السلطات واعية بهذه الوضعية السيئة ووضعت لذلك الغرض العديد من المشاريع. قاعات مغطاة ومركبات ثقافية يرتقب إحداثها في آسفي وفي الجماعات الثلاث الرئيسية التابعة للولاية. وتم إرفاق تحويل الميناء بمشروع إعادة تهيئة من شأنه خلق فضاء وكورنيش يمتد لعدة كيلومترات سيخلق مصالحة بين المدينة وبحرها. سيتم الاهتمام برونق مداخل المدينة، ويتم بدل مجهود كبير على مستوى نظام الصرف الصحي للمدينة. وهذه المشاريع أتت بها السلطات الوصية وليس المنتخبون. مشاريع مهمة لكن تظل غير كافية لتدارك تأخر دام حوالي نصف قرن من الزمن. «كل مسفيوي، من ماسح الأحذية إلى مدير شركة، مقتنع تماما بأن المدينة مهمشة، وهو صائب في ذلك.» هذا الكلام ليس صادرا عن ملاحظ ما يؤكد على واقع مأساوي، بل عن رجل سلطة معروف جدا في المدينة. وتكفي الأرقام، بعض الأرقام فقط، لرسم هاته اللوحة. فالمجال الحضري للمدينة يضم اليوم 147.5 من الطرق غير المعبدة، وهذا أمر غير مقبول بالنسبة لمدينة تعد من بين الأعرق في المغرب. 40 بالمائة من الساكنة لا تتوفر على صرف صحي بمعنى الكلمة، وهو رقم مرشح للارتفاع بالنظر إلى التزايد الذي يعرفه السكن غير اللائق، والذي لا يشجع عليه بعض المنتخبون فحسب، بل إن بعضهم يقومون بإنجازه. ولقد أجبر الوالي الجديد رئيسا جماعيا سابقا، سبق له أن أنجز مشروعا ضخما، على القيام بأشغال الصرف الصحي بعد أن تسلم السكان مساكنهم. الأشغال في طور الإنجاز، لكنها تقتصر على جنوبالمدينة فقط. تم بناء مستشفى محمد الخامس سنة 1953 من طرف سلطات الحماية، ومنذ ذلك الحين، لم تتم إضافة ولو سرير واحد إلى هذا المستشفى، رغم أن عدد السكان تضاعف خمس مرات. وتظل هذه المدينة التي تم ترييفها الواجهة الخلفية للمغرب الفقير، إذ المدينة لم تتوفر ولو على قاعة واحدة للسينما ولا على مسرح، معهدها الموسيقي طاله النسيان، دور الشباب أضحت مهجورة بسبب افتقادها لمن ينشطها. أما المجالات الخضراء فلقد اندثرت، وليس ثمة أي فضاء للعب خاص بالأطفال. وبدورهم فقد احتل الباعة المتجولون، «الفراشة»، الفضاءات العمومية بما فيها طرقات الشوارع الرئيسية مما جعل حركة السير مستحيلة. هذه المدينة التي كانت فقيرة، لكن كانت رغم ذلك مثل المحارة النظيفة، أصبحت من القبح ما يجعل الجميع يفر منها، وتجعل الدموع تسكن عيون كل من يحن إلى ماضيها. من المسؤول؟ من أجل تحديد المسؤوليات في هذا الصدد، لابد من وضعها في شكل تراتبي نظرا لتعددها. والدولة هي المسؤول الأول، فالمدينة كانت تعتبر منطقة عقابية، حيث كان يتم إرسال المسؤولين المعاقبين إليها. كما أن الإقليم، الذي يفتقد لكل شيء، «أعاد» لوزارة الداخلية 37 مليون درهم التي لم يتمكن من صرفها.ولقد طلب الوالي الجديد من الطيب الشرقاوي وضع برنامج لذلك المبلغ، وهو قد يكون ربما تحقق. وهذا الأمر يعطينا صورة عن جدية الإرادة لتطوير المدينة. لكن للمسفيويين ذاكرة قوية، فهم يتذكرون أنهم ظلوا ينتظرون منذ ثلاثة عقود تشييد مستشفى متعدد التخصصات. وخلال التسعينات، كانت ثمة برنامج لبناء مطار في المدينة، حيث تم االحصول على الأرض المخصصة لذلك الغرض، وتم وضع التصاميم، لكن المشروع حلق إلى الصويرة بضغط من أندري أزولاي. والطريق الرابطة بين مراكشوآسفي، والتي يتم استعمالها على نطاق واسع، توجد في حالة كارثية. ومشروع الطريق السريعة تم إقباره منذ عشرين عاما. المدينة معزولة تماما. هذه المدينة التي تضم جماعات بساكنة تتراوح ما بين عشرين وثلاثين ألف من السكان تفتقد للبنيات التحتية الأساسية. مدينة تفتقد بشكل بشع لمن «يدافع» عنها. المنتخبون هنا هم الأسوأ من نوعهم، يفتقدون للكفاءة والقدرة على الضغط وغير مرتبطين بشدة بالمدينة. الثورة الدائمة وفي ظل هذه الظروف، فقد كان خطيرا تفسير السكان لإهمال المدينة كاحتقار لهم. ينظرون إلى أنفسهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، بيد أن لديهم الخيار إما الخضوع أو القيام بردة فعل. وكلا الموقفين يتعايشان، لكنها يشكلان برميلا حقيقيا من الديناميت. يتم بشكل مستمر احتلال مقرات ومبان عمومية، وهذا الأمر لا يحدث حاليا إلا في آسفي. مظاهرات نوعية، لحسن الحظ، تحدث بشكل يومي في مناطق مختلفة من المدينة. وحسب المسؤولين الأمنيين بالمدينة، فإن هذه الوضعية موجودة قبل ظهور حركة 20 فبراير. وظرفية الاحتجاجات زادت من حدة المظاهرات. تحاول العدل والإحسان استعمال المدينة كمختبر تفرض من خلاله هيمنتها على الحركة الاحتجاجية. لكن نجاحها يظل نسبيا فقط. فساكنة المدينة القديمة، التي تنتظر أن تتم إعادة توزيعها، وسكان الصويرية، وحركة حاملي الشهادات المعطلين، وضحايا الفياضانات التي تعرضت لها المدينة قبل بضع سنوات، والعديد من المجموعات الأخرى ترفض أن تفرض عليهم تلك الجماعة وصايتها. لكن الحركات الاحتجاجية تتزايد وتأخذ شكلا متطرفا خطيرا. أما الأحزاب السياسية، فهي في حالة شرود تام، فهي لا تقوم بأي تأطير ولا تحظى بأية شرعية، بل وتبدي تخوفا من الساكنة التي من المفترض أن تكون مؤطرة. إحدى مآسي هذه المدينة تتمثل في هذا الضعف الشديد للنخب السياسية. كما أن للقمع الوحشي الذي تعرضت له الساكنة خلال سنوات الرصاص تركه آثارا واضحة. لكن الظاهرة الأكثر أهمية هي الترييف الذي أصبح يطبع المدينة. فمنذ ثلاثين عاما ورؤساء المجلس البلدي ينحدرون من العالم القروي، باستثناء رئيس سابق، وهو مسفيوي من حي علان، استقال من منصبه في ظرف سنتين بعد أن تخلت عنه أغلبيته. أما الرئيس الحالي، كريم، والذي ينحدر حسب ما يشير إلى ذلك اسمه، من سبت جزولة، تلك الجماعة التي تضم حوالي عشرين ألفا من السكان والتي تترأسها شقيقته، في حين أن شقيقه يترأس المجلس الإقليمي. وغالبا ما يكون المرشحون للبرلمان هو رؤساء المجالس القروية أو نوابهم. أما الآخرون فيكون لهم نفوذ في الأحياء الأكثر تهميشا، إذا كانت العبارة تسمح بذلك علما أن المدينة مهمشة كليا (...) النخب القديمة لا تصوت ولا تنخرط في هذه العملية. لقد تم إبعادها واستبدالها بنخب جديدة. وهي نخب أنتجتها عملية ترييف المدن. وهذه الظاهرة السوسيولوجية ستفرز المزيد لأنها توجد في مختلف مناطق المغرب، لكن حضورها أكثر تجليا في آسفي، لأنها تفتقد لمشروع تنموي منسجم، ولم تتمكن من منح النازحين إليها طابع التمدن. هذه المدينة ليست سوى دوارا عملاقا، تشهد أطلاله وأماكنه التاريخية وبعض ملامح الحضارة المستميتة في البقاء تذكر بماضي متحضر، مدينة كانت لها روح يرى فيها الذين يشدهم الحنين إلى ذلك الماضي حبا مفقودا. مشاريع قائمة السلطات واعية بهذه الوضعية السيئة ووضعت لذلك الغرض العديد من المشاريع. قاعات مغطاة ومركبات ثقافية يرتقب إحداثها في آسفي وفي الجماعات الثلاث الرئيسية التابعة للولاية. وتم إرفاق تحويل الميناء بمشروع إعادة تهيئة من شأنه خلق فضاء وكورنيش يمتد لعدة كيلومترات سيخلق مصالحة بين المدينة وبحرها. سيتم الاهتمام برونق مداخل المدينة، ويتم بدل مجهود كبير على مستوى نظام الصرف الصحي للمدينة. وهذه المشاريع أتت بها السلطات الوصية وليس المنتخبون. مشاريع مهمة لكن تظل غير كافية لتدارك تأخر دام حوالي نصف قرن من الزمن. المدينة تحتاج أولا لتصور يسمح بتحويلها لفضاء تعايشي يسمح بتطور الأنشطة الاقتصادية ويفسح المجال لازدهار يأتي بالمنفعة للجميع. والمخرج الممكن يتمثل في جعل العنصر البشري في المركز، إحياء الثقافة باعتبارها وسيلة لتماسك المدينة في إطار مشروع تنموي يتطلب من الدولة ومن باقي المتدخلين استثمارات مهمة. والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، على سبيل المثال، استثمرت الكثير من الأموال من اجل إعادة تأهيل المدينة القديمة. وتمت إقامة المباني وتدعيم أخرى بنجاح، لكن الصورة في مجملها لم تتغير. كان الهدف في البداية هو إعادة خلق فضاء للعيش مع توفير فرص الشغل في الصناعة التقليدية والسياحة، لكن الأمر تحول إلى «إسعاف تمديني». المساواة بين المغاربة، العدالة الاجتماعية، التاريخ، وحاليا استقرار البلد، تتطلب وضع مشروع حقيقي للمدينة. هذا ما تم القيام به بالنسبة للشمال والشرق، فلم لا في آسفي؟ عن مجلة «شالانجر»