صدر عن دار الطليعة مؤلف بعنوان «معضلة الأصولية الإسلامية « في طبعتها الثانية لسنة 2008 للدكتور هاشم صالح، بشراكة مع رابطة العقلانيين العرب التي تسعى إلى نشر الفكر العقلاني النقدي في الوطن العربي . يهدي الكاتب هذا المجهود الفكري إلى كل ضحايا الأصولية الظلامية والتعصب الديني في العالم الإسلامي. والدكتور هاشم معروف خاصة بترجمته الممتازة للمرحوم محمد أركون . كانت آخر ترجمة له بعد رحيله كتاب «نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية» . أما الكتاب فهو عبارة عن مجموعة من المقالات الفكرية والنقدية تربطها خيط واحد هو معضلة الأصولية الإسلامية والصراع بينها وبين الحضارة الحديثة ، يعرض فيها الكاتب مجموعة من الأطروحات لمفكرين وباحثين عرب ومستشرقين ، لهم صيت عالمي ، مهتمين بالأصولية الإسلامية . يقول هاشم في مقدمة الكتاب : هذا الكتاب لي وليس لي في آن معا ، وانه لي ضمن مقياس أني انا الذي اخترت كتبه و عرضتها وناقشتها ، واختلفت معها أو اتفقت . ولكن ليس لي ضمن مقياس أني حاولت بقدر المستطاع أن افرض بشكل حيادي وموضوعي عشرات الكتب التي ألفها آخرون غيري ، وجميعها تدور بشكل أو بأخر حول مسألة «الأصولية الإسلامية « والصراع بينها وبين الحضارة الحديثة ككل . وقد أصبحت هذه المسألة الشغل الشاغل للمفكرين العرب والأجانب في شتى أنحاء الأرض كما هو معروف. أما الكتب المعروضة هنا فجميعها مكتوبة بالفرنسية ، ماعدا كتابين الأول لمحمد عبد المطلب الهوني ، والثاني لكمال عبد اللطيف . فالكتب جميعها تناقش مسالة الأصولية الإسلامية من عدة جوانب، وعدة زوايا مختلفة لتفكيك الظاهرة الأصولية الإسلامية من جذورها . طبعا ، يختلف المنظور النقدي و ألتفكيكي للظاهرة من مؤلف إلى آخر . فالبعض يركز على العوامل السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية في ظهور الظاهرة ، والبعض الآخر يركز على العوامل العقائدية المحضة ، وبالتالي هناك عدة اضاءات مسلطة على ظاهرة الأصولية الإسلامية المتعصبة لا إضاءة واحدة . فالكتاب الذي بينا أيدينا يتناول عدة أطروحات لعشرات الكتب تدخل في إطار فهم الوضع المظلم الذي تشكل تهديدا للحضارة الإنسانية بجميع صورها ، كما يدخل في إطار مشروع أوسع ، مشروع تنويري خاص بالعالم العربي والإسلامي ، لكن لا يمكن فهمه التنوير ى الذي يطمح إليه الكاتب إلا بفهم التنوير بمعناه الواسع . نقصد التنوير الأوربي والصراع الذي أخذه مع الكنيسة لعدة قرون . إن ما يتفق عليه جل المفكرين الذين استعرض هاشم صالح كتبهم هو أن ما ينقص العالم الإسلامي بالضبط هو المرور بالمرحلة التنويرية كما حصل في أوربا في القرن الثامن عشر . فالمقالات التي سننشرها تعتبر خلاصا ت لأهم ما جاء في كتاب الدكتور هاشم صالح التي سنقدمها بدورنا للقارئ العربي على شكل أوراق بشكل مبسط ومختزل لفهم واقع معضلة الأصولية الإسلامية التي تنامت بعد 11 سبتمبر وضربة مدريد وضربة الدارالبيضاء . عنونا هذه المقالات ب «أوراق تنويرية « لان لها طابع تنويري، تنوير العقل العربي بمفاهيم وأطروحات تزعزع يقينيان القارئ العربي غير المنفتح ،الذي يعتبر الفرقة المنتمية إليها هي وحدها «الناجية « . هدفنا بالدرجة الأولي من هذه الأوراق فهم هذه المعضلة الأصولية أولا ، والى محاولة تفكيك ونقد مواقف وأرثوذكسيات فقهاء القرون الوسطى ، تلك المواقف التي يجب تجديدها أو القطع معها إلى حد لا عودة . يصل عدد الأوراق إلى 20 ورقة تنويرية في مجملها. لماذا اختفت النزعة الإنسانية (اللأنسنة) من ساحة الفكر العربي الإسلامي؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه محمد أركون في كتابه «نزعة الأنسنة في الإسلام « . يعتبر أركون أن النزعة الإنسانية كانت موجودة بين القرنين الثامن والحادي عشر للميلاد في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية نتيجة تفاعل التراث الإسلامي والفلسفة اليونانية (مرحلة الانفتاح ). ثم جمدت بعد أن دخلنا عصر التكرار والاجترار، أو ما يدعي بعصر الانحطاط.، وجاء اختفاؤها تزامنا مع موت الفلسفة الرشيدية. الأطروحة التي يدافع عنها أركون في كتابه المذكور هو أن النزعة الإنسانية كانت موجودة قبل أوربا، على عكس ما يتوهم المستشرقون التي لم تظهر عندهم إلا في القرنين 15 و16 أي في عصر النهضة. فالمستشرقون يعتقدون بان النزعة الإنسانية لم تظهر إلا في الحضارة الأوربية ، أما قبل ذلك ، فكانت البشرية تعيش ظلمات العصور الوسطى التي تحتقر الإنسان، وتعتبر انه لا أهمية له في الوجود. فالحياة الحقيقية عندهم هي الحياة الأخرى وليس هذه الحياة الدنيا (ص 43). من بين الذين جسدوا الموقف الإنساني المنفتح عن العلوم الدنيوية والعقلانية أدباء فلاسفة ومتكلمون خصوصا المعتزلة ، و الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وسليمان السجستاني المنطقي وأبو حيان التوحيدي ومسكويه والنظام والعلاف والقائمة طويلة . هؤلاء مزجوا بين العلوم الأصيلة والعلوم العقلية. هؤلاء هم أصحاب النزعة الإنسانية التي يدافع عنها أركون في أطروحته ، والذين ظهروا قبل عصر السلاجقة (عصر أبي حامد الغزالي ). نقلت تلك الحضارة العلمية والفلسفية سواء في المشرق أو في المغرب والأندلس إلى أوربا بعد موت الفلسفة بسبب هجوم الغزالي عليها ، وبالتالي ماتت تلك النزعة الإنسانية والعقلانية ،وعم الظلام في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه طيلة تسعة قرون، أي حتى فجر النهضة الحديثة والاتصال بأوربا في القرن التاسع عشر بسبب حملة نابليون ومحمد علي ورفاعة الطنطاوي (ص 45). بالنسبة إلى النزعة الإنسانية وفي ما معناها ، يميز أركون بين تيارين من الفكر ، فكر العصور الوسطى، الأول يتمثل بالنزعة الإنسانية المتمركزة حول الله أي حول المركزية اللاهوتية ، والثاني يتمثل بالنزعة الإنسانية المتمركزة حول الإنسان ويسميها أركون بالمركزية الإنسانية (ص 45). النزعة الأولى تجسدت لدى كبار اللاهوتيين المسلمين أو المسيحيين أو اليهود ، وكانت مرجعيتها «النصوص المقدسة « في الأديان الثلاثة ، والثانية تجسدت لدى الفلاسفة العرب أو سواهم وكانت مرجعيتها أفلاطون وأرسطو. لكن هل الثانية قطعت مع الأولى ؟ أليس الفارابي وابن سينا وابن رشد كانوا لاهوتيين ؟ يعترف أركون بان عصر التنوير وحده الذي تجرأ على إحداث قطيعة مع اللاهوت وحقق للفلسفة استقلاليتها بعد أن كانت خادمة للاهوت (ص 46). السؤال هل يمكن للعرب القطع مع تلك النزعة اللاهوتية التي تجسدت في اللاهوتيين المسلمين الذين ظهروا في ما بين القرنين الثامن والحادي عشر للميلاد وهم لم ينتجوا لا علما و لا فلسفة ؟ فالقطيعة لها شروط تاريخية، فلا بد من عقل نقدي تفكيكي، انقلابي فى المجتمعات العربية والإسلامية قادر على انتقاله من مرحلة الجمود إلى مرحلة الانفتاح والتنوير. تلك هي بعض شروط القطيعة التي كان يدافع عنها محمد أركون رحمه الله.