الآن بعد أن عبر الشعب المغربي عن إرادته ، و اختار المشاركة في عملية الاستفتاء و التعبير عن موقفه الايجابي من الوثيقة الدستورية ، سيكون من المفيد أن نتطرق ، بكل تفصيل و موضوعية ، لبعض ما عاشته بلادنا من وقائع و أحداث في الأسابيع الأخيرة ، و محاولة استشراف ما قد تحفل به الأيام من مستجدات قد تكون صادمة إذا لم نحسن ، جميعنا ، التقاط الرسالة ... لقد بدا واضحا ، طيلة الأسابيع الماضية ، بأن مستقبل البلاد أصبح رهينة حسابات متعددة لأطراف مختلفة ، و بأن طريق الإصلاح طويل ، صعب و حابل بالعراقيل . الرافضون ، المقاطعون ، لمشروع الدستور و الاستفتاء بشأنه ، دافعوا بشكل حضاري عن وجهة نظرهم بكل حرية عكس تجارب الماضي . البعض ضمن هؤلاء كان همهم الوحيد البحث عن سبل الدفع بالبلاد نحو الفوضى ، و هو ما لم ينجحوا فيه ، لحسن الحظ ، إلى حدود الساعة ... كاتب هذا المقال من المواطنين الذين تعاملوا مع مشروع الوثيقة الدستورية المعروضة للاستفتاء بإيجابية ، ليس لأنها تستجيب لأسئلة مغرب الحاضر و المستقبل بشكل كلي ، و لكن لأنها ، في العمق ، تؤسس لديمقراطية حقيقية إذا ما احترمت بنود الدستور و طبقت على أرض الواقع بحمولتها الواعدة بالتغيير . و أساسا لأن الإصلاح الدستوري ليس نهاية النضال من أجل مغرب الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية ، بل هو البوابة المشرعة في وجه الإصلاحات الموازية الكفيلة بتفعيل مضامينه على أرض الواقع . تلك قناعتي الشخصية ، و لربما قناعة العديد ممن قالوا نعم للدستور الجديد ، و إن كان السؤال عن العلاقة الجدلية بين الوثيقة الدستورية و الطبل و المزمار و الشيخات بمقاهي العاصمة الادارية للبلاد يفرض نفسه و بقوة في وجه الحاكمين بهذا الوطن العزيز . لقد أفسد البعض داخل دواليب الدولة ، عن عمد ، معنوية الإصلاح ، بحيث تحول الحدث بحمولته النفسية القوية إلى مجرد أهازيج لا معنى لها في وطن يشق طريق البناء الديمقراطي بكل جرأة .. العبث القائم يدفع إلى الشك في طبيعة ما يحاك داخل دواليب القرار ، و العقليات المحافظة من ذوي المصالح في أركان الدولة / المخزن تؤسس لوضع مغربي شاذ . إذ في الوقت الذي تسعى فيه القوى الحية بالبلاد إلى فتح صفحة جديدة ، نقية ، في مسار الإصلاح بهذا الوطن العزيز ، يصر البعض على إعادة إنتاج نفس أخطاء الماضي بكل إصرار و ترصد .. كان يمكن للحملة المتعلقة بالاستفتاء الأخير أن تكون ، و بحق ، نقلة نوعية في تعاطي الدولة مع الإرادة الشعبية ، بتجنب كل ما من شأنه تحقير المواطن و اختزال الحملة في سهرات يومية ، خاصة بالمدن الصغرى ، لا تغني و لا تشبع من .... عقل . لكن ، و كما يقال ، كل نقمة في طيها نعمة ، و الحال أن ما وقع يؤكد بأن البعض داخل الدولة تزعجه ، و بقوة ، التحولات الهامة التي تعرفها بلادنا ، خاصة في شقها المعنوي المتمثل في طريقة تفاعل عاهل البلاد مع الشارع المغربي ، و هو ما يجب أن ينتبه إليه الجميع في مسلسل إثبات الذات المغربية ... طيب إذن : أية خلاصات أولية يمكن أن يقف عندها المرء ارتباطا بالاحداث و الوقائع التي عاشتها و تعيشها بلادنا منذ العشرين من فبراير ، على الأقل ؟ لنكن صرحاء ، ما أصبح يسمى بالربيع العربي أثر بشكل كبير في سرعة فتح ملفات الاصلاح ، و حراك 20 فبراير قدم للسلطات العليا صورة معاكسة لتلك التي تم تسويقها منذ عشرية مضت ، مثلما أن الشعارات و المطالب المرفوعة في عشرات المسيرات عبر ربوع الوطن ، أكدت ، بالملموس ، موضوعية مطلب الاصلاح الدستوري و السياسي و المؤسساتي الذي ظلت بعض الأحزاب و على رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، تطالب به ، خاصة بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2007 . حينها وصفت الأخيرة بأنها تغرد خارج السرب و أنها إنما تضغط على الدولة كعادتها بدعوى أن الاصلاح الدستوري لم يحل أوانه بعد .. الآن مرت بلادنا من امتحان الاصلاح الدستوري بنجاح ، و مسلسل الاصلاح تخطى حلقة جديدة من حلقاته الطويلة ، و المفروض أن تتوحد الجهود حول ضرورة تفعيل بنود الدستور الجديد على أرض الواقع و حسن إخراج القوانين التنظيمية المرتبطة به من جهة ، و من جهة ثانية ضرورة مصاحبة ذلك بإصلاحات سياسية و مؤسساتية تعيد الاعتبار لجميع المؤسسات في هذا الوطن العزيز ، خاصة ما يرتبط منها مباشرة بالإرادة الشعبية المعبر عنها في الاستحقاقات الانتخابية ، إذ لا يعقل بتاتا ، في مغرب اليوم ، أن نؤسس للمستقبل بنفس عقلية الماضي القريب . بكل وضوح : كل مؤسسة مطالبة باحترام المخول لها دستوريا ، و أي تداخل للسلط لا يمكن إلا أن يدفع بالبلاد صوب الهاوية . أي نعم صوت الشعب المغربي لصالح الوثيقة الدستورية ، لكن الواقع الاجتماعي و الاقتصادي لا شك يضعنا أمام صورة ملتبسة لمواطنين و مواطنات يرتابون في كل ما هو قادم من مؤسسات البلاد بما في ذلك البرلمان المفترض أنه مكون من ممثلين منتخبين من قبل الشعب نفسه . وحده الوضوح يصنع المستقبل ، و الأخير لا يستقيم دون واقعية التحليل و الموقف ، و واقع الحال يؤكد بأن الصراع على أشده بين ثقافة التمييع و الانتهازية و الوصولية من جهة ، و ثقافة البحث عن طريق الخلاص من شوائب المعيش المغربي من جهة ثانية . المغرب اليوم في مفترق الطرق ، و المفروض أن يركز العقلاء ، سواء ممن باركوا الدستور الجديد أو عارضوه ، حركيتهم النضالية صوب استثمار إيجابيات المرحلة من أجل المضي قدما صوب مغرب كل المغاربة ، مغرب المؤسسات الديمقراطية ، و أساسا مغرب الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية . هل يعقل إذن أن نؤسس لكل ما سبق بالاتهامات المتبادلة بالخيانة ؟ هل يعقل أن تتحول شوارع البلاد إلى ساحة معركة جوفاء فارغة المضمون النضالي ؟ هل بالأقنعة و الدمى يمكن أن نسرع وتيرة الاصلاح ببلادنا ؟ الأحد 3 يوليوز كنت حاضرا بمسيرة 20 فبراير بالرباط ، كمتتبع من بعيد بعد أن شاركت في مسيرات سابقة لتاريخ 17 يونيو الأخير ، و كانت الشعارات المرفوعة ، و بحق ، عنوانا بشعا لحقيقة ما يريده البعض ، و لعله السبب الذي دفع بالعديد من شباب 20 فبراير إلى التتبع عن بعد دون الانخراط المباشر في المسيرة . يومها كانت جماعة العدل و الاحسان تعبر عن كبت كبير ينخر ذاتها التواقة للفوضى ، و كانت الشعارات أكبر من أن يرفعها حوالي ألف شخص ، لا أقل و لا أكثر ، لتعطي أكلها في بلد يشكل استثناء عربيا جميلا ، إذا ما بين الاستهزاء بالشعب المغربي و إهانته عبر التلميح إلى أن من صوتوا بنعم باعوا أصواتهم للمخزن/الدولة ، و القول بدكتاتورية النظام و المطالبة بالثورة في وجهه ، تكشفت حقيقة ضعف هؤلاء و ركوبهم ، وآخرين ، على النضالات الصادقة الصفية لشباب 20 فبراير ، و هو ما أشرنا إليه في مناسبتين سابقتين .. يومها أيضا تجمع بعض الملكيين ، كما ينسبون لأنفسهم ، ليرددوا شعارات التخوين و الترهيب في وجه شباب 20 فبراير بكل ما يحمله ذلك من إساءة لصورة البلاد و عاهلها ، و المسار الذي تشقه بإصرار صوب المغرب الأفضل . ما يحدث يبعث بحق على القلق ، و العقلاء في هذا الوطن العزيز مطالبون بتكريس الاصلاح كواقع قادر على وضع النموذجين السابقين عند حدودهما المعزولة عن نبض المجتمع . اليوم ، بعد كل ما سبق ، تدق ساعة العقل ، من أجل هذا الوطن العزيز أولا و دائما . للحديث بقية * عضو المجلس الوطني للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية