هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال. الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني. أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى. في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972. حينما يجد الكائن البشري نفسه محبوسا, محروما من كل شيء, مضطرا للعيش في ظروف جهنمية و لا إنسانية, بغذاء يضمن له بالكاد ألا يموت جوعا و في وسط يتاخم فيه الأخطار المحدقة كل حين , فإن عقله يشرع في التفكير لمواجهة و مقاومة هذه الظروف والتغلب عليها. وهكذا تحول بعضنا إلى مخترعين كبار, وأولهم محمد غلول عبقري الاختراعات الذي أفادنا كثيرا.و لم تكن الملكية الفكرية لهذه الاختراعات حكرا على صاحبها بل كنا نقتسمها مع بعضنا البعض كما تقتضي ذلك اشتراكية الحرمان. حين تم إيداعنا زنازيننا المظلمة بتلك الطريقة التي لا تمت للمعاملة البشرية بصلة, نازعين منا كل أداة أو متاع باستثناء لباسنا الصيفي,كما تذكر ذلك أيها القارئ العزيز,و بعد أن تعرفنا على بعضنا البعض,طفقنا نبحث عن وسيلة لاستلام أو تسليم بعض الأشياء لبعضنا من زنزانة لأخرى. ولم أعد أذكر من فكر و أنجز ذلك الحبل البسيط والعجيب في نفس الآن الذي مكننا من تبادل الأشياء بيننا, و قد أصبح لكل واحد منا حبله الذي يمكنه من التواصل مع جاريه القريبين في الزنزانة و مع جاره في الزنزانة المقابلة. فقد كنا نخرج يدنا الممسكة بالحبل من تلك النافذة الصغيرة جدا الموجودة بالباب, و نعمد إلى طرفه فنضع فيه ثقالة تمكننا من قذفه بقوة إلى الاتجاه الذي نريد. و هكذا كنت أنادي على جاري الذي أريد أن أرسل له شيئا أو أستلم منه «بعيثة» فيخرج ما استطاع من يده أو ذراعه من «نافذته» و أشرع في رمي الحبل مرات و مرات إلى أن يتمكن من الإمساك به فيعلن ذلك و يقوم بنفس العملية بطرف الحبل الذي أمسك به في اتجاهي إلى أن أتمكن بدوري من الإمساك به, و آنذاك يصبح لدينا معا حبلا جرارا فيعمد الراغب في إرسال «البعيثة» - التي كانت في البداية لا تتعدى خبزا أو سلكا أو قطعة بطانية ثم تحولت مع مرور الوقت و ازدياد «ثروتنا» لكي تصبح دواء أو رسالة أو بطارية...- إلى ربطها إلى الحبل ثم تبدأ عملية تحريكه على شكل بكرة, و تتحرك البعيثة ببطء في الاتجاه المطلوب إلى أن تبلغ الهدف فيمسك بها المرسلة إليه. و قد كانت هذه العملية تتطلب مهارة في التسديد تمكنا مع مرور الوقت من اكتسابها. لكن ترى من أين جاءنا هذا الحبل و مم صنعناه؟ لقد احتاج منا ذلك أولا جمع المواد الأولية وهذه هي المرحلة الأصعب, فعلى غرار العصافير التي تعتزم بناء عشها , كنا نجمع يوميا كل ما يسقط في يدنا بدءا من الخيوط التي ننسلها من البطانيات المهلهلة أو من قمصاننا إلى الشعر المتساقط من رؤوسنا, فكل شيء كان صالحا للتجميع و حين تصبح لدينا كمية كافية من هذه الخامات نشرع في ضفرها على شكل جديلة متينة محاولين أن تكون أطول ما يمكن, و حين نتم هذه العملية يصبح حبلنا هذا ثروة ينبغي الحفاظ عليها بحرص. ثم جاء التحدي الخطير الذي علينا مقاومته بشدة و هو البرد, ذلك البرد القارس القادر على القتل دون شفقة أو رحمة. و قد كانت الوسيلة الوحيدة لمقاومته هو الأغطية التي كانت مهترئة و متسخة. فبعد أن نظفناها في أشهر الصيف التي أعقبت إيداعنا معتقل تازمامارت, كان علينا البحث عن طريقة لاستثمارها الاستثمار الأمثل لمقاومة البرد. وهكذا اتفقنا,في فصل الشتاء الأول, على النوم بالطريقة المكسيكية, أي قعودا.و هذه الطريقة تقتضي منا طي البطانية الأولى طيا متواليا حتى تصبح قطعة سميكة شبيهة بالوسادة فنجلس فوقها , و نعمد إلى البطانية الثانية فنغطي بها جسدنا بشكل تام مثل خيمة صغيرة و نحرص على عدم التحرك حتى نحافظ على حرارة جسدنا داخل «الخيمة». و من فوائد هذه الطريقة أنها تقي جسدنا من البرودة القارسة للمصطبة الإسمنتية المخصصة لنومنا, و التي تصبح في شهور فصل الشتاء الطويلة شبيهة بقالب جليدي بارد قادر على قتلنا مثل ما فعل مع بعض رفاقنا. ومع مرور السنوات و بعد أن سلمونا بطانيات أخرى, حرصنا على ألا نرد البطانيات القديمة أو على الأقل لا نرد الجزء الأكبر منها, و كذلك فعلنا مع القمصان و السراويل التي غيروها لنا بعد ثلاث سنوات كاملة. كما كنا نسعى إلى الحصول على بطانيات رفاقنا الذين قضوا رحمهم الله,و نقتسمها بيننا قطعا قطعا. و كانت هذه القطع (الشيفونات) التي لا قيمة لها في عالمكم هذا , ثمينة و غالية بالنسبة لنا نحن سكان تازمامارت. أعطانا توفر هذه القطع المتفرقة (الشيفونات) فكرة خياطتها مع بعضها البعض. و هكذا تم اختراع أول إبرة انطلاقا من شوكة سعف النخيل أما الخيوط فقد كنا ننسلها من قمصاننا خيطا خيطا. و هكذا ما أن حل فصل الشتاء الثاني حتى كنا قد استعددنا له مثل جدات حاذقات, فصنعنا جوارب لحماية أقدامنا (و كان أغلبنا قد جيء به و ليس في قدميه سوى نعل صيفي بسيط) و جلابات بقباب للحفاظ على الحرارة الداخلية و غير ذلك...كما صنعنا فيما بعد إبرا من حديد إذ كنا حين نحصل على سلك حديدي نعمد إلى حكه على الأرض بمواظبة لعدة أسابيع حتى يصبح مسطحا فنقوم بخرمه لكي يتحول إلى إبرة متوسطة أو كبيرة الحجم (مخيط). و قد قدم لنا محمد غلول خدمات لا تنسى محولا زنزانته إلى ورشة للخياطة الراقية حيث كانت طلبياتنا لا تتوقف, و قد كان خياطا ماهرا و إنسانا شجاعا و خدوما لرفاقه. كما قمنا بصناعة مقصات كبيرة للخياطة مثل التي كان يمتلكها غلول و أخرى أصغر لقص شعر رأسنا و حلق دقوننا. و قد كان يكفي الحصول على قطع زنك صغيرة حتى نعمل بدأب على دقها و تسطيحها و شحذ أحد جانبيها ثم ثقبهما معا كي تتحولا إلى مقص عملي. و قد تم صنع أول مقص من إحدى علب الغذاء القصديرية التي كانت تعطى لأحد رفاقنا,امبارك الطويل المتزوج بأمريكية, و الذي بدأ يتمتع بنظام غذائي مميز ابتداء من سنة 1985 . ثم اكتشفنا المادة الأولية لصنع المقصات في الإناء القصديري المسطح الذي يمرونه علينا كل يوم لجمع النفايات, فكان أحدنا ? باتفاق مسبق بيننا ? يلوي طرفا من الإناء المسطح و يقوم الثاني بليه في الاتجاه المعاكس و كذلك يفعل التالون إلى أن يلين جيدا فيقطعه أحدنا. و من هذه القطعة و مثيلاتها صنعنا مقصات مختلفة الأحجام. كما قمنا بصنع الإبر انطلاقا من مسامير نعمل, إن عثرنا عليها على تسطيحها لعدة أيام حتى يصبح من السهل خرمها.و من نوى الزيتون صنعت مسبحة لا زلت آسفا على ضياعها, بينما تمكن صدقي ? عبر أحد الحراس - من إرسال مسبحته الزيتونية إلى والدته و معها أيضا أرسل سنه الساقطة بسبب سوء التغذية. و لا بد من أن أقف هنا وقفة تقدير و عرفان لأخي و رفيقي في المأساة محمد غلول الذي أنقذ حياتي, حين أجاؤوا رفاقنا الآخرين إلى عمارتنا و لم تكن الزنازين كافية للجميع فأسكنوا كل إثنين منا في زنزانة, و طلبت أن يأتي غلول معي, و كنت حينها مريضا جدا, فكان أول عمل قام به هو إعارتي قميصه و سرواله و أخذ قميصي و سروالي فصبنهما و نظفهما جيدا ثم قام أيضا بمساعدتي على تسطيح أرضية الزنزانة بواسطة دق نتوءاتها , التي تجمع الأوساخ و الحشرات, حتى جعلها صقيلة سهلة التنظيف. و لأن النوم على الطريقة المكسيكية ليس بالأمر الهين و ليس في مقدور الجميع, و لأنه من المستحيل النوم على تلك المصطبة الجليدية ببطانية واحدة كفراش, فقد كان الكثير من رفاقنا يوثرون النوم على الأرض عوض النوم على تلك السقيفة , إلى أن تم اكتشاف طريقة لصنع فراش «وثير» مملوء بلبابة الخبز الجاف و التي كنا نحرص على جمعها لأغراض متعددة,كما كنا نملأ الفراش بكل ما يقع تحت أيدينا مثل بقايا البطانيات و ضفائر الشعر للذين تمكنوا من حلقه . و لم تكن لبابة الخبز تفيدنا فقط في تعبئة الفراش, بل اكتشفنا لها دورا آخر.فقد كنا أنا و غلول نعمد إلى نقع قطع اللبابة ,التي نوفرها , في بقرج الماء ثم نصبن فيه ثيابنا (القميص و السروال). فقد اكتشفنا أن النشا, الموجود بوفرة بالخبز, يقوم مقام المنظف مما سمح لنا بإزالة الأوساخ و الأدران العالقة بثيابنا, بيد أن الأمر الوحيد الصعب هو أن الثياب المغسولة كانت تحتاج إلى الكثير من الماء من أجل إزالة الرائحة العطنة و هو غير متوفر لدينا. بيد أننا اكتشفنا بعد ذلك أن إضافة قليل من مادة «الدي.دي.تي» (التي منحنا إياها حراسنا للقضاء على الحشرات) إلى ماء التصبين يمكن من إزالة الرائحة العطنة و ذلك بفضل ماء «جافيل» الذي يحتوي عليه. و قد شكل هذا الاكتشاف تقدما باهرا, حيث كان تنظيف قميص,في غياب الصابون, يأخذ منا ساعات من التقشير إلى درجة أننا نراكم كويرات من الأوساخ المستخرجة منه و نسرع في عملية اهتلاكه مما يجعله أقل مقاومة للبرد.و قد حافظنا أنا و غلول على سر هذا الاكتشاف لأننا نعلم أن مواسير المراحيض ضيقة و قابلة للانغلاق بسرعة, و من شأن تعميم هذا السر المساهمة في إغلاقها مع ما يجر ذلك من مشاكل. و لم نعلن عن هذا الاكتشاف لرفاقنا إلى أن تم إدخال بعض الإصلاحات على مواسير المراحيض. فبدون صابون, كانت الحياة الوسخة لا تطاق. و لأن ثقب المرحاض كان ضيقا جدا, فإنه كثيرا ما كان يغلق و يخلق الكثير من المتاعب لسيئي الحظ الذين ينغلق لديهم. و لكي أحصل على قضيب حديدي, عمدت ذات مرة إلى إغلاق المرحاض بواسطة خرقة, و جعلت المرحاض يفيض علي ثم طلبت من أحد الحراس وسيلة لتسريحه و تنظيفه, فرق قلبه و أمدني بقطعة سلك شائك, قطعتها إلى عدة أجزاء كاحتياطي مكنني أولا من الحفاظ على مرحاضي نظيفا طيلة مقامي في المعتقل, كما استخدمت جزءا منه كهوائي حين تمكنت من الحصول على مذياع. و لإصلاح هذا المذياع و غيره كان لدينا تقني ممتاز هو محمد غلول, الذي بعد أن حصلت على مذياع صغير من الموجات الطويلة فقط - و هو لا يمكننا إلا من التقاط إذاعات الرباط و طنجة و الجزائر و إذاعة البوليزاريو ? سلمته له بواسطة الحبل الجرار فأدخل عليه إصلاحات أصبح بفضلها يلتقط الموجات القصيرة ثم أعاده إلي. و بواسطة هذا المذياع تمكننا من متابعة حرب الخليج, كما تمكننا من متابعة الحملة العالمية التي قادتها منظمة العفو الدولية لصالح معتقلي تازمامارت و سمعنا السيدة «مورسييه» رئيسة الفرع الفرنسي لمنظمة العفو الدولية تتحدث عنا في إذاعة «فرنسا الدولية». كما اخترعنا طريقة لإضاءة زنزانتنا في بعض الأوقات بعد أن تمكنا من الحصول على أعواد ثقاب محسوبة, و ذلك بتجميع الشحم القليل الذي كان يقدم لنا في المرق,في بداية إقامتنا بتازمامارت قبل أن نحرم منه نهائيا بعد تولي العقيد محمد بلقاضي أمر طعامتنا سنة 1980, و بعد مراكمة هذه الشحوم نشكلها على هيأة شمعة نضع داخلها فتيلا من صنعنا أيضا, ثم نقوم بإشعال ذلك الفتيل ليلا حين يبتعد الحراس فيمنحنا بصيصا من الضوء يسمح لنا برؤية محيطنا بالرغم من الدخان الكثيف الذي تتصاعد خيوطه لتتسلل من الثقب العلوي للزنزانة. و من هذا الثقب نفسه تمكنا من سرقة نور الشمس بواسطة أداة شبيهة في أهميتها البالغة, بالحجرين اللذين مكنا الإنسان القديم من اكتشاف و تدجين النار. الحلقة المقبلة: سرقة نور الشمس