يتحدث السيد عبد الإله بنكيران، هذه الأيام، بدون تحفظ، ولذلك نقترض أنه سيقبل أن نخاطبه بشيء من الصراحة؛ لن نصل قطعا إلى حد المس بكرامة الآخرين كما فعل في خطابه في مدينة تمارة، فكل إناء بما فيه ينضح. دار الخطاب المذكور، في مجمله، حول رفضه لما بلغ إلى علمه من أن مسودة الدستور تنص على أن المغرب بلد مسلم، بدل دولة إسلامية، وأن الدستور يضمن حرية التدين..الخ. لقد اعتبر هذا التصرف من طرف اللجنة، خروجا عن الثوابت التاريخية للدولة المغربية، ثم كال لتلك اللجنة ما جاد به ذوقه ومنطقه المعهودان من الاتهامات، بل أقحم أشخاصا من خارج اللجنة في المؤامرة ذكر السيدة الرويسي بالاسم. استحضَر في هجومه هذا كل المعجم الذي استعمله الأصوليون في مقاومة خطة إدماج المرأة في التنمية، فتحدث عن العلمانيين والشيوعيين الفرنكوفونيين وربطهم بالمثليين ووكالين رمضان.. إلى آخر المسلسل التأثيمي الذي أشاعته جريدة الحزب (أقول الحزب) التجديد حين احتضنت مقالات شيوخ السلفية الجهادية في سياق سابق جر على الحزب مشاكل لم يكن في حاجة إليها.. ويبدو أن التنسيق عاد إلى سالف عهده، فقد لاحظ المشاهدون أن الشيخ الأول لتلك السلفية كان في الصف الأول من الحاضرين في مهرجان مماثل بمدينة طنجة، ذكر فيه بنكيران أن الفيزازي دعا له بالتوفيق ليصير وزيرا أول. كما جاء في الأخبار أن جماعة المغراوي صاحب الفتوى الفاضحة ينظمون صفوفهم لدعم حزب العدالة والتنمية. ولعله إرضاء لهؤلاء الحلفاء الاستراتيجيين القدماء/الجدد، أعلن السيد بنكيران أنه يرفض «الملكية البرلمانية» لأنه يتمسك بالإمامة، وهي مطلب الجهاديين. يرفض الملكية البرلمانية حتى ولو أغضب ذلك جناحا من الحزب فاعلا على رأسه رئيس المجلس الوطني سعد الدين العثماني وأعضاء من الأمانة العامة بارزين كانوا قد خرجوا في صفوف 20فبراير الرافعة لذلك الشعار، رغم مقاطعة بنكيران، منهم مصطفى الرميد. في المنصات التي كان بنكيران يعلن فيها عن مواقفه المعادية للتغيير، المجاملة للجهادية الماسحة على واجهة المخزن، كان يجلس خلفه رئيس الذراع النقابي (محمد يتيم) ورئيس الذراع الأيديولوجي (محمد الحمداوي). وعلى إثر ذلك جاء عدد يوم 13 يونيو من مجلة التجديد محلى بصور هذا الثلاثي مع ثلاثة بيانات ترفض حرية التدين. هل يتعلق الأمر بأزمة أم باقتسام أدوار؟ من حق الفاعلين السياسيين اليوم، بمختلف ألوانهم، أن يتساءلوا عن الاختيار الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية: هل هو اختيار العثماني والرميد الذي يبدو متجها نحو الديموقراطية التي تعطي السيادة للشعب، أم اختيار الإمامة والحجر على الحريات الفردية التي تنبني على علاقة بين الراعي والرعية، مبنية على تفويض إلهي (الاختيار الذي يتناسب مع كلام بنكيران والجهاديين)؟ يبدو لي أن بنكيران بتقربه من السلفيين ومجاملته للمخزن، والهجوم على اليسار تحت ألفاظ العلمانية التي يشحنها بالمروق من الدين والشذوذ الجنسي، وكل الموبقات التي تستعمل في تهييج الجمهور المحدود المعرفة الغيور على دينه.. يبدو أنه لم يعد بذلك لأجواء 16 ماي المشؤومة التي جاءت في حمأة الهجوم على مدونة الأسرة فحسب، بل عاد إلى أجواء اغتيال عمر بن جلون حيث كان التحريض على اليسار الاشتراكي وتملق المخزن خطة مدبرة من طرف الشبيبة الإسلامية. وقد صرح بذلك الكثير من الشباب الذين اكتووا بنار تلك التجربة الميكيافيلية مع مطيع. وقد وضحنا ذلك في مقال بعنوان: اغتيال عمر بن جلون في ذاكرة الإسلاميين. موجود في موقعنا على الأنترنيت، باب مستجدات. لقد اعتقدت وأنا أكتب ذلك المقال أن تصريحات أعضاء الشبيبة الإسلامية السابقين تعبر عن نقد ذاتي، ونضج سياسي يأخذ مستجدات العصر بعين الاعتبار. إن ما تحتاجه الملكية في المغرب - يا رئيس الحزب الإسلامي البرلماني المعتدل في السياق التاريخي الحديث، هو مساعدتها على تفكيك المخزن والتخلص من زوائده الديناصورية التي لم تعد تتلاءم مع العصر الحديث. هذا ما يحتاجه الملك، ما دمت تخاطبه شخصا في كل خطبة. ولن يتم ذلك بإيهامه بإمكانية الحلول محل تلك الأجهزة والزوائد. لقد صارت خطب بنكيران تحمل رسالة واحدة: «يا صاحب الجلالة! اطرد صديقك الهمة وصديقه العماري ونحن معك ضد الجميع»، وهي رسالة مملة. إن الطَّمَع مثلُ الخوف يُضعف الحس النقدي ويجعل المرء يتعلق بالأوهام. لقد خَبَر الحكامُ العرب التحالف مع الحركات الإسلامية وعرفوا مآلها ونتائجها، من جمال عبد الناصر إلى النميري والسادات وضياء الحق...الخ. ذلك أن الإسلام في حد ذاته ينبذ ازدواجية الخطاب. والأمور تفلت في نهاية المطاف من بين أيدي المناورين، فأصحاب النوايا الحسنة من المؤمنين يكتشفون بسهولة أن ما يتعاون عليه زعماؤهم مع الحكام لا ينسجم مع الإسلام، ومن هنا تبدأ المشاكل و»الاغتيالات في سبيل الله». حذارِ من الفتنة! إن الهجوم المنظم اليوم على السيدة نزهة الصقلي والسيدة الرويسي وغيرهما من الناشطات الحقوقيات، من طرف الأصوليين، لا يبشر بخير، وهو لا يختلف عن محاولة تشويه سمعة السيدتين نادية ياسين وياسمينة بادو. إنها حرب الأصوليتين (الظلامية والرجعية) على المستقبل والحرية. وللحديث بقية. باحث في البلاغة وتحليل الخطاب