احجيرة: المغرب يصدر 423 مليار درهم ويستورد 716 مليار درهم    بعد الإطاحة بنظام الأسد.. بوريطة يجري مباحثات مع نظيره السوري في خطوة تُمهّد لإعادة فتح سفارة المغرب في دمشق    هذا ما قررته المحكمة في حق هيام ستار    كلية الناظور تشهد مناقشة رسالتين لنيل شهادة الماستر في اللسانيات الأمازيغية    تنديد بمنع مسيرة لمناهضي قانون الإضراب    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تستعد لعقد الجموع العامة للعصب    السكوري .. تخصيص ميزانية مهمة لدعم التشغيل بالعالم القروي    فتاح: حجم استثمارات المؤسسات والمقاولات العمومية يقدر ب345 مليار درهم في 2024    أستاذ وعاملة فراولة !    اكتشافات الغاز الطبيعي.. نتائج مشجعة    السيارات تجر قافلة الصادرات المغربية    "عكاشة" ينفي اتهامات سجين سابق    حزب العدالة والتنمية يستعرض ملاحظاته حول تعديلات مدونة الأسرة.. وينتقد "استفزازات" وزير العدل    تصريحات رونالدو والتشكيك في مصداقية الكرة الذهبية    الملك محمد السادس يبعث برقية تعزية ومواساة إلى بايدن إثر وفاة الرئيس الأسبق جيمي كارتر    الحكومة ستقدم عرضا أوليا حول إصلاح أنظمة التقاعد في شهر يناير المقبل    امطار رعدية مرتقبة بالريف والواجهة المتوسطية    من يرد الاعتبار للكاتب بوعلام صنصال.. بعد تطاول عبد المجيد تبون؟    البشرية على شفا الانقراض.. تحذيرات عراب الذكاء الاصطناعي من الخطر المقبل    سفير روسيا في الرباط يبرز قوة العلاقات بين البلدين ويؤكد أن موقف المغرب متوازن بخصوص الحرب الروسية الأوكرانية    استفادة حوالي 34 ألف أسرة من دعم السكن إلى غاية 27 دجنبر الجاري    الحسيمة..العثور على جثة أربعيني داخل منزل ببني بوعياش    والي جهة الشمال يعلن عن فتح باب الترشيح لشغل مناصب شاغرة بعمالة طنجة أصيلة    التحقيقات تكشف تفاصيل مثيرة عن كارثة الطائرة الكورية.. هل كان الجشع وراء الحادث؟    2025: سنة التغيير في ملف الصحراء    تأملات مرحة في موضوع جدي!    بنكيران: الملك لم يورط نفسه بأي حكم في مدونة الأسرة ووهبي مستفز وينبغي أن يوكل هذا الموضوع لغيره    تبون يمارس سياسة "كاموفلاج" للتغطية على أزمات الجزائر الداخلية    شخصية السنة/الدجاجلة: بين جغرافيا الجسد وسيكولوجيا السلطة !    التكنولوجيا في خدمة التعليم: التحالف الاستراتيجي لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة مع شركة هواوي المغرب    الفنيدق تحتضن منافسات كأس العرش للفول كونتاكت    الدورة الثالثة لمهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش ما بين 30 يناير و2 فبراير المقبلين    تأجيل محاكمة فؤاد عبد المومني إلى تاريخ 20 يناير المقبل    المالكي يغادر السجن بعد تخفيض العقوبة    جماهير الرجاء تطالب عادل هالا بالاستقالة    وزارة الثقافة تعلن موعد الدورة ال30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب    سطات تتصدر مقاييس الأمطار بالمغرب    وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عن 100 عام    دراسة: طفرة جينية قد تساعد على إبطاء نمو أنواع من السرطان    وفاة المطرب المصري الشعبي الشهير أحمد عدوية    كيميتش: "لم أستطع النوم بعد خروج ألمانيا من بطولة يورو 2024"    بورصة الدار البيضاء : تداولات الافتتاح على وقع الأخضر    مسبار "باكر" الشمسي يحقق إنجازا تاريخيا باقترابه من الشمس والتحليق في غلافها الجوي    ارتفاع حصيلة قتلى حادث السير في إثيوبيا إلى 71 شخصا    المدرج الجنوبي" يخرج عن صمته ويرفع الورقة الحمراء في وجه رئيس الرجاء ومكتبه    داري وعطية الله يعززان دفاع الأهلي في مواجهة إنبي    بسبب فرضه الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يواجه الاعتقال    علاكوش يشرف على تأسيس النقابة الوطنية للمتصرفين التربويين بجهة الدار البيضاء سطات    مع اختتام فعاليات مهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية.. المنظمون يهدفون إلى تحقيق 1000 جدارية بالمدينة    الوزاني بخمسة أهداف في البرتغال    الصحة العالمية تكشف سر المرض الغامض في الكونغو    دراسة: اكتشاف طفرة جينية قد تساعد على إبطاء نمو أنواع من السرطان    الولايات المتحدة.. تحور فيروس إنفلونزا الطيور يثير قلقا علميا    انتشار "بوحمرون" بإقليم شفشاون يدق ناقوس الخطر ومطالب عاجلة على طاولة الوزير    الثورة السورية والحكم العطائية..    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الصحف .. الشروق الجزائرية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 08 - 2011

«حليب الماعز» الغذاء الوحيد ولا يعرفون شيئا عن الفواكه
وضعهم أكثر من مأساوي، فقر مدقع وحليب ماعز مصدر رزقهم، يفترشون الأرض لتناول «الحساء» بعد كل أذان مغرب منذ دخول شهر الرحمات، وهو أكل تقليدي، إنها حالة كارثية تعيشها عائلة «كوتيري» القاطنة بالزرايب المتواجدة على مستوى حي «بلبشير» الذي يبعد عن مقر ولاية إيليزي بنحو 02 كلم فقط، أوضاع مزرية وإنعدام كلي لمظاهر الحياة البشرية، هل يعقل أن أسرة بالكامل تقتات من حليب الماعز على مدار السنة؟، في حين ينعم أبناء المسؤولين بالخيرات وكل ما لذا وطاب.
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما تنقلنا إلى منطقة «الزرايب المترامية» هنا وهناك وتسمى باللهجة التارڤية ب «إكبران»، وهي عبارة عن أكواخ مشيدة من بقايا الحطب ومسطحة بالقش وأغصان الأشجار الصحراوية وجذوع النخيل والسعف وبعض صفائح القصدير، حيث تفاجأنا بوجود مجموعة أطفال يلعبون تحت درجة حرارة تفوق 46 مئوية حفاة عراة، وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا على سلامتهم، في ظل انتشار الزواحف والحشرات السامة منها العقارب والأفاعي، استقبلتنا «الزهرة» في بيتها هي وأبناؤها وإخوتها الأربعة وعلى وجوههم ارتسمت ملامح الشقاء والبؤس الدائم وبدأت تروي لنا معاناتها اليومية، فلا مكيف هوائي ولا حتى «مروحة» في فترة تعرف فيها المنطقة ارتفاعا ملتهبا لدرجة الحرارة تزامنت وشهر الصيام، مع انعدام الكهرباء في كوخ شبيه بمواقع الهنود الحمر.
«أطفالي معرضون للموت البطيء ولا قوت لهم» تقول محدثتنا التي أكدت «للشروق» أنه حتى الماء منعدم هنا ويتم جلبه من بئر مشترك بين العائلات المقيمة دون أن يخضع إلى الوقاية والتنظيف أو تصفيته من الأوساخ، الأمر الذي جعل العديد من العائلات تعاني من أمراض مزمنة في ظل غياب شبكتي المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي وكذا عمليات التطهير، وتواصل «الزهرة» الحديث بتنهيدات متقطعة إننا نعيش هنا منذ الاستقلال في ظروف معيشية صعبة للغاية ونحلم بسكن لإيواء أولادي والخروج من عنق الزجاجة، خاصة وأنني أقيم مع أبويا وهما متقدمان في السن وغير قادرين على مواجهة المصاعب لا حول لنا ولا قوة، نحن لا نملك قوت يومنا وكل يوم ندعوا الله أن يرزقنا من السماء قوتا يسد رمقنا تقول نفس المتحدثة بحسرة كبيرة والدموع تنهمر من عينها إننا نموت ولا أحد يسمع بنا «عمر بن الخطاب» أين الرسول لا إله إلا الله حسبنا الله ونعم الوكيل »هكذا رددت أم الأولاد ليس لنا إلا الحليب ونشتاق للفواكه والمشروبات التي لا نتذوقها في حياتنا ولم نشم رائحتها، منذ دخول شهر الخيرات وما قبله طاولة الإفطار خالية بسبب الجفاف وغياب الكلأ بالنسبة للماشية وعدم قدرة العائلات المجاورة على الصمود أكثر وقطعان الماعز أصبحت تجف من الحليب لأنها لا ترعى سوى بقايا المزابل والمخلفات، وباستثناء منحة الشبكة الاجتماعية المقدرة ب 3000 لا مدخل لنا تشير الزهرة قائلة قفة رمضان استهلكت، وماذا بعدها حتى التمر الجاف لا نجده في الوقت الحالي، ومنه ناشدت السلطات مساعدتها سريعا قبل أن تهلك هي ومن معها في ولاية تعد الأغنى بين ولايات الجنوب.
لكن هذه الصورة الخادشة لمغرب اليوم، تشوش على هذا المستقبل القريب الذي ننتظره جميعا، ومن شأنها أن تفرغ كل هذه الاصلاحات التي طالب بها المجتمع المغربي وقواه الحية من محتوها.
شهر رمضان، هو شهر للعبادة، وفيه يراجع المسلم كل أخطائه وخطاياه، لكن مثل هذه الكائنات لا ترى فيه إلا وسيلة ليس للتقرب لله، بل للتقرب الى أصوات عباده والعياذ بالله من أجل ا حتلال المؤسسات والترامي عليها بطرق تدليسية..
للأسف يجري كل هذا أمام أعين السلطات دون أن يتحرك أي مسؤول لإيقاف هذا العبث، الذي سيكون له تأثير سلبي على العملية الانتخابية غدا.
الشفافية تقتضي محاربة كل الأساليب والأشكال والمؤثرات التي من شأنها أن تحسم غدا في هذه المحطة الحاسمة في مغرب اليوم بطريقة غير مشروعة وشرعية
موائد الرحمان كما هي مثلا في تركيا مغايرة تماما لما هو حاصل في بلادنا، إذ تشرف الحكومة هناك على هذه الظاهرة، حيث منع رئيس الوزراء على وزراء حكومته تناول الإفطار في الفنادق والمطاعم الفخمة في هذا الشهر، بل نجد الوزراء يقبلون هم الآخرون على موائد الرحمان جنبا الى جنب مع بسطاء مواطني تركيا دون أي مركب نقص، ودون أن تشتعل عدسات الكاميرات وآلات التصوير، إذ تم منع هذه العملية، تجنبا لأي تسويق سياسي، حفاظا على قدسية هذا الشهر الفضيل، لكن في الحالة المغربية الوضع شاذ ومعاكس لما يجري في بلد العثمانيين. إذ تتسابق الكائنات الانتخابية التي راكمت ثرواتها بطرق غير مشروعة، من أجل شراء أصوات فقراء بلدها، عن طريق هذه الموائد وعن طريق البونات، بعدما يتم «انتزاع» القسم من هؤلاء المحتاجين للتصويت عليهم، وبذلك تتحول موائد الرحمان، كما هو حاصل في تركيا، الى موائد الشيطان في بلادنا.
حالة هذا الورش نموذج لما يعانيه الآلاف من عمال البناء بمراكش خلال شهر رمضان الذي يتزامن هذه السنة مع شواظ نار فصل الصيف ينضاف إليها الجوع و العطش.. عكس مستخدمي قطاعات أخرى الذين ينعمون بعطلة مريحة في الشواطيء والجبال والمنتزهات ومراكز الاصطياف..
وأنت بين عمال البناء يغمرك إحساس بالألم والغربة تتذكر النشيد الذي كان درس في أقسامنا الابتدائية ويردد في أعياد الشغل: «نحن عمال البلاد. فتيان الزمن. نحن آمال البلاد.. نحن أركان الوطن. كم بنينا من قصور.. نطحت ركن السحاب....«
يندهشون من رؤيتك وسطهم، فيعتقدون منذ الوهلة الأولى مالك البناية أو أحد أرباب العمل، لأنك وببساطة لا ترتدي مثلهم نفس الأسمال التي تشكل بقايا الإسمنت المتصلب جزءا منها، أو تحمل معك المعول أو غيره من أدوات البناء التي تظهرك كعامل جديد يبحث عن كسرة خبز ليس إلا..
حياة مليئة بالمخاطر في ظل غياب تأمين صحي، وإن وهن الجسد و خارت قواه، فلا منقذ من مواجهة العوز و الفقر. لأن هذا العمل في هذا القطاع هو آخر ما يشد اهتمامات مفتشي الشغل فيغدو العامل فيه أشبه بمن يؤدي مهمة في زمن السهرة .
عزوز واحد من هؤلاء، ينحدر من منطقة شوطر نواحي مراكش في اتجاه أيت أورير، في الخمسين من عمر، أب لثلاثة أطفال وجدناه في الطابق الأخير من البناية حيث درجة الحرارة تتجاوز الخامسة و الأربعين، وهو يتصبب عرقا كأنبوب ماء لا يتوقف عن التدفق، و بجانبه مساعده عبد الكريم الذي يمرر له خليط (البغلي) لترميم واجهة جدار وتزيينها. روح المرح و الكلام الجميل لا يفارقه، و الابتسامة المسترسلة تتغشى قسمات وجه، إن باشرت الكلام معه سرعان ما يحوله إلى نكتة أو ضحكة لا تنتهي و يغير تساؤلاتك إلى شكوك أو تلميحات، يحاول تجنب ما تطلبه و يباشر شرح ما يقوم به من عمل، وإن أطلت من استفساراتك يطالبك بمساعدته أو إسداء خدمة له إن تاه مساعده بحثا عن إسمنت أو ماء أو غيرها من المستلزمات التي يفرضها عمله ليلخص كل أسئلتك في كلمات محدودة يقول عزوز:
«أن شهر رمضان يصعب فيه العمل لكن ظروف العيش تحتم علينا أن نعمل و نكد لنوفر ما تحتاج إليه عائلاتنا.. كل من يأمل يوما أن يرى أحد أفراد أسرته صاحب مشروع للبناء، علنا ننعم بالراحة ونتفرغ لأنفسنا ونرتاح من شقاء لازمنا قرابة عقود طويلة..»
ويضيف عزوز بحسرة وألم:
«أصبح شهر رمضان ينهكني بفعل تقدمي في السن .. في شبابي لا أبه لذلك . حينها كانت لي القدرة و الصبر على تحمل اعباء العمل. لكن لاشيء يلبث على حاله، و الزمان يفرض منطقه على الحياة و توالي السنين ينال من الجسد فيجد المرء نفسه مجبر على أداء عمل شاق بجسد منهوك لانتزاع لقمة تسد بعض الرمق..» .
تركنا عزوز لنجد شابا مفعما بالحيوية يعمل لوحده تحت درجة حرارة مرتفعة، لا يعرف الملل طريقا لنفسه، صنع لنفسه خودة ورق أكياس الإسمنت لتقيه من لهيب أشعة الشمس التي تلحف الرؤس والسواعد ، تخاله في الوهلة الأولى أنه إنسان عادي لا يفقه في الحياة سوى العمل ، لتصدم أن عبد الله من مدينة الجديدة ، عمره 26 سنة حاصل على الإجازة في القانون العام، حاول أن يحصل على وظيفة مع الدولة أو في القطاع الخاص ، ليجد نفسه و بدون سابق إشعار يزاول مهنة أبيه التي حاول الابتعاد عنها، لكن الظروف حتمت عليه أن يزاولها لأنه العمل الوحيد الذي يتقنه، يحمد الله على كل شيء فما يجنيه من عمله يستطيع العيش به في مدينة مراكش، وادخار جزء منه للوفاء باحتياجات سفره إلى الجديدة لرؤية العائلة.
والده تقبل فكرة العمل في البناء انطلاقا من المبدأ الشهير«تبع حرفة بوك ليغلبوك» واستطاع ان يوفر لنفسه مسكنا بجوار منزل اسرته و هو الان يفكر في الزواج خصوصا وأنه قضى ست سنوات من عمره في مهنة البناء، في قناعته أن لا حائل يوقفه عن هذه الرغبة. يشكو في بعض الأحيان من الذين يزاولون معه المهنة لانهم يؤمنون بما يعرفون و لا يتقبلون ما يقدمه من معرفة، لكنه سرعان ما يتجاوز ذلك لانها عشرة عمر في عالم يغلب عليه الاسمنت المسلح .
بجانبه صديقه و رفيقه في الدرب ياسر من الزمامرة نواحي الجديدة، هو الآخر مجاز في القانون الخاص، يعتبر نفسه مولودا جديدا في هذه المهنة لأنه لم يتجاوز سنة من العمل تقريبا، قدره أن يشتغل في شهر رمضان لأول مرة في حياته، يحاول قدر المستطاع تلبية ما يطلبه المعلم تحت شمس مراكشية حارقة، لكنه لا يهتم فهناك عمل كثير ينتظره ولا بد من أن ينهيه كي يرضى عنه رب العمل، حياة اخرى غير التي كان يتصورها أو يتمناها، استسلم هو الآخر لقدره وتأقلم معه بسرعة.
تركناه يقاوم يومه بكبرياء محارب في الصحراء ، لنجد شخصا آخر يعمل لوحده إنه الصحراوي كما يلقبونه. عمره تجاوز الستين. لكنه يقول إنه لم يشغل نفسه أبدا بتعداد رصيده الزمني في الوجود، لأن مسألة العمر في نظره مجرد سخافة لا تعنيه كثيرا .
يتكفل الشيخ الصحراوي بطبخ الطعام و تحضير إفطار رمضان في الورش وهو الذي يرشد و يوجه العمل، صمت رهيب يتحلى به هذا الشخص القادم من نواحي مدينة ورزازات . فالعمل هو الشىء الوحيد الذي يهمه، لا يهنأ له بال إلأ عندما ينتهي من مهمته، بل ربما في بعض الاحيان قد يتشاجر مع الاخرين لانه يرى في مخيلته أن لا أحد يتفانى و يخلص في عمله.
بالنسبة للصحراوي العمل في شهر رمضان لايختلف عن مثيله في باقي الشهور الاخرى. و ما يقتاته في الايام العادية يماثل ما يعيش به في رمضان ، بل يوفر عليه مصروف الغذاء والفطور، و المحسنون هم الذين يتكفلون بإفطاره، فلا يتبقى له سوى ما يتناوله في العشاء. اعتاد من صغره أن يعمل ليساعد عائلته الكبيرة قبل الصغيرة.. لقبه زملاؤه من العمال في الورش بالصحراوي لأن له صبرا ليس له حدود في جميع الأمور التي يتكفل بها.. وهو و الدهم في الوقت الذي يغيبون فيه عن ذويهم، ومرشدهم في العمل ، إنسان صارم في حياته لكنه عطوف في نفس الوقت .
الواقع أننا عانينا كثيرا ونحن نتأمل هؤلاء الدين يمتهنون الشقاء من اجل بناء عمارات ومباني سينعم فيها الآخرون أما هؤلاء فمن ورش إلى أخر ومن شقاء إلى أخر دون ملل ولا كلل، تعبنا وتصببنا عرقا وكل ما فعلناه أننا وضعنا اسئلة حارقة في يوم رمضاني ملتهب بالحرارة والشقاء على سواعد هي التي تبني حقا صرحا معماريا دون أن يلتفت إليها أحد..
إنها حياة قاسية في شهر رمضان تفرضها طبيعة عمل شاق لأناس يكدون و يعملون بلا توقف، بل لا يعرف قاموس الراحة مكانا في حياتهم ، لأن في ذلك انسداد أبواب الرزق و الفاقة و الفقر .. هؤلاء لا يلتفت لوجودهم أولئك الذين هيأت لهم ظروف أحسن من عمل مريح و رصيد منتفخ في البنك و مسكن باذخ و حياة مليئة بالرخاء و الراحة ..
مكتب مراكش : زكريا بن عبيلو
في عالم البناء يغيب كل هذا لتحل محله شمس حارقة تلسع الأبدان و معاول و جرارات من حديد و لا مكان سوى لمن يتمتع بالقوة و الصبر .. هكذا شاهدنا صباح يوم لافح من أيام رمضان، حيث ترتفع درجة الحرارة بمراكش لتفوق الأربعين في إحدى البنايات في طور الإنجاز بشارع علال الفاسي .. عمال البناء هنا و هناك، .. السرعة في العمل و الهتافات .. منهم من يتسلق السلالم ويحمل معه كيسا من الإسمنت أو الرمل، ومنهم من تراه معلقا في البناية بحبل سميك محاولا في استماتة التغلب على جدار تحتاج واجهته لمزيد من الاهتمام، و آخرون يصنعون هرما من الرمل ممزوجا بالإسمنت يتعاونون عليه لإعداده بسرعة و تمريره للمعلم الذي ينتظر الخليط عن طريق الرافعة «البوجي» الذي تجده بالطابق الذي يركزون عملهم فيه..
حالة هذا الورش نموذج لما يعانيه الآلاف من عمال البناء بمراكش خلال شهر رمضان الذي يتزامن هذه السنة مع شواظ نار فصل الصيف ينضاف إليها الجوع و العطش.. عكس مستخدمي قطاعات أخرى الذين ينعمون بعطلة مريحة في الشواطيء والجبال والمنتزهات ومراكز الاصطياف..
وأنت بين عمال البناء يغمرك إحساس بالألم والغربة تتذكر النشيد الذي كان درس في أقسامنا الابتدائية ويردد في أعياد الشغل: «نحن عمال البلاد. فتيان الزمن. نحن آمال البلاد.. نحن أركان الوطن. كم بنينا من قصور.. نطحت ركن السحاب....«
يندهشون من رؤيتك وسطهم، فيعتقدون منذ الوهلة الأولى مالك البناية أو أحد أرباب العمل، لأنك وببساطة لا ترتدي مثلهم نفس الأسمال التي تشكل بقايا الإسمنت المتصلب جزءا منها، أو تحمل معك المعول أو غيره من أدوات البناء التي تظهرك كعامل جديد يبحث عن كسرة خبز ليس إلا..
حياة مليئة بالمخاطر في ظل غياب تأمين صحي، وإن وهن الجسد و خارت قواه، فلا منقذ من مواجهة العوز و الفقر. لأن هذا العمل في هذا القطاع هو آخر ما يشد اهتمامات مفتشي الشغل فيغدو العامل فيه أشبه بمن يؤدي مهمة في زمن السهرة .
عزوز واحد من هؤلاء، ينحدر من منطقة شوطر نواحي مراكش في اتجاه أيت أورير، في الخمسين من عمر، أب لثلاثة أطفال وجدناه في الطابق الأخير من البناية حيث درجة الحرارة تتجاوز الخامسة و الأربعين، وهو يتصبب عرقا كأنبوب ماء لا يتوقف عن التدفق، و بجانبه مساعده عبد الكريم الذي يمرر له خليط (البغلي) لترميم واجهة جدار وتزيينها. روح المرح و الكلام الجميل لا يفارقه، و الابتسامة المسترسلة تتغشى قسمات وجه، إن باشرت الكلام معه سرعان ما يحوله إلى نكتة أو ضحكة لا تنتهي و يغير تساؤلاتك إلى شكوك أو تلميحات، يحاول تجنب ما تطلبه و يباشر شرح ما يقوم به من عمل، وإن أطلت من استفساراتك يطالبك بمساعدته أو إسداء خدمة له إن تاه مساعده بحثا عن إسمنت أو ماء أو غيرها من المستلزمات التي يفرضها عمله ليلخص كل أسئلتك في كلمات محدودة يقول عزوز:
«أن شهر رمضان يصعب فيه العمل لكن ظروف العيش تحتم علينا أن نعمل و نكد لنوفر ما تحتاج إليه عائلاتنا.. كل من يأمل يوما أن يرى أحد أفراد أسرته صاحب مشروع للبناء، علنا ننعم بالراحة ونتفرغ لأنفسنا ونرتاح من شقاء لازمنا قرابة عقود طويلة..»
ويضيف عزوز بحسرة وألم:
«أصبح شهر رمضان ينهكني بفعل تقدمي في السن .. في شبابي لا أبه لذلك . حينها كانت لي القدرة و الصبر على تحمل اعباء العمل. لكن لاشيء يلبث على حاله، و الزمان يفرض منطقه على الحياة و توالي السنين ينال من الجسد فيجد المرء نفسه مجبر على أداء عمل شاق بجسد منهوك لانتزاع لقمة تسد بعض الرمق..» .
تركنا عزوز لنجد شابا مفعما بالحيوية يعمل لوحده تحت درجة حرارة مرتفعة، لا يعرف الملل طريقا لنفسه، صنع لنفسه خودة ورق أكياس الإسمنت لتقيه من لهيب أشعة الشمس التي تلحف الرؤس والسواعد ، تخاله في الوهلة الأولى أنه إنسان عادي لا يفقه في الحياة سوى العمل ، لتصدم أن عبد الله من مدينة الجديدة ، عمره 26 سنة حاصل على الإجازة في القانون العام، حاول أن يحصل على وظيفة مع الدولة أو في القطاع الخاص ، ليجد نفسه و بدون سابق إشعار يزاول مهنة أبيه التي حاول الابتعاد عنها، لكن الظروف حتمت عليه أن يزاولها لأنه العمل الوحيد الذي يتقنه، يحمد الله على كل شيء فما يجنيه من عمله يستطيع العيش به في مدينة مراكش، وادخار جزء منه للوفاء باحتياجات سفره إلى الجديدة لرؤية العائلة.
والده تقبل فكرة العمل في البناء انطلاقا من المبدأ الشهير«تبع حرفة بوك ليغلبوك» واستطاع ان يوفر لنفسه مسكنا بجوار منزل اسرته و هو الان يفكر في الزواج خصوصا وأنه قضى ست سنوات من عمره في مهنة البناء، في قناعته أن لا حائل يوقفه عن هذه الرغبة. يشكو في بعض الأحيان من الذين يزاولون معه المهنة لانهم يؤمنون بما يعرفون و لا يتقبلون ما يقدمه من معرفة، لكنه سرعان ما يتجاوز ذلك لانها عشرة عمر في عالم يغلب عليه الاسمنت المسلح .
بجانبه صديقه و رفيقه في الدرب ياسر من الزمامرة نواحي الجديدة، هو الآخر مجاز في القانون الخاص، يعتبر نفسه مولودا جديدا في هذه المهنة لأنه لم يتجاوز سنة من العمل تقريبا، قدره أن يشتغل في شهر رمضان لأول مرة في حياته، يحاول قدر المستطاع تلبية ما يطلبه المعلم تحت شمس مراكشية حارقة، لكنه لا يهتم فهناك عمل كثير ينتظره ولا بد من أن ينهيه كي يرضى عنه رب العمل، حياة اخرى غير التي كان يتصورها أو يتمناها، استسلم هو الآخر لقدره وتأقلم معه بسرعة.
تركناه يقاوم يومه بكبرياء محارب في الصحراء ، لنجد شخصا آخر يعمل لوحده إنه الصحراوي كما يلقبونه. عمره تجاوز الستين. لكنه يقول إنه لم يشغل نفسه أبدا بتعداد رصيده الزمني في الوجود، لأن مسألة العمر في نظره مجرد سخافة لا تعنيه كثيرا .
يتكفل الشيخ الصحراوي بطبخ الطعام و تحضير إفطار رمضان في الورش وهو الذي يرشد و يوجه العمل، صمت رهيب يتحلى به هذا الشخص القادم من نواحي مدينة ورزازات . فالعمل هو الشىء الوحيد الذي يهمه، لا يهنأ له بال إلأ عندما ينتهي من مهمته، بل ربما في بعض الاحيان قد يتشاجر مع الاخرين لانه يرى في مخيلته أن لا أحد يتفانى و يخلص في عمله.
بالنسبة للصحراوي العمل في شهر رمضان لايختلف عن مثيله في باقي الشهور الاخرى. و ما يقتاته في الايام العادية يماثل ما يعيش به في رمضان ، بل يوفر عليه مصروف الغذاء والفطور، و المحسنون هم الذين يتكفلون بإفطاره، فلا يتبقى له سوى ما يتناوله في العشاء. اعتاد من صغره أن يعمل ليساعد عائلته الكبيرة قبل الصغيرة.. لقبه زملاؤه من العمال في الورش بالصحراوي لأن له صبرا ليس له حدود في جميع الأمور التي يتكفل بها.. وهو و الدهم في الوقت الذي يغيبون فيه عن ذويهم، ومرشدهم في العمل ، إنسان صارم في حياته لكنه عطوف في نفس الوقت .
الواقع أننا عانينا كثيرا ونحن نتأمل هؤلاء الدين يمتهنون الشقاء من اجل بناء عمارات ومباني سينعم فيها الآخرون أما هؤلاء فمن ورش إلى أخر ومن شقاء إلى أخر دون ملل ولا كلل، تعبنا وتصببنا عرقا وكل ما فعلناه أننا وضعنا اسئلة حارقة في يوم رمضاني ملتهب بالحرارة والشقاء على سواعد هي التي تبني حقا صرحا معماريا دون أن يلتفت إليها أحد..
إنها حياة قاسية في شهر رمضان تفرضها طبيعة عمل شاق لأناس يكدون و يعملون بلا توقف، بل لا يعرف قاموس الراحة مكانا في حياتهم ، لأن في ذلك انسداد أبواب الرزق و الفاقة و الفقر .. هؤلاء لا يلتفت لوجودهم أولئك الذين هيأت لهم ظروف أحسن من عمل مريح و رصيد منتفخ في البنك و مسكن باذخ و حياة مليئة بالرخاء و الراحة ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.