجولون داخل المجتمع بكل حرية، حتى أنهم أضحوا يشكلون خطرا قائما سواء على أنفسهم، أو على الآخرين، وما عدد الجرائم والانتحارات المتفاقمة التي ترتكب من طرف هؤلاء سوى مؤشر بليغ على فداحة الوضع. لقد ظلّ المريض النفسي والعقلي يعاني من سوء الفهم، وغياب الجدية والمسؤولية سواء من طرف المجتمع، أو من لدن أسر المرضى وذويهم، بل حتّى من قبل الأطباء النفسيين أنفسهم، ما داموا في كثير من الأحيان لا يقومون بتشخيص إكلينيكي حقيقي، ويكتفون باقتراح أو وصف العلاج الدوائي فحسب. قد تبدو هذه الأمور بسيطة للبعض أو متضخّمة بالنسبة للبعض الآخر، غير أنّها تنذر في العمق باعتمال بركان على وشك الانفجار، بحيث بدأت أولى علاماته تطفو على السطح. طبيعة المرض النفس والمرض العقلي والتمثلات الخاطئة بصددهما تروّج العديد من الأفكار الخاطئة في المجتمع المغربي بصدد الأمراض النفسية والعقلية، ويأتي في قائمتها الخلط بين المرض النفسي والمرض العقلي وتوحيدهما معا في خانة «الجنون» كما أشرنا آنفا، وهو أمر له تداعياته سواء السيكولوجية أو الاجتماعية، إن على المريض أو على المحيط الأسري خصوصا، وعلاقاته على وجه العموم. فالمرض النفسي (أو ما يطلق عليه العصاب في علم النفس المرضي وحسب التصنيفين العالميين المعمول بهما DSM4 و CIM10) يصيب جانبا معينا من الشخصية، ومن السلوك، وهو اضطراب في الشخصية، اضطراب وظيفي وليس فيزيولوجي أو نورولوجي، فالأمراض النفسية التي يلعب فيها اللاشعور دورا حاسما يكون منشأها وظيفيا ( ازدواج الشخصية Dédoublement de la personnalité أو الرهاب phobie نموذجا). أما المرض العقلي أو ما يصطلح عليه سيكوباتولوجيا بالذهان، يصيب الشخصية كلها بالتفكك والانحلال، فتضطرب علاقة المريض مع البيئة، و تتدهور علاقاته الاجتماعية بصفة كلية. والمرض العقلي منشأه خلل في الجهاز العصبي المركزي (تلف في الخلايا أو اختلال على مستوى التوصيلات الكيميائية والنشاط الهرموني إلخ)، ويغلب على المرض العقلي الجانب الوراثي/ التكويني (الفصام SCHIZOPHRENIE و البارانويا PARANOIA نموذجا). من التمثلات الشائعة بشكل خاطئ أيضا، والمتمكنة من البنية الذهنية للمواطن المغربي سواء لدى النخبة أو العامة: - ربط المرض النفسي أو العقلي بضعف الشخصية والغباء والضعف عموما. - تعامل بعض الناس مع المرض النفسي أو العقلي على أساس فكرة التوتّر والمهدّئ. - اللجوء إلى العيادة أو مستشفى الأمراض العقلية والنفسية تبدو صعبة وغير مستحبّة من طرف قطاع عريض من الناس بدعوى تأثيرها على الحياة الاجتماعية والمهنية والأسرية. - فكرة أن العلاج النفسي هو مجرّد استلقاء أمام الطبيب واسترجاع للطفولة بغضّ النظر عن طبيعة المعاناة ونوعها. - رواج فكرة استحالة علاج بعض الأمراض العقلية مثل الفصام. في هذا الصدد يشير الدكتور امحمد برجاوي (المندوب الإقليمي لوزارة الصحة بورزازات) أنه يتوجب على المجتمع القطع مع الطابوهات فيما يخص الأمراض النفسية والعقلية، والتخلي عن الأفكار الخاطئة بشأنها من قبيل أنّها لا تعالج، أو أنها ترتبط بالجنّ مما يستدعي بعض الممارسات والعادات والطقوس التي تمارس في العلاج ولا علاقة لها بالجانب الطبي أو العلمي بل تشكل خطرا على سلامة المريض. الصحة النفسية بالمغرب: أرقام بدون تعليق ودلالات كامنة وضع الصحة النفسية في المغرب خلال السنوات الأخيرة ليس على خير، وضع معلول يدعو للقلق والخوف، لاسيما وانّ عددا كبيرا من المغاربة يعانون من هذه الأمراض في صمت، إمّا لجهلهم بطبيعة ما يعانون منه، أو خشيتهم على أوضاعهم الاجتماعية ومستقبلهم المهني، أو ببساطة لقلّة ذات اليد، وقصور الحيلة، غير واعين بخطورة تطوّر هذه الأمراض وانتقالها من مستوى خفيف وبسيط إلى مستوى حاد أو أكثر حدّة، وهو ما يجعل «المرض النفسي» - هذا القاتل الصامت - يفتك بضحاياه أو يجعلهم يرتكبون جرائم فظيعة في حق الآخرين، وأحيانا كثيرة في حق أقرب الناس إليهم (أتذكر هنا حالة المريض الذي ذبح والديه بمدينة فاس العام الماضي، والأب الذي ذبح فلذتي كبده في نفس السنة وبنفس المدينة، وأيضا الأب الذي خنق ابنيه الصغيرين في وعاء بلاستيكي«بانيو» في نفس المدينة وبنفس الحي تقريبا بعد سنة من الواقعة التي سبقتها وحالات أخرى كثيرة في مختلف مناطق المغرب) كل هذا وسط إهمال طبّي واضح، أو الاكتفاء بوصف أدوية لا يواظب عليها المريض لأمر يفوق قدرته وإرادته، ممّا يجعل شبح الانتكاسة المرضية ماثلا أمامه في كل وقت، وفي أحسن الحالات يتمّ حجز المريض لمدة ثلاث أيام أو أسبوع على الأكثر. قدمت دراسة ميدانية أنجزتها وزارة الصحة المغربية بتعاون مع المنظمة العالمية للصحة سنة 2008 أرقاما صادمة حول وضع الصحة النفسية بالمغرب، حيث أن48.9 % أي نصف المغاربة تقريبا، مصابون بإحدى الأمراض النفسية، فحسب نفس الدراسة يعاني % 26 من المغاربة من الاكتئاب، أي حوالي 10 ملايين مواطن ضمنهم % 34.3 من النساء، و % 20.4 من الرجال، كما يعاني % 5.6 من الأمراض الذهانية، و % 6.3 من «الرهاب الاجتماعي»، و % 6.6 من الوسواس القهري ، و % 9 يعانون مرضا نفسيا يدعى «الخوف الداخلي العامش، كما كشفت الدراسة أنّ % 1 إلى % 2 من المغاربة يعانون من انفصام الشخصية schizophrénie، أي حوالي 700 ألف مواطن. كلّ هذا ينضاف إلى الوضع المهول والمخجل في نفس الآن، الذي كشفت عنه مجموعة من التقارير الوطنية والدولية والمتعلق بالبنية التحتية للقطاع، والتجهيزات، وعدد الأطباء، وميزانية الأدوية وغيرها. ففي الوقت الذي تتجاوز فيه ساكنة المغرب 30 مليون نسمة لا يوجد سوى 350 طبيب اختصاصي في الأمراض النفسية والعقلية، 100 طبيب منهم يعمل في القطاع الخاص خارج المستشفيات العمومية والجامعات، كما أنّ الميزانية المخصصة للطب النفسي لم تكن تتعدى % 1 من مجموع ميزانية وزارة الصحة، وأصبحت الآن %3، وهي أيضا ميزانية هزيلة جدا قياسا لاحتياجات القطاع. على مستوى الطاقة الاستيعابية لمستشفيات الطب النفسي بالمغرب، لا يتجاوز عدد الأسرّة 2000 سرير لأكثر من 30 مليون نسمة، بمعنى % 0.8 لكلّ 10 آلاف مواطن، بينما المعدل الذي تطالب منظمة الصحة العالمية هو % 4.5 لكل عشرة آلاف مواطن. من جهة أخرى تشير تقارير وزارة الصحة بالمغرب إلى أنّ الميزانية المخصصة للأدوية بالصحة العمومية ولفائدة الصحة النفسية لا تتعدى %1، مع أنها تصل إلى %5 من ميزانية القطاع بالنسبة للأمراض العضوية، هذا في الوقت الذي تحث فيه منظمة الصحة العالمية الحكومات على ألاّ تقلّ ميزانية الأدوية المخصصة للصحة العمومية عن %10 لكلّ من الصحة العضوية والصحة النفسية. فهل تروم الدولة بهذا الخصاص، وهذا العوز على المستوى المادي، تغيير تمثل المجتمع ونظرته للطب النفسي والمرض النفسي؟ أم تترك الأبواب مواربة أمام مزيد من الارتماء في أدغال الخرافة والأضرحة، وممارسة الطقوس اللاعقلانية التي تنجم عنها عواقب صحية واجتماعية خطيرة، كما يترتب عنها انتهاك فاضح لحقوق وأعراض وأموال العباد بشكل لاإنساني مهين؟ قد يبدو مضحكا ومؤلما في الوقت ذاته أن تكون الطاقة الاستيعابية لضريح «بويا عمر» مثلا تضاعف الطاقة الاستيعابية للعديد من مسشتشفيات الأمراض العقلية والنفسية بالمغرب، وهي المفارقة التي تنشط على هامشها - أو في صلبها- أعمال مافيات وتجار كرامة وصحة المواطن المغربي، حيث يتمّ الاغتناء على حساب مآسي وأزمات المرضى و/أو ذويهم لسنوات دون نتيجة تذكر، بل أحيانا يسلب ذلك أوّل وأهمّ حق طبيعي لهذا المواطن: «الحق في الحياة». في هذا المضمار يجيب المندوب الإقليمي لوزارة الصحة بورزازات على مشكل الخصاص في الأطر والتجهيزات والأدوية، بأنّ الوزارة الوصية ومن خلال استراتيجة 2008/2012 للنهوض بالقطاع الصحي قد شرعت في بناء وتجهيز مجموعة من المستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية والنفسية على الصعيد الوطني، وضاعفت الميزانية المخصصة للأدوية، كما أولت أهمية كبيرة للتكوين المستمر للأطباء والمرضى خاصة بالعالم القروي. أعتقد أنّ الدلالة الصارخة (ضمن دلالات أخرى طبعا) التي تقدمها الأرقام الصادمة أعلاه، والتقارير الفاضحة، هو أن الإنسان المغربي آخر ما يفكّر فيه، وحين يتم ذلك على نحو عابر أو عارض، فإنّ الأمر لا يخلو من تجزيء للكينونة والوجود، وتعطيل لمكوّن على حساب مكوّن آخر، حتّى إذا قضي الأمر، واستوى المواطن جثة هامدة، قيل ببساطة لا يفارقها هزء: «قدّر الله وما شاء فعل». مستشفى سيدي احساين للأمراض العقلية والنفسية بورزازات: نواة مصغرة لأزمة الطب النفسي بالمغرب لا تكاد تمرّ من أمام جناح الأمراض العقلية والنفسية بسيدي احساين، حتى تتراءى لك وجوه محزونة، وأخرى في غاية النشاط والهوس، وثالثة تصرخ بكلمات وسباب أحيانا. إنّ مجرد تخصيص جناح يتيم في مستشفى كبير لمثل هذه الأمراض يعطي فكرة واضحة عن تمثل الدولة نفسها وتعاطيها مع أمراض من هذا الصنف باعتبارها أمراضا من الدرجة الثانية، لا يليق بها غير جناح بئيس لمواراة «عورتها» في الجانب الخلفي من المستشفى. (ف.ز) نزيل سابق بمستشفى سيدي احساين للأمراض النفسية والعقلية، في سؤاله عن الوضع داخل المستشفى، وطرق التعامل مع النزلاء، أخبرنا بعيون ملأى بالحسرة والألم: «داخل سيدي احساين لا يعرفون غير زرع الحقن في الجلد، وإمدادنا بالعقاقير وأقراص الدواء، لا يكلفون أنفسهم عناء الإنصات إلينا ولو قليلا»، وبسؤاله عن طبيعة مرضه، وهل أخبر من طرف المسؤول الطبي الوحيد بالمستشفى؟ أجاب بعصبيّة: « لا أعلم، ولم يخبرني أحد، كل ما أعرفه أني لم أكن مريضا بشكل يستوجب إيداعي بالمستشفى، فوالدي هو من طلب ذلك بشكل قسري للتخلّص منّي» ، ولم يرغب (ف.ز) في ذكر الأسباب مضيفا: «داخل المستشفى صيّروني مريضا بالقوّة، و كلما تكلمت أو تمرّدت أو صرخت في وجه هذا الوضع المزري، كانوا يخرسونني بالإبر والمهدئات». حالة (ي.ز) وهو أستاذ انتحر مؤخرا بتعرضه لقطار، كان يعاني مرضا عقليا تتناوب فيه الانتكاسات المرضية بشكل كبير، بحيث يعيش فترات قليلة من الحياة الحقيقية بين الانتكاسة والأخرى، حياة تمنحها مهدئات أحيانا، ومضادات للاكتئاب أحيانا أخرى. هذا الشاب المثقف والمبدع الذي غادرنا في غشت الماضي، كان ضحية لمجموعة من الجهات، أولا ضحية مباشرة لإهمال المسؤولين وسياسة تدبير واشتغال القطاع الصحي سواء بإقليم ورزازات، أو على الصعيد الوطني عموما، وهي سياسة تؤمن عميقا بمقولة «كم من أمور قضيناها بتركها»، وضحية للأسرة التي لم تفهم طبيعة مرضه، وأيضا ضحية للمجتمع الذي لا يرحم هذا النوع من المرضى (الأسرة والمجتمع بدورهما ضحيتان لغياب التوعية والتحسيس بطرق التعامل مع المريض وأيضا الاطلاع على خصائص وعلامات هذه الأمراض من أجل الإسهام بشكل فعال في العلاج). (ي.ز) لم يكن يستطيب الذهاب لمستشفى سيدي احساين، والمرة أو المرتين اللتين يضطرّ فيهما لفعل ذلك، يكون إمّا منقولا على متن سيارة الإسعاف من أجل محاولة الانتحار(أقدم على ثلاث محاولات انتحار)، أو لأجل الحصول على شهادة طبية تثبت عجزه عن مزاولة العمل جراء الانتكاسة المرضية، وفي كلّ مرة كنت أسأله: «ألا يحددون معك بعض الجلسات من أجل الإنصات والعلاج، ومعرفة طبيعة مرضك؟» فيجيب بابتسامته الهازئة المعهودة والمرفقة بتلويحة يده التي لا تبارحها السيجارة: « واش هوما مساليين ليك». فعلا، لم يجانب كلام (ي.ز) الصواب، ولعلمه بحجم هذه المأساة العبثية التي يعيشها، أراد أن ينهي الأمر بسرعة، ويقطع مع أشواط أخرى من الذهاب والإياب، وقتل الوقت في لقاءات فارغة، بل حتى أنه كان يعرف حتى نوع الأدوية التي سيتم وصفها، والتي دخلت معدته بكلّ أصنافها. كان يقول لي بالحرف: «هاد الدوا اللي تيكتبولي فسيدي احساين كاع ما باقي تيكر فيّ». الغريب أنّ الطبيب الوحيد بالمستشفى لم يكلّف نفسه حتى تشخيص حالته، وإخباره أو إخبار ذويه بمرضه، وهذا أول حقوق المريض، وأبرز مظاهر التعاقد الأخلاقي والعلاجي التي يجب احترامها في هذا الصدد. حتى ملفه الطبي لم يتمّ الإشارة فيه سوى إلى حالات اكتئاب، مع العلم أنّ التاريخ المرضي لهذا الشاب المنتحر يسجل فيه أربع حالات سابقة، اثنتان توفيتا بالمرض، واثنتان عن طريق الانتحار، وهذا ربما دليل على فرضية الجانب الوراثي في المرض، وهو مؤشر أيضا على أنّ مرضه كان عقليا (ذهان psychose)، وليس نفسيا (عصاب névrose ). مردّ هذا الإهمال - حتى نكون منصفين- قد يعزى أيضا على قلة الأطر والطواقم الطبية، فمستشفى سيدي احساين لا يتوفر سوى على طبيب نفسي واحد وعشر ممرضين، مع العلم أنّه أحيانا تصل عدد الحالات التي تفد إلى المستشفى من أجل الفحص فقط إلى 30 حتى 40 حالة، دون احتساب عدد النزلاء، كل هذا في ظلّ وجود جناح واحد يتمّ فيه إيداع المرضى بمختلف اضطراباتهم، وإذا علمنا أنّ هذا المستشفى بطبيبه الوحيد يشرف على أربعة أقاليم ( ورزازات وتنغير وزاكورة وطاطا) فلا تعليق. إذ كيف لطبيب واحد أن يجري فحصا أو تشخيصا إكلينيكيا دقيقا وبشكل علمي، وهو الأمر الذي لا يتمّ في حصة واحدة أو اثنتين حتّى، ثمّ بعد ذلك يخضع المرضى للعلاج النفسي الذي بدوره لا يتم في حصة واحدة بكلّ تأكيد؟ لكن هذا لا ينفي كليا مسؤولية هذا الطبيب في تشخيص المرض خصوصا للأمراض الذهانية (العقلية) التي تشكل خطرا على حياة المريض وحياة الآخرين مثل الفصام والاضطراب الثنائي القطبين، والاحتفاظ ببعض المرضى داخل المستشفى إذا لزم الأمر، تحت المراقبة والعلاج (خصوصا الحالات التي تكون خارجة لتوها من محاولة انتحار). طبعا هذا الأمر يبدو مستحيلا بسيدي احساين نظرا لضعف الطاقة الاستيبعابية لهذا المستشفى، وهذا لا يتحمّل فيه المرضى المسؤولية لأنّ حقهم في التطبيب والعلاج يستدعي ذلك بشكل ملحّ ومستعجل، كما يؤكد على ذلك ظهير 1959. في سؤالنا للدكتور محمد فارسي( أخصائي نفساني في العلاج السلوكي المعرفي)، أجاب أنّ الطب النفسي يعاني إشكالية التشخيص في العالم كلّه، التشخيص هو أهم مرحلة على الإطلاق، فالطبيب الذي يشخص جيدا المرض يستطيع ضبطه وعلاجه، كما أنّ الطبيب النفسي سواء في سيدي احساين، أو في أي مستشفى بالمغرب، محروم من جميع الأدوات والإمكانات التي تساعده على التشخيص وتطبيق برنامج العلاج. ويضيف الدكتور فارسي أنّ هناك عزوف بين طلبة كلية الطب للتخصص في الطب النفسي نتيجة التمثلات السائدة حوله، والدولة بدورها لا تشجع على التخصص في الطب النفسي، مما يجعل مشكل الخصاص قائما على الدوام. من جهته أفاد المندوب الإقليمي للصحة بورزازات الدكتور امحمد برجاوي للاتحاد الاشتراكي أنه سيتمّ قريبا بناء مستشفى متخصص في الأمراض العقلية والنفسية بجميع التجهيزات بورزازات، كما أشار إلى أنّ مستشفى سيدي احساين يتوفر على جميع الأدوية الخاصة بالأمراض العقلية والنفسية وبكمية كافية وهي في متناول المرضى الوافدين على الجناح، وأكّد على أنّ طبيب واحد بسيدي احساين لا يكفي بحكم أن المستشفى يشرف على أربعة أقاليم مما يطرح مشاكل على مستوى التشخيص والعلاج نتيجة الاكتظاظ. الطب النفسي بالمغرب: على قومها جنت براقش أعتقد أنّ الطب النفسي بالمغرب يبدو بعيدا عن كونه إنسانيا بالدرجة الأولى، يسمو بذاتية الفرد عوض أن يفقده إياها، لأسباب عديدة أهمها اقتصار المقاربة العلاجية على الجانب العقاقيري (الدوائي) فقط ، دون إقران ذلك بعلاج سلوكي ومعرفي، وأيضا علاج جماعي وبيئي ممتد في الزمان، إضافة إلى غياب تكوين لأسر المرضى كما يحدث في الدول الغربية (فرنسا نموذجا) من أجل فهم طبيعة المرض، ومساعدة المريض على العلاج. فالكثير من الأسر مثلا تعلل المرض النفسي لذويها بأنه ضعف وغباء، أو أنه ضعف في الشخصية، وتضيق ذرعا بالمريض الذي يعيش بينها، كما تحمّل في أحيان كثيرة هذا المريض ذنب مرضه، وهذا لا يساعده على العلاج، بقدر ما يضاعف عذابه ويكثف مأساته الشخصية. فقد ثبت مؤخرا أنّ أكثر الأمراض خطورة خصوصا على حياة المريض، ونعني «الفصام» الذي كان يعتقد باستحالة علاجه، أصبح اليوم قابلا للعلاج مع تطور العلم وتقدم الأبحاث في مجال العلوم العصبية، والطب العصبي تحديدا. هذا الأمر يبدو بعيدا عن تفكير أطباء النفس بالمغرب للأسف، والذين لا يرغبون في «هزها منين تقالت»، فيذهبون مع «الساهلة» حيث الحلّ الأول والأخير الذي يجيدونه هو أخذ الورقة والقلم، وتخطيط وصفة دوائية عاجلة، ومريضنا «ما عندو باس». هذه الأسباب، فضلا عن عدم قدرة المرضى وذويهم على ارتياد المصحات أو العيادات الخاصة سواء للفحص أو للخضوع لبرنامج علاجي نظرا لارتفاع التكاليف، هو ما يجعل أغلبهم يلجأ إلى الشعوذة والخرافة وزيارة الأضرحة، ليس فقط لأنهم يؤمنون بالأمر من قبل أومن بعد، وإنما لأنهم لا يريدون أن يظلوا مكتوفي الأيدي حيال مأساتهم ومأساة ذويهم، ويبحثون عن قناعة سيكولوجية بالأساس، ترفع عنهم الشعور بالذنب والتقصير، فيجدونها في هذه الاختيارات اللاعلمية واللاعقلانية المفروضة عليهم نتيجة غياب بديل طبي وعلاجي في المتناول. ألا يكون قطاع الطب النفسي بالمغرب هو أول من يجني على المرضى، ويقذف بهم إلى أتون الاستغلال والامتهان اللاإنسانيين؟ بعض ما يبدو مثل حلول أو خلاصات تحصيلا ممّا سبق، ينبغي على جميع مكونات المجتمع المغربي، كلّ من موقع اشتغاله واهتمامه، أن يتحملوا مسؤولية مواجهة هذا الخطر المحدق الذي يمثله المرض النفسي، وأيضا إيلاء أهمية بالغة لقطاع الطب النفسي للخروج به من الأزمة التي يتخبط فيها، وذلك من خلال مجموعة من التدابير والإجراءات من قبيل: - نشر ثقافة سيكولوجية حقيقية من شأنها تنوير الرأي العام بشكل علمي ومبسّط، وتكوين أسر وأقارب المرضى بشكل علمي أيضا من أجل إتمام دائرة العلاج النفسي. - التشخيص النفسي العيادي (الإكلينيكي) الدقيق عن طريق الجلسات المتكررة التي توظف فيها جميع المعطيات (التاريخ الاجتماعي والأسري والمهني، التاريخ المرضي إلخ) والأدوات (المقاييس النفسية والفحوصات والاختبارات المتنوعة). - إعادة الاعتبار للطب والعلاج النفسيين، ولصورة الطبيب أو الأخصائي النفسي سواء في وسائل الإعلام أو في الفن (السينما نموذجا). - توفير الأطر والطواقم الطبية الكافية ومضاعفة عدد الأسرّة والرفع من ميزانية الأدوية المجانية، وكذا المستشفيات المتخصصة في جميع جهات المغرب. - إعادة البعد الإنساني للطب و العلاج النفسيين (على المستوى التطبيقي وليس النظري)، والذي يشكل أساس وجودهما، أتذكّر هنا شريطا وثائقيا شاهدته مؤخرا على قناة فرنسية بعنوان: la schizophrénie : notre enemi intime، يعكس عمق الاهتمام الذي توليه الدولة للمصابين بهذا المرض العقلي الخطير«الفصام»، حيث تخصص أطر طبية (دكاترة وممرضين) متنقلة على شكل فرق تجوب الشوارع من أجل البحث عن المرضى الذين لم يلتحقوا بالمستشفيات، ورعايتهم بعد تشخيص حالاتهم طبعا، كما يناقش في فرنسا حاليا قانون إجبارية العلاج لهؤلاء المرضى وذلك في سياق الحفاظ على إنسانيتهم بالأساس. وأعتقد أن هذا ما يعوزنا في المغرب تحديدا. في نفس السياق يشير الدكتور محمد فارسي إلى أنّه آن الأوان ليصبح الطب النفسي «طبا مؤسساتيا» بمعنى أن المريض يجب أن يجد في المستشفى مناطق خضراء، مجالات للإبداع، فضاءات للترفيه، وأيضا يجب أن تكون المستشفيات مرتبطة بمؤسسات مهنية ورياضية واجتماعية تحضن المرضى وتعيد إدماجهم في المجتمع. ومن جهته يدعو الدكتور امحمد برجاوي إلى ضرورة تحمل الأسر مسؤوليتها وحرصها على علاج المرضى في المراحل المتقدمة من المرض، كما يطالب جميع المتدخلين بما فيها الأسر ووسائل الإعلام والمجتمع، وأيضا القطاع الصحي، بتكثيف برامج توعوية وتحسيسية تتعلق بالأمراض النفسية والعقلية وسبل التعامل معها. رغم ما يعكسه واقع حال الطب النفسي بالمغرب، والذي تتوحد فيه مسؤولية العديد من الجهات، فإنّ هذا لا يسقط فعلا المسؤولية الكبيرة للدولة والقطاع الوصي-باعتبارهما يقفان وراء أخطاء وقصور الجهات الأخرى - في مراكمة أسباب الأزمة، وتعميق معاناة المواطنين، وتوسيع الهوة (التي كانت بدأت تتقلّص) بين التمثل المجتمعي للمرض والطب النفسيين وواقع الممارسة والعلاج؟ ماذا فعلت الدولة والقطاع الوصي ووسائل الإعلام - مثلا - في 10 أكتوبر الذي مرّ قبل شهر في صمت، وهو اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يجهله الكثير في المغرب؟ ألا يجيد هؤلاء غير لغة الإحصاءات والأرقام التي تصدم كلّ من وقعت عيناه عليها؟ وحين يتعلق الأمر ببرامج التدخل وتنفيذ الحلول وتفعيلها «ينقطع البث» لأسباب يعلمها القاصي والداني، ولا علاقة لها ب«الإرادة» طبعا.