لا أحد ينكر المكانة التاريخية البارزة التي تحتلها المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي. لقد اعتبرت دائما، بمختلف مقوماتها الدينية والسياسية، قطب رحى هذا النظام. لقد تمكنت لأكثر من خمس عقود، بالرغم من سجالها وصراعها المستمر مع أحزاب الحركة الوطنية بشأن إشكالية الديمقراطية، من توسيع مجالات تدخلاتها على أساس الشرعية التقليدية متجاوزة من حين لآخر المنطوق الدستوري. فارتكازها على شرعية دينية تقليدية جعل من خطابها السياسي آلية لتأكيد سموها السياسي بطموح مستمر لتحويل الدولة إلى كيان محفوظ بحوزة منيعة ومقومات تفرض الطاعة والولاء في إطار ملكية شعبية، العرش فيها بالشعب والشعب بالعرش. وعليه، حافظ منطق الحكم من خلال دساتير ممنوحة على طبيعته التقليدية بتركيبة امتزج فيها المضمر والمعلن والعرفي والمكتوب، ومكن الملكية بذلك من احتلال موقع مهيمن في الهرم الدستوري برمته. وكان الفصل التاسع عشر من الدستور التجسيد الواضح للإرادة المخزنية لتحويل البلاد إلى ملكية شكلا ومضمونا يحكم فيها الملك ويسود. في هذا النسق السياسي كان المراد هو ربط الشعب المغربي بملكية شعبية بشكل مباشر في دولة محكومة بملك يمارس سلطات ومسؤوليات واسعة لا حدود لها. موازاة مع هذه الرغبة المخزنية في ترسيخ منطق الهيمنة، عرف المغرب، كما سبق أن ذكرنا أعلاه، صراعا بين أحزاب الحركة الوطنية والملكية دام أكثر من ثلاثة عقود ليس بشأن طبيعة النظام السياسي (الملكية) بل على أساس تشبث الأحزاب السالفة الذكر بالمطالبة ببناء الدولة الديمقراطية. وعليه، فبالرغم من محافظة الملكية على موقعها المحوري المهيمن في الهرم الدستوري منذ 1962، عرفت البلاد عدة أحداث زعزعت استقرارها لأكثر من مرة، الشيء الذي دفع الملكية إلى التفكير في بديل يجدد العلاقة بينها وبين المعارضة ويعطي صورة جديدة للنظام الملكي. وقد توج التفكير في المرحلة بمسارها المضطرب بإعلان رغبة ملك البلاد في الانفتاح وإشراك المعارضة في الحكم. هذا الاستعداد، المعبر عنه من الطرفين (الملكية والمعارضة)، شكل خطوة مشجعة لدخول مرحلة جديدة من تاريخ البلاد. هكذا، اعتبر دستور 1996 بمثابة ميثاق بقيمة رمزية متقدمة نسبيا مقارنة مع الدساتير السابقة (1962، 1970، 1972، 1992)، الشيء الذي دفع بالمعارضة إلى الرد بإشارة القبول لتأسيس نوع من التوافق على أساس نوع من الثقة والإرادة المتبادلة للدخول في مرحلة الإصلاحات لتحقيق الدولة الديمقراطية التي ناضل من أجلها حزب الاتحاد الاشتراكي منذ 1975. هكذا، بعد تعيين حكومة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998، وبالرغم من احتفاظ الملك بسلطه كرئيس فعلي للجهاز التنفيذي (المساهمة الوازنة في تدبير الشأن العام وتوجيه الحكومة، والتدخل المباشر في الحياة البرلمانية بمخاطبة البرلمانيين وإمكانية حل البرلمان بعد إجراءات شكلية، والتعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، وتعيين القضاة،...)، لاحظ المتتبعون التفاعل القوي بين مؤسسة الوزير الأول والمرحوم الحسن الثاني كملك للبلاد، تفاعل حرص من خلاله اليوسفي على ممارسة اختصاصاته وسلطاته طوال فترة تحمله مهام رئاسة الحكومة، وتوج مساره السياسي بكلمة تاريخية ألقاها في بروكسيل ببلجيكا، كلمة اعتبرها الملاحظون وصية مرجعية في مجال السياسة بالمغرب للأجيال الشابة. لقد كان محتوى هذه الوصية تأكيدا على استمرار الازدواجية الغامضة في منطق الحكم، وعلى سعة مجالات التحرك السياسي والدستوري بالنسبة للملكية (الخروج على المنهجية الديمقراطية سنة 2002، وبروز مؤشرات العودة إلى المحافظة على السلطة وعودة القصر إلى الواجهة في مختلف مجالات الحكم،...). وبعد مرور أزيد من عشر سنوات من العهد الجديد، وعلى عكس المنتظر، فبالرغم من المكتسبات والمنجزات الاقتصادية (المشاريع الكبرى) والاجتماعية (التنمية البشرية ومحاربة الفقر والهشاشة)، تبين أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال أحزاب سياسية قوية تمكن الشعب من ممارسة سلطه المشروعة. فالعزوف السياسي الذي صدم الدولة سنة 2007، وما تلاه من تراجعات واحتجاجات اجتماعية، أكد مجددا، خصوصا في زمن الربيع العربي، أن الملكية تحتاج إلى أحزاب سياسية فكرية وإيديولوجية قوية وقادرة على لعب دور الوساطة والتمثيل الحقيقي للشعب المغربي. لقد وجد نظام الحكم نفسه في حاجة إلى منطق سياسي جديد تلتحم من خلاله الملكية مع الشعب من خلال مكونات الحقل السياسي، منطق تعاقدي أساسه التفويت والتفويض والمحاسبة والتحكيم كأساس للنيابة على الشعب، وحصر مهام الإمامة الشرعية التي عمرت أكثر من اثني عشر قرنا في المجال الديني. هكذا، ومباشرة بعد بروز إلحاحية المطالب السياسية الجديدة، جاء الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011، وتلته المصادقة الشعبية في فاتح يوليوز من نفس السنة على دستور جديد بمقومات جديدة جسدت قابلية الخصوصية السياسية المغربية للتطور، خصوصية إصلاحية بثوابت تاريخية أقرت كالعادة المكانة التاريخية للملكية بمنظور سياسي جديد أصبح من خلاله الشعب فاعلا وليس تابعا أو خاضعا. وختاما نقول، إن المنتظر من تفعيل بنود الدستور الجديد هو تحويل الأحزاب السياسية إلى دعامة حقيقية لنظام الحكم الملكي الديمقراطي الاجتماعي البرلماني من خلال تحويلها إلى منظمات «وسيطية» حقيقية تحول العلاقة بين الفاعلين من علاقة ولاء وتبعية إلى تعاقد أساسه البرنامج السياسي والمردودية والحصيلة. فالجديد في مضمون النص الدستوري يحتاج إلى موازين قوى سياسية جديدة تعمل على تغيير ملامح البنية المخزنية التقليدية المحافظة التي اعتادت على قيادة الشعب المغربي بالتعليمات الإدارية والقرارات الفوقية. المطلوب اليوم هو التأويل الحداثي للدستور بالشكل الذي يعيد الاعتبار للسياسة من خلال إعادة تشكيل الوسائط بسلط دستورية واضحة وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا (في البوادي والحواضر) ومن تم تمكين الأحزاب من لعب دور الطرف الوازن في القرار السياسي وفي بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي أعلنه جلالة الملك محمد السادس منذ بداية عهده.