لماذا يتوجب علينا أن ندخل اليوم غمار تجربة وطنية جديدة تعيد الأمل لشبابنا، وتقنع الرأي العام بأن البلاد مقبلة على تحول تاريخي؟ لنتذكر جميعاً الأجواء التي كانت سائدة قبل 20 فبراير وقبل الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011. كان المغرب يتجه نحو ولاية تشريعية باهتة بقيت ظلال ما جرى في انتخابات 2007 وبعدها لصيقة بها، وكانت الكلمة الأكثر رواجاً عند الحديث عن كل شيء في بلادنا هي «التراجع». وعندما هبت رياح التغيير على الوطن العربي، شعر المغاربة جميعاً بالغبن، أن تكون تجربتهم الرائدة والمتميزة والسباقة منذ عقود إلى دمقرطة الحياة العامة، قد أصبحت مهددة بالنكوص إلى الصف الخلفي، وفي نفس الآن شعر المغاربة بأن المقامرين بمستقبل الديمقراطية في المغرب، أولئك الذين حلموا باستيراد النموذج التونسي، وأولئك الذين سعوا للجمع بين السلطة والنفوذ والمال، وجعلوا من الامتيازات والريع قاعدة في التدبير العمومي، بأن هؤلاء يضعون المغرب على حافة هاوية خطيرة. والحال أن البلاد قطعت أشواطاً هامة في مسارها الديمقراطي خصوصاً بعد التناوب التوافقي، وانطلاق العهد الجديد، وكان حرياً بها أن تستكمل هذا البناء، وتجعل كل حظوظ التقدم والاستقرار بجانب التجربة المغربية. في هذه الأجواء إذن بزغت احتجاجات الشارع المغربي، ليس ميلاً إلى تقليد ما حدث في بلدان أخرى، وليس بسبب تماثل الأنظمة، ولكن لأن انسداد الأفق السياسي، وتفاقم الظلم الاجتماعي، وفساد التدبير، كل ذلك جعل الشباب يعود إلى السياسة عبر الشارع، بعد أن عجزت السياسة عن استيعابهم عبر المؤسسات. وأياً كانت التداعيات التي حصلت بعد ذلك، لا مناص من الاعتراف بأن أملاً قد لاح في الأفق انطلاقاً من عودة الشباب إلى الفعل النضالي، وجاء خطاب التاسع من مارس ليقول إن هذا الأمل ممكن، وإن الإصلاح لم يعد في خانة المستحيل. إن هذا الأمل الضروري في السياسة كما في كل مناحي الحياة، هو الذي يجب ألا نخذله الآن وفي المرحلة المقبلة. هناك أعداء للإصلاح لا بد أن نسميهم - هناك التيارات الدينية المتطرفة، التي انخرطت في موجة الاحتجاج تحت سقف المطالب الشعبية، قبل أن تخرج بسيوفها من السقف وتبدأ في الدعوة إلى تقويض النظام، وبناء دولة الخلافة. - هناك أصحاب المصالح والامتيازات والنفوذ، الذين يضعون أقنعة المناهضين للشارع الديني، بينما يسعون إلى تخريب الإصلاح، وإبقاء الوضع القائم الذي يطلق أيديهم في البلاد والعباد. - وهناك عدميون من كل صنف، منهم من يرضخ «لتقاليد نضالية» تعودت أن تجعل من الرفض عقيدة، ومنهم من يحتاج إلى جرعة أمل إضافية تخرجه من نسق اليأس والهزيمة. كل هؤلاء يقومون بتصعيد مُمَنْهَجْ يهدف إلى إشاعة الفتنة والخوف كما يهدف إلى إرباك الدولة، وإلى تلغيم برنامجها الإصلاحي. إنها محاولات إرهابية من نوع آخر، تهدف إلى وضع متفجرات في قطار الإصلاح وتفجيره عن بعد. وهنا، لا بد من هَبَّة وطنية لمقاومة هذا التوجه الخطير. إنها ليست دعوة إلى تصعيد من نوع آخر، ليست دعوة إلى إغراق بلادنا في العنف، إن ذلك سيحول القطار عن السكة وسَيُعَطِّل طاقات بلادنا في مرحلة هي في أشد الحاجة إليها. لا بد من الاحتكام إلى الرأي العام الوطني وإشراكه في الوعي بخطورة المرحلة. الشعب يريد ديمقراطية حقيقية بمؤسسات قوية، ولا يريد دكتاتورية دينية. إنها مسألة واضحة يجب أن يجرى بشأنها نقاش عمومي، في المؤسسات المنتخبة، وفي وسائل الإعلام، حتى لا تبقى هناك أية إمكانية للتستر وراء شعارات الإصلاح، للتحريض على شيء آخر يرفضه المغاربة. الشعب يريد إنتاج وضع سياسي جديد بعد الاستفتاء على الدستور، ولا يريد إعادة إنتاج نفس الأساليب والوجوه، ونفس المؤسسات الباردة، إنها مسألة واضحة أيضا، ويجب أن يتم حولها نقاش عمومي، وأن يقطع الطريق على «المستعجلين» الذين بدأوا في تحضير عودتهم إلى المشهد، بعد أن طردهم منه مشروع الإصلاح، وهبة 20 فبراير. هناك اليوم في بلادنا ضغطان يجب فك الارتباط بينهما: ضغط الديمقراطيين المتطلعين للإصلاح ولبناء ديمقراطية حقيقية. وضغط أعداء الديمقراطية، سواء كانوا دعاة نظام من القرون الوسطى، أو دعاة نظام ملفق يجمع بين دستور رائع ووضع سياسي فاسد. وليس هناك من سبيل للفصل بين هذين الضغطين إلا بمزيد من الإرادة والتضامن بين قوى الحرية والتقدم والحداثة، ومزيد من الوضوح في الأجوبة التي نجيب بها عن أسئلة الشارع. لقد طالب الشعب المغربي بدستور جديد، يجب أن يؤدي الحوار أولاً، ثم الاستفتاء ثانياً إلى ميلاد وثيقة دستورية تؤسس لعهد جديد. وطالب الشعب المغربي بحكومة لها القدرة والمصداقية على تحضير وضع سياسي يلائم الدستور الجديد، يجب أن يُصار إلى تنصيب هذه الحكومة مباشرة بعد الاستفتاء. وطالب الشعب المغربي بمحاربة الفساد، واتخاذ إجراءات فورية لوقف نزيف الريع والامتيازات. إذا كان هناك من استعجال لا بد منه، فهو الذي يهم هذا المجال بالذات، فالدولة لا تحتاج اليوم إلى من يرشدها إلى مكامن الخلل، ومواطن الفساد. وطالب الشعب بتحضير انتخابات نزيهة وغير فاسدة لأن ذلك هو الشرط الضروري لعودة الناخبين إلى صناديق الاقتراع، والشرط الضروري للدخول في غمار تجربة وطنية معبئة للآمال وللطاقات، وتحضير هذه الانتخابات، لا يتطلب فقط تهيئ قوانين جديدة وتقطيعا انتخابيا معقولا واعتماد البطاقة الوطنية للتصويت عوض «اللوائح المعلومة»، بل يتطلب كذلك وضع كفاءات نزيهة في الإدارة الترابية وإشراك المجتمع في حماية الديمقراطية من خلال جمعيات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية، وآليات المراقبة الشعبية. إن الجواب الفعال على أعداء الإصلاح، هو إنجاز الإصلاح كاملاً. وإعطاء إشارات قوية من الآن على ظهور مغرب آخر. إذا كانت مرتكزات خطاب 9 مارس، والإرادة المعبر عنها للإصلاح قد أفقدت أعداء الديمقراطية أعصابهم وصوابهم، فلا يجب إطلاقاً أن نفقد نحن أعصابنا وصوابنا. الاتحاد الاشتراكي