الكتابُ الذي ننشر ترجمته الكاملة إلى العربية هو- كما أراد له صاحباه (حبيب المالكي ونرجس الرغاي)- ثمرةَ لقاء. لقاء ما بين رجل سياسة وبيْن إعلامية: الأوّل يريد أنْ يقدّم شهادة، والثانية تريد أنْ تفهم. ليس من عادة رجال السياسة أنْ يقدّموا شهاداتهم. قليلون جدا هُم الذين يَقبلون الانصراف إلى تمْرين تقديم الشهادة. ورَغم ذلك، فإنّ تاريخ المغرب المعاصر بإمكانه أن يشكّل تمرينا جيدا للشهادة. فمنذ مستهل التسعينيات، طوى المغرب صفحات مصالحة لم تكن دائما هادئة. إنها مادة رائعة أمام المُنقّبين الذين يرغبون في الذهاب أبعد من الطابع الآنيّ للمعلومةّّّ! كما أنّ هذا الكتاب هو كذلك ثمرة رغبة ملحّة في الفهم، فهم هذا الحُلم المقطوع المتمثّل في التناوب التوافقي الذي دشّنه الوزير الأول السابق المنتمي إلى اليسار، عبد الرحمان اليوسفي. وهو أيضا رغبة في فهم ذلك الإحساس بالطَّعْم غير المكتمل للتناوب الديمقراطي. } هل يُفهَم من كلامك أن هناك أزمة في العمل النقابي على غرار ما يعرفه المشهد السياسي؟ التغيير له بُعد سياسيّ واجتماعيّ. والحركيّة الاجتماعية عَرَفت نكوصا في السنوات الأخيرة، ففي بعض القطاعات انخفض معدل الانتماء النقابي إلى ما دون عشرة في المائة بل دون خمسة في المائة. إنّ أسباب هذه الوضعية تكمن في بلْقنة الحقل النقابي، وهذا يذكرنا بتشتت الحقل السياسي. إنّ نقاباتنا تتجه نحو أنْ تصبح مهْنية، فهي في حاجة إلى المساندة والدعم حتى تتمكّن من المشاركة في تحديث النسيج الاقتصادي والمساهمة في تكوين الطبقة العاملة. هناك جيل جديد سيساهم، لا محالة، في إعطاء نَفَس جديد للحركة النقابية. } هناكَ مفاجأة أخرى تتعلق بانعقاد المؤتمر السادس للحزب، حيث أنّ أحمد الحليمي، أحد كبار مهندسي حكومة التناوب، لمْ يكنْ مؤتمرا بسبب عدم تسْديده قيمة اشتراكه للحزب. كيف تمّ ذلك؟ لقد مرّ الأمر دون أنْ ينتبه إليه أَحَد. } هل يمكن القول إنّ المؤتمر السادس قد عبّد الطريق نحو إعادة هيكلة الحزب؟ لقد ساهم المؤتمر، بصُعوبة، في وضْع لبنات تحوّل الاتحاد الاشتراكي إلى حزْب حكومي. إنها المرّة الأولى، منذ أربعين سنة، والمرّة الأولى في تاريخ الاتحاد الاشتراكي التي ينظم فيها مؤتمرا، وهو على رأس الحكومة. فبعد مسار طويل وصعب، يُعدّ هذا حدثا في حدّ ذاته. غير أننا خسرْنا الرهان، لأن اليوسفي غادر في السنة الموالية والمؤتمر السابع لم ينعقد إلا سنة 2005. } إنّ التطبيع يتطلب وقتا طويلا... نعمْ، إلا أننا لم نعدْ على رأس الحكومة. فالطريق ما زال طويلا، كما أشرتُ إلى ذلك. } لقد أثّر رحيل الأموي على مسار الحزب. كيف يمكن تلمّس هذا التأثير؟ تجلى هذا التأثير في تأسيس مرْكزية نقابية جديدة... } كانت النتائج إيجابية إذن. كلُّ ما يدعو إلى التفرقة لا يحقق تقدّما. أنا أميل إلى اعتبار ذلك تراجعا. حاليا، على المسؤولين المعنيين بالأمر والنقابيين والسياسيين أن يتّحدوا من أجل إعادة بناء وحدة النقابة التي من شأنها أن تخفف، بشكل أو بآخر، الضغط على وحدة اليسار. } هل تحلمون بنقابة يسارية كبرى؟ أحلم بنقابة يسارية كبرى، كما أحلمُ بحزب اشتراكيّ كبير. } في سنة 2005، نظم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مؤتمره السابع. آنذاك، كان الحزب بصدد حلّ خلافاته الداخلية. وكان الانطباع السائد أن الحزب لا يتحمل الأصوات المخالفة، وأصبح في خلاف دائم مع شبيبته. فهل تعتبرون الشبيبة الاتحادية محفّزا؟ هل مسيرو الحزب يعتبرونه كذلك ويقبلون به؟ إن الحزب لا يرفض حرية التعبير. ونحن نطالب بهذه الحرية وندفع الثمن غاليا كي تصبح واقعا. من الطبيعيّ أن يطالب الشباب كتشكّلات حية بسقف أعلى لحرية التعبير، أي البحث عن أفكار جديدة، مطالب جديدة وانتقادات... لكنْ، ما ينبغي تجنّبه، بالمقابل، هو المنزلقات كَأَنْ يسعى القطاع الشبابي إلى أنْ يحلّ محلّ الحزب. } للشباب الحق في عدم الاتفاق مع مواقف الحزب!. نعمْ، وبإمكانهم التعبير عن اختلافهم داخل الحزب. وفي نفس الآن، يجب رفع اللبس الذي يؤدي إلى أوضاع يصبح معها تحديد المسؤوليات وتوزيع الأدوار غير واضح واعتباطي. } كان المؤتمر الثامن للحزب بمثابة إعلان عن إعادة تشكيل هذه الهيئة السياسية. هل كان عبارة عن أمنية صادقة، أو خطاب تاريخي لأعلان حسن النوايا أم واقع ملموس؟ إن إعلان إعادة تشكيل الحزب هو موجود بالقوة. لأوّل مرة كانت هناك منافسة ديمقراطية وواعدة بين مختلف المترشحين لمنصب الكاتب الأول للحزب. ولأوّل مرّة كذلك قدم المترشحون تصوُّرا عن حكامة الحزب. كانت اللعبة مفتوحة: التحالفات، طريقة تنظيم الخط السياسي بالإضافة إلى أنّ المؤتمرين أعجبوا بأسلوب كل واحدّ من المترشحين للمنصب. وبدون شكّ، كان المؤتمر بمثابة مُقدّمة لم يُكتبْ لها تنظيم ممنهج على غرار الإجراءات المتبعة في أيّ تنظيم آخر. غيْر أنّ أشياء أخرى تغيّرت بمناسبة المؤتمر. واليوم، يجب استخلاص جميع الدّروس، والتحضير للمؤتمر المقبل على أسُس واضحة ومهيكلة، وليبقى الجميع جديرا بالاحترام. } لقد تشكلت تحالفات إبّان أشغال المؤتمر الثامن. فهناك، مثلا، شخصيات غير نموذجية ساندتْ عبد الواحد الراضي رغم كونه الأكبر سنا بين المترشحين. أفكر بالخصوص في علي بوعبيد وحسن طارق. كيف تفسرون لعبة التحالفات التي تميزت بالغرابة. من المفروض أن يكون السؤال موجّها لهم. فنحن كما تعلمين مجتمع كل منا في حاجة إلى فيه الشعور بالأمان. وهذا ينطبق أيضا على الحقل السياسي. وكل واحد يجب أن يستخلص الدروس التي تبدو له ملائمة في الحياة. } هل صوّت أعضاء الحزب على المرشح الذي يمنحهم الإحساس بالأمان؟ لستُ أدري ما إذا كان عامل السن مؤشر على الإحساس بالأمان، لكننا مجتمع يعمل بهذه الطريقة. فضلا عن ذلك، فعبد الواحد الراضي لم يعتمد حالته المدنية من أجل الإقناع. } إذا كان عبد الواحد الراضي لا يعتمد على عامل السنّ من أجل الطمأنة ولا من أجل العكس، فكيف تتصوره ككاتب أول؟ هو هو كما عهدته، لم يتغير. فهو مسؤول سياسي يتخذ قراراته بعيدا عن منطق الاحتمالات. إنه عنيد بدم بارد. } هل هذه ميزة أمْ عيب؟ الأمرُ رهين بالظروف، بالإضافة إلى أنّ له مقاربة قروية للزمن السياسي... } بمعنى؟ عبد الواحد الراضي يرفض الخشونة في اتخاذ القرارات. إنه يستبعد الحلول التي تؤجج النزاعات. فهو، في الواقع، يعتبر الزمن حكما مثاليا، كما لا يحبّ الحلول المتطرفة رغم أنه قناص ماهر. } هل هو رجل التوافقات؟ هل ينتصر لها؟ إن تجربته وثقافته، والقيم التي يدافع عنها، تجعله رجل التوافقات، وهذا يوضح شخصيته. لا يجب أن ننسى أنّ الرجل عمر طويلا في السياسة، وهو أمْرٌ قائم في المغرب. } إنه أقدم برلمانيّ في المغرب... لقد تمّ انتخابه رسْميا سنة 1963، فهو بالفعل عميد البرلمانيين المغاربة. فمنذ الخمسينيات، لم تنغّص عليه كل الأحداث التي عاشها المغرب. } هل هذا يعني أن الراضي لمْ يقلقه شيء البتة؟ لقد عاشَ محنًا مع بعض رفاقه، لكنه حافظ دائما على الابتسامة، والتشبث بأمل أن الأمور ستؤول إلى الأحسن. } هل يتخذُ الراضي قراراته بسهولة، في الوقت الذي يحتاج فيه المغرب مواقف واضحة أكثر من أي وقت مضى؟ عبد الواحد الراضي لا يُزْعج، ولكنه ينْخرط في السياق العام، لهذا يُعتبر ديمقراطيا: إذا اتُخذ قرار يمتثلُ حتّى وإنْ كانَ لاينسجم مع إرادته. } كيف ينظر إلى انتقال الحزب إلى المعارضة؟ الأمر لا يطرح مشكلة الآن، وإذا طُرح الموضوع غدا، فإنه سيدلي بدلوه، لكنه سيمتثل لقرار الأغلبية. } إعادة تشكيل الحزب، كما تقول، جارية على قدم وساق. والمؤتمر القادم على الأبواب. على ماذا سيركز؟ ما هي الرهانات الكبرى؟ على ماذا سيراهن الحزب خلال المؤتمر التاسع، والذي يتزامنُ مع نهاية فترة حكومة عباس الفاسي؟ إن أهم سؤال يجذر بأعضاء الحزب أن يجيبوا عنه، هو كيف يمكنه التجذّر في اليسار. يجب أن نجد أجوبة شافية للأسئلة التالية: كيف السبيل لكي لا نَضْعُف؟ ما العمل لكي لا نضيّع هويتنا؟ فليس في مصلحة المغرب أنْ يصبح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزبا تافها، كما أنّ اليسار في حاجة إلى حزْب قويّ من هذا العيار. إنّ تثبيت المرساة تُجاه اليسار، يعني تجديد الفكر والخطاب، وبلورة خط سياسيّ واضح وأكثر وضوحا وتعبوية. خطّ يحدد التوجهات الكبرى للتحالفات. } الحزب في ظل العهد الجديد... هل تعتقدون أنّ الملك محمد السادس في حاجة إلى الحزب كما كان الأمر بالنسبة للحسن الثاني؟ إنّ الملك محمد السادس، باعتباره ملكا ديمقراطيا ومُصْلحا، في حاجة إلى أحزاب قويّة تشارك في بناء مغرب ديمقراطي وحديث. } ألمْ تنته بعد مهمة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟ نحن ما زلنا في بداية الطريق!. } هل يمكن إضفاء هوية أخرى على حزبكم؟ هوية جديدة ترتكز على إرْث نفتخر به. وفي الوقت ذاته، هوية تتغذّى على النجاحات كما على الإخفاقات. نحن حزب يساري، وهذا يعني أننا حزب مجتمعي ديمقراطي يجعل من الديمقراطية والحداثة قيما مثلى. } كيف السبيل إلى معالجة معضلة تآكل السلطة؟ فالحزب فَقَدَ كثيرا من الريش، وقليلون هم الذي ما زالوا يغرّدون داخل السرب؟ مازال لدينا ريش يمكّننا من الطيران.. فالحزب مطالب بتعميق ديمقراطيته الداخلية، والانفتاح على شرائح اجتماعية جديدة تكون ديناميكية ومجددة. } الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يرفض الانفتاح. لقد رفض المناضلون أن يفتح اليازغي النوافذ والأبواب على مصراعيها بمناسبة الانتخابات التشريعية الأخيرة!. من الطبيعي أن يتنامى إحساس بالمحافظة على البيت، وأنا أعتبر هذا الإحساس تلقائيا. فنحنُ لم نفسّر، بما فيه الكفاية، رهانات هذا الانفتاح، ولا منزلقات هذه العَمَلية، خصوصا أنها جاءت قبل فترة الانتخابات. مما ساهم في تغيير مسار العملية برمتها. لقد أعطى هذا الانفتاح بعض النتائج، ولكن، للأسف، لم يكن في مستوى طموحاتنا. } منذ الصفحات الأولى لهذا العمل والحزب يلقي بظلاله على هذا الحوار. لقد عرف الحزب أربعة زعماء: عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمان اليوسفي، محمد اليازغي وعبد الواحد الراضي منذ المؤتمر الثامن. أيّ نوع من الزعماء يحتاجه الحزب في السنوات القادمة؟ كيف تتصوّر هذا الزعيم؟ وكيف تحدد ملامح شخصيته؟ إنّ الحزب اليساري يحتاج، بالضرورة، إلى زعيم يساري في ثقافته، في مواقفه، وفي خطابه. ما نقول الآن يجد مرجعيته من خلال نظرة مفهوماتية، تحليلية وموضعية. وهذا ليس بالهيّن بالنسبة لمسار ديمقراطي. إنّ المغرب يعاني اليوم من غياب معارضة حقيقية، كما يعاني من نقص في الخطابات التي من شأنها أنْ تساهم في إذكاء نقاشات وطنية حية ومفيدة خدمة للديمقراطية والحداثة. } هل يمكنُ وجود زعيم يساري كاريزميّ؟ لا يمكن صناعة زعيم كاريزمي! فهذا مرتبط بظروف غالبا ما تكون غير متوقعة. لا توجد أمّ تُرْضع أبناءها ليصبحوا كاريزمييّن. وحدها المعارك واتخاذ القرارات والشدائد تساهم في بناء وصنع سلطة ما.