بسرعة قياسية راح الرئيس التونسيّ المخلوع زين العابدين بن عليّ يقدّم العروض التنازلية، ويبدي خوفاً متزايداً مكّن الجماهير والجيش من إطاحته. بدأ بوعد الناس بأن لا رئاسة مدى الحياة، ثم وعد بتمكين مرشحين آخرين من مبارزته في المرة المقبلة، ثم دعا الى استمهاله حتى العام 2014، ثم غادر البلاد على جناح السرعة، وبفراره أشعلت وثبة الياسمين التونسية ربيع الشعوب العربية. أمّا الرئيس المصريّ المخلوع حسني مبارك، فحاول مزج العروض التنازلية بالمراوغة غير الموفّقة، لكنه قبل أن يتدخّل المجلس العسكري ويحسم الموضوع من بعد لأي كان أعلن جهاراً بأنّه لا توريث، بل إنّه نفى نيّته التوريثيّة من الأساس كما لو أنّها شائعة لا أصل لها، ثم قال إنّه لم يكن في وارد الترشّح المرّة المقبلة، ثم استمهل الناس لمجرّد إتمام التعديلات الدستوريّة كي لا يحدث فراغا يعطّلها، ثم عهد بسلطته إلى نائبه المعيّن قبل ذلك بأيّام معدودات، ثم كان ما كان. أما الرئيس اليمنيّ علي عبد الله صالح فكان بادر من نفسه قبل سنوات الى الوعد بأنّه لن يجدّد لولايته يومها، وأنّ التاريخ سيحفظه كأوّل رئيس عربي يسلّم الحكم بطريقة دستورية وديموقراطية، وطبعاً أخلف صالح وعده، ومع الثورة الحالية، فإنه اختار أيضاً المراوغة، وحتى بعد أن ألمّ به المصاب لم يفقد حسّ المراوغة، مستفيداً من حيرة مكوّنات الثورة اليمنية. مع ذلك، فإنّه يحصر المراوغة بين موعد انتهاء ولايته الدستورية وبين إنفاذ المبادرة الخليجية لحل الأزمة. هنا أيضاً، الرئيس الذي يقاتل عملياً من أجل الرئاسة لأبعد مدى زمني ممكن، يتراجع منذ البدء عن القيمة النظرية والرمزية والمعنوية للرئاسة مدى الحياة. نصل إلى «المناضل الآتي من البادية» معمّر القذّافي. هو لا يعلم أنّه يشغل مكان رئيس الدولة الليبية منذ عقود، كيف ذلك وقد فرط هذه الدولة من أساسها. فما الذي يطالبه به الثوار؟ وكيف يكون أعداؤه ثواراً في حين أنّه مفجّر أكبر ثورة في التاريخ العظيم؟ للخروج من هذه المعضلة الذهنية الهزلية، لم يتردّد هذا المعتوه هو أيضاً في تقديم اقتراح تسووي، حتى عندما كان يدعو الى سحل أبناء شعبه كالجرذان أو لإبادتهم كالجراثيم. فدعاهم الى أن يختلوا بنجله سيف الإسلام ويعدّوا دستوراً للدولة، وهكذا ينتخب رئيس للدولة يتمّ تبديله كل بضع سنوات، فيما يظلّ هو الزعيم «الفاتح» مدى الحياة من دون أن يتولّى رئاسة الدولة. هنا أيضاً، وعلى الطريقة القذافية، إشهار لمبدأ لا رئاسة مدى الحياة. بالتالي فإنّ ما يجمع زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح ومعمّر القذافي، رغم كل الاختلافات الكبيرة سواء على صعيد الأشخاص أو على صعيد البلدان، أنّهم زعموا قبل خلعهم، أو في ظلّ خلعهم المؤجّل، أنّ لا رئاسة لديهم مدى الحياة، وبأنّهم لا يسعون إلى توريث المنصب، رغم انتفاخ ظاهرة «العائلات الرئاسية»، وليلى طرابلسي وربعها، وجمال وعلاء مبارك، وأحمد علي عبد الله صالح قائد الحرس الجمهوري في اليمن، وسيف الإسلام في ليبيا. بخلاف كل هذا يحضر نموذج الرئيس السوري بشّار الأسد. يبرز استعدادات شكلية لإلغاء قانون الطوارئ، أو لإعداد قانون أحزاب جديد، أو قانون مطبوعات جديد، أو حتى لتعديل الدستور بما يعفي حزب البعث من قيادة المجتمع والدولة، أو حتى لحلّ حزب البعث لو تطلّب الأمر، لكن لا يبرز أي استعداد لأي عرض تنازليّ يلغي، على الأقلّ شكلياً، مبدأ الرئاسة مدى الحياة. لكن هنا بيت القصيد في الموضوع السوري. فثورات الربيع العربي هي قبل كل شيء ثورات ضدّ مبدأ الرئاسة مدى الحياة، وضدّ مسخ هذه الرئاسة لنفسها توريثاً بيولوجياً للجمهورية. لكن النظام في سوريا، والذي يبدي استعداداً الى تحويل حزب البعث الى صيغة تشبه حزب بن علي في تونس، التجمع الدستوري الديموقراطي، والى الاقتباس من التعددية الحزبية التي تشبه ما كان مسموحا به أيّام مبارك في مصر، لا يمكنه أن يقدّم أي عرض تنازليّ ولو شكليّ يتعلّق بالرئاسة مدى الحياة، والتوريث، ذلك أنّ التوريث هو «نكبة لم تتم» في الجمهوريات العربية الأخرى، في حين أنّه «نكبة تمّت» في حال سوريا.