يُتابع الميلودي شغموم في روايته الثانية عشر :» الليالي القمرية» (دار العين للنشر،2010)،نسجَ عوالمه المشدودة إلى السلوك البشري وتعقيدات علائق الرجل بالمرأة،وبلبال الزمن الذي يقض المضاجع؛ وذلك من خلال بناء سردي يمزج الواقع بالتخييل ، ويضفره بالحلم والفانتستيك ...وتقوم بنية « الليالي القمرية» ظاهريا ،على التوازي في المسارات وثنائية الشخصيات التي تنجز رحلات داخل واقع الرواية أو في سماوات الأحلام المتناسلة . والعمود الفقري للنص يرتكز على صديقين حميميْن تشارَكا في كل شيء طوال خمس وعشرين سنة،إلى أن تَبَاينَ طريقهما عندما قررا الزواج : عرّوب لغريبي يسافر من الدارالبيضاء إلى مدينة الجديدة ليبحث عن زوجة بعد أن فشل في تجربة حب، وَ علي العزيزي سيسافر عبر الأحلام إلى مدينة إفران ليلتقي بصديقه المسعودي وزوجته شمس وأختها قمر،وينطلق في مغامرة استيهامية تتبدد حلاوتها عندما يستيقظ من نومه . كلتا الشخصيتين، عروب وَ عليّ، لهما جذور من الريف العربي في المغرب،أصبحا مهندسيْن ويمتلكان ثقافة حديثة،لكنهما في الآن نفسه متصلان بثقافة الأجداد، ويملؤهما طموح الاندماج في المجتمع الجديد الذي يتنامى بسرعة في العاصمة الاقتصادية حيث يعملان ...لكن هذه البنية الظاهرة، سرعان ما تكتسب طابعا أكثر تعقيدا من خلال ظهور شخصيتَيْ طفليْن :سمير ابن أخ عروب الذي غرق في البحر مع أبيه، ويعود في الرواية ليحاور عمه عروب أثناء إقامته في بيت «زهرة» أرملة أخيه والتي سيقرر في النهاية أن يتزوجها؛وَ المهدي الذي هو «عليّ» حين كان في سنّ الثامنة ثم في سنّ الثامنة عشرة،ينبعث من ماضيه ليحاوره حوارات فلسفية تحمل بصمات العناد وادعاء المعرفة ،وليذكره بحماس الطفولة والمراهقة . ويأتي السرد متراوحا بين ضمير المتكلم(علي العزيزي) وضمير الغائب الذي ينقل حوارات مسترسلة بين عرّوب وّ الطفل سمير . على هذا النحو، تنطلق الرحلتان المختلفتان لكل من عليّ وعروب : الأول يركب صهوة الحلم في اتجاه إفران ثم مكناس باحثا عن زوجة تستجيب لرغبته،ولكنه يعود خاوي الوفاض ليجد أن صديقه هو مَنْ تزوج بالفعل من زهرة أرملة أخيه الذي ابتلعه البحر؛ وعندئذ يتذكر أن صديقه المسعودي كان قد استدعاه لزيارته في إفران،وأنه سبق أن قدم له « قمر» أخت زوجته، فيقرر السفر للّقاء بها ، وكأنه عاش مُسبقا في الحلم ما سينفذه لاحقا في الواقع ... هذا التركيب القائم على المزج بين الواقع والحلم ،بين لغة الطفولة ولغة المنطق والتفلسُف ،عمل على تكسير الطابع الواقعي للمحكيات،وفسح المجال أمام بروز الفانتستيك من خلال استحضار الطفليْن، كما أتاح بلورة أبعاد فكرية تلامس العلاقة مع الزمن وحرية الاختيار ومعضلة الحب والزواج ... جميع المشاعر مجازٌ على رغم أن « الليالي القمرية» تستوحي أحداثا ومحكيات تحيلنا على فضاءات بعض المدن المغربية : البيضاء، الجديدة،مكناس، وتستحضر بيئة الريف المغربي المؤثر في تكوين شخصيتيْ علي وَ عروب، فإنّ بناء الرواية الذي يضفِرُ الواقع بالحلم والخيال، على نحو ما أوضحنا، يدفع بالنص إلى التعالي عن سياقه « المحلّي» ليقترب أكثر من مستوى إنساني، يتصل بتحديد العلاقة بالزمن واستكناه الصراع الأبدي بين الرجل والمرأة ...ففي أحد حوارات علي مع صِنْوه المهدي وهو في مطلع الشباب،نجد هذا الأخير يذكره بأسطورة يونانية توضح كُنه الزمن وسلطته على هذا النحو :» لقد كان الزمن إلاهة ً في عهد اليونان، منَحَها أبولونْ تدبير الوقت وترتيب التآني والتعاقُب والإشراف على بداية كل شيء ونموه وتطوره،حتى اكتماله ونهايته.(...) فعاقبها أبولون بأمريْن : أولا أن تظل ذات سلطة مطلقة على الوقت تُدبره وترتبه كما تشاء؛ثانيا،أن تغفو من حين لآخر فيستغلُّ البشر نومها للتلاعب بالوقت ونظام الأشياء، ولكنها بمجرد ما تستيقظ تشرع في العبث منهم انتقاما، تفعل بهم ما تشاء بقدر ما فعلوا بسلطتها ما شاءوا وهي نائمة...» ص 157 . ويستخلص المهدي ومعه صنوه الذي تقدم في العمر، أن الإنسان يظل خاضعا لسطوة الزمن لأنه ، في النهاية، لا يستطيع أن يريد كلّ ما يريد ! بعبارة ثانية، خلال الفسحة التي يتيحها «نوم» الزمن القصير، يجرب الإنسان ممارسة حريته، لكنه سرعان ما ينتبه إلى أن سطوة الزمن هي الأقوى والمتحكمة في تخطيط مسار رحلته الحياتية . وتحظى مسألة علاقة الرجل بالمرأة بقسط من الحوارات والتأملات، انطلاقا من غياب معرفة كلّ منهما للآخر : « إننا نكره الكثير من الأشياء، أو نخاف منها فقط لأننا لا نعرفها، أو نعرفها بشكل ناقص ؛ فهل يكون العازف عن الزواج شخصا لا يعرف المرأة أو على الأقل لا يعرفها جيدا، أو العكس ؟ ...» ص 89 .وفي توازٍ مع هذه التأملات، ترسم الرواية نموذجيْن لعلاقة الأزواج، واحد لتجربة المسعودي وَ شمس القائمة على توخي المصلحة والتحكّم في الطرف الآخر،وحضور سوء النية باستمرار؛ والنموذج الثاني يشخصه عروب وزهرة اللذان استطاعا أن يضفيا على زواجهما غلالة من البهجة والفرح بتنظيم سهرات غناء ورقص يستعيدان من خلالها روح الطفولة المرحة التي كثيرا ما تتضافر رتابة ُ الزواج ومواضعاتُ المجتمع على قتله : « المرأة تغتال الطفل في الرجل ثم يتكفل أولاده والمجتمع بدفنِه .وكذلك يفعل الرجل وأولادها والمجتمع بطفلة المرأة «ص237. ومن هنا، يأخذ حضور الطفليْن ،سمير وَ المهدي، أبعادا رمزية تذكر بمخاطر الصدأ التي تتهدد وجودنا كلما استسلمنا للرتابة والجدية المفرطة والنفاق الاجتماعي ... والمسألة الثالثة، على مستوى الدلالة في « الليالي القمرية «، تتعلق بنظرية المجاز التي قدمها المهدي الذي يمثّل عليّ عندما كان في سنّ الثامنة عشرة،ليشرح القضايا المُلغزة التي تعجّ بها الحياة . يلخص المهدي نظريته على النحو التالي، مخاطبا «عليّ» : «..كل ما حكيته لك مجازات،مجازات فقط. كل ما في الحياة،وربما الحياة كلها كما يتصورها أغلب الناس، مجازات، صور تُمثل صورا. الدنيا مليئة بالمجاز :الحب،السعادة،الشقاء،المال، الجاه،الكراهية إلخ..كلها مجازات واستعارات،أي صُور لصور...» ص100 . وقد وجد عليّ في هذه النظرية ما ينير له الطريق وهو مقبل على اختيار شريكة حياته؛ أدرك أن هناك بالفعل، الكثير من شبكات المجاز يمكن أن يصنف على ضوئها النماذج البشرية التي التقاها أو عاشرها في مساره، وكل واحدة تعتمد قيما معينة وتستوحي رؤية إلى العالم . ولكثرةِ ما ترددتْ نظرية المجاز في حوارات عليّ والمهدي، نكاد نظنّ أن الأمر يتعلق ب « رواية أطروحة « ترمي إلى إلغاء كل التأويلات لصالح المجاز الذي يشمل جميع القيم والسلوكات ليحولها إلى وجود رمزي ليس إلا ّ . لكن بنية الرواية المركبة، وبروز الحوارية في ثنايا النص،واختلاف وجهات نظر الشخصيات، كل ذلك يحدّ من سطوة نظرية المجاز ويترك الباب مفتوحا لتأويلات أخرى . إن رواية « الليالي القمرية «، ببنائها المركب، وحواراتها الموحية ،وربطها للمحكيات بالأفكار والتأملات، تحُثُّ القارئ على أن يصبح جزءا من فضاء الرواية ، مُنخرطا في لعبة المقارنة والتأمل ،باحثا عن أجوبة لأسئلة الزمن والعلاقة بالمرأة والطفولة . م. برادة 2011-7-14