ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب «لما غنى المغرب» عن قصة فنان وقصة فرقة غنائية للزميل العربي رياض..
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 30 - 04 - 2011

العتبة فارقة في كل البدايات.. عتبة البيت، عتبة المدينة، عتبة الكلام، ثم عتبة الكتاب.. وعتبة الكتاب هي عنوانه، أي أول اللقاء البصري به.. وفي اختيار عنوان «لما غنى المغرب» لكتاب الزميل العربي رياض، الصادر عن دار سليكي إخوان، الأصيلة بطنجة، حول تجربة حياة الفنان المغربي الكبير مولاي الطاهر الأصبهاني، إبن مدينة مراكش، وأحد مؤسسي مجموعة «جيل جيلالة»، كانت العتبة آسرة، عنوانا على ما سيلي من متعة حقيقية عبر صفحات المتن.
معنى «لما غنى المغرب»، تحيل على أن لحظة «تامغربيت» الفنية العالية، الصادقة، الأصيلة، المتصالحة مع الذات، كانت حين أبدع ثلة من شبابه أغاني مغربية مئة بالمئة. خرجت من تربة الأرض البكر للمغاربة المحبة للحياة، وعادت إلى الأرض البكر لذاكرة المغاربة المنسوجة على مدى تراكم هائل في التاريخ وفي الأيام وفي حفر الصخر.. الأمر أشبه بجدول يعود إلى حضن نبعه، أو أشبه بطائر حلق وعاد إلى غصنه، أو أشبه بحفيف شجر الصفصاف في واد ما، رقصت أوارقه مع الريح، فتحركت الجدور منها، آسيانة فرحة..
إن كتاب «لما غنى المغرب»، فيه كل هذا وفيه أكثر من ذلك،، فيه تجربة رجل، تجربة فنان.. بل أجزم أنها في الأول وفي الأخير، تجربة إنسان.. فمع مولاي الطاهر الأصبهاني، كما استنهض فيه ذلك بمتعة وفنية ودربة صحفية وإبداعية الصديق العربي رياض (الذي بالمناسبة كثيرون لا يعلمون أنه مغن بارع يمتلك صوتا مغربيا مبدعا، وأن بداياته كانت من خلال ثنائي غنائي فني كان واعدا بالكثير، مع رفيق دربه القديم الصديق عزيز لبجي، زمن فورة الحركة الطلابية وفورة عطاء الشبيبة الإتحادية).. مع مولاي الطاهر، لا نتتبع قصة «نجومية» متوهمة، بل نتتبع قصة إنسان من المغرب، اختار طريق الفن الأصيل الصادق، وطلق الوظيف الواعد بالكثير ماليا وأمنا اجتماعيا، كي يعانق المجهول، الذي قاده لأن ينزل من أجل لقمة خبز نظيفة إلى أن يلعب لعبة «سوق الشغل المتوحش» المؤلمة في وصلة إشهارية، وأن تقع عين الزوجة صدفة على عينه، فلا يجد ما يقول غير تلك الكلمة المغربية، العميقة، الحزينة، الملتاعة التي تقول «هادشي للي عطا الله»!!.. كيف لا يبكي الخاطر، من هكذا عقوق لبلاد يفرحها طائرها حين يغرد لها معنى وجود، ولا تلتفت له حين يكون العش خفيف الريش..
كتاب «لما غنى المغرب»، الذي نحيي الصديق العربي رياض أنه كان السبب في بلورته، فكرة وإنجازا، ونجح في أن يوقض فينا كوامن عدة، لا يتطلب كثير كلام، بل يتطلب كثير إنصات، تماما مثلما تستحق ذلك أغنية بادخة.. لننصت لمنطوق بعض من كلام الرجل هنا، عله يغرينا أن نكتشف أسرارا عدة كامنة فينا، ناصعة كالبلور، غنية كالذهب، لا نعيرها كثير اهتمام، حتى وهي العنوان الأول والعنوان الأخير والعنوان الأبقى، عن شئ واحد فينا، نعتز به عاليا: «تامغربيت»..
لننصت لهذه الشذرات من كتاب يفرض عليك احترام قراءة، ويلزمك أن تفرح ببداية قراءته، وأن لا تتركه من يدك، حتى لو طال الليل، حتى تنهي الحكاية.. في مكان ما، ذلك معنى، لنقول للفنان مولاي الطاهر الأصبهاني المغربي المراكشي المبدع الإنسان، شكرا أنك كنت، أنك في الأول وفي الأخير، كنت رجلا..
1 - سر في الطفولة!!
لم تكن طفولة مولاي الطاهر الأصبهاني طفولة عادية، فقد عرف مساره الحياتي تشتتا عاطفيا منذ الصبى. كان مولاي الطاهر يعيش وسط عائلة ميسورة، فتح عينيه على والدته للافاطنة بوستة، وهي تنتمي لعائلة القائد الاستقلالي امحمد بوستة، وعلى والده السي عباس القداوي الذي كان يتحدث اللغتين الفرنسية والعربية بشكل جيد، وقد خول للأب أن يشغل منصب ترجمان في المحافظة العقارية لمراكش. يقول مولاي الطاهر كنت أنال كل ما أريد، كانت والدتي تلبي رغباتي المختلفة كتوفير اللعب والخروج للترفيه، والحصول على النقود، وكان والدي السي عباس، رجلا مرحا ومتحضرا ومتفتحا الى أقصى الحدود، يأخذني معه الى الصيد والنزاهة، وفي الصيف نقصد إحدى المدن الشاطئية للاستجمام والهروب من حر مراكش، وهو الأمر الذي لم يكن متاحا لغالبية الأسر المراكشية آنذاك. كنا نقطن بازبزط درب الفران، هناك تعلمت كل أنواع اللعب.. طيلة فترة الطفولة هذه، لم أكتشف أو ألمس أن والدي يخفي داخله شخصية فنان يعشق الموسيقى والطرب وجميل الإبداعات.. لم أدرك هذا الوجه الآخر عند الوالد إلا بعد أن تأسست فرقة جيل جيلالة.
كان لنا عرض في مراكش حين زرته في المنزل، كما أذكر، فتوجه إلي بالقول: «حتى أنا راني فنان»! فأخرج عودا وأخذ يعزف مقاطع من الملحون والطرب الأندلسي! كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، إذ كيف أنني كنت قريبا منه ولم أتمكن من اكتشاف ولعه بالفن والموسيقى؟!
خلال المناسبات والأعياد، كان والدي السي عباس يحرص على أن يأخذني معه إلى منزل ابنة أخته «للاخيتي» التي كان زوجها صارما، عكس والدي، ومتشددا مع أبنائه. كانت هذه العائلة تفرح بي كثيرا رغم أنها عائلة بسيطة وتعيش على قد الحال، اعتدت على زيارة عائلة للا خيتي في كل مناسبة، وكنت أحس أن أمر زيارتي يزعج والدتي للافاطنة التي كانت تسألني عند عودتي عن مضمون الزيارة والكلام الذي دار بيني وبين أفراد هذه العائلة وطبيعة معاملتها لي؟ كنت أستغرب من هذه الاستفسارات، لكنني لم أعلم سببها إلا حين بلغت 12سنة.
ضمتني للاخيتي إليها وأبلغتني بأنها أمي الحقيقية، وأن مولاي أحمد صاحب محل النحاس الصغير بالعطارين والصارم مع أبنائه هو والدي الحقيقي، مضيفة بأن سي عباس هو خالها، وقد اقترح عليها تربيتي منذ أن بلغت الستة أشهر من عمري، معللا مقترحه بأن لديها أطفالا آخرين، ولن تستطيع تربيتهم جميعا! هكذا أخذني إلى منزله وعوملت معاملة الإبن، حيث لم أشعر في أي يوم من الأيام بأي تصنع أو إشارة تجعلني أشك في الأمر، بل لقد كنت مدلل العائلة برمتها.
علمت أيضا في ما بعد، بأن والدي مولاي احمد، كان بين الفينة والأخرى، يتردد على والدي بالتبني سي عباس ليستعطفه كي لا يسجلني في كناش الحالة المدنية الخاص بعائلته. كنت أحس بالجفاء الحاصل بين العائلتين وسألت امي الحقيقية «للاخيتي» عن سببه، فأجابتني «خفناهم يقيدوك في الكارني»!
هاجس التسجيل في كناش الحالة المدنية دفع بوالدي مولاي احمد إلى شراء كبش وقصد به بيت سي عباس وذبحه أمام العتبة، أي أنه «رمى عليه العار» فسمح سي عباس بأن أسجل في كناش الحالة المدنية لعائلتي الأصلية.. تمزقت عواطفي بين الجهتين، كنت أحاول الاعتياد على العائلة الأصلية وأبدى أمامها الاحترام، لكن كيف لي التخلص مما يشدني من عواطف دفينة تجاه للافاطنة وسي عباس؟! ظل هذا الأمر يؤرقني ويهز دواخلي حتى عندما بلغت مرحلة النضج، ورغم أنني عدت إلى عائلتي الأصلية إلا أنني كنت كثير التردد على أسرة سي عباس، وكان علي أن أبدي الحب للجميع حتى لا يغضب أحد، خصوصا وأن الجفاء بين العائلتين بلغ ذروته.
إنها العواطف الفطرية العميقة التي تنتصر في الأخير، ولا تستطيع أية ماديات، كيفما كانت طبيعتها، الصمود أمامها، فالإحساس «الروحاني» تجاه فلذة الكبد لا يساويه أو يعادله أي إحساس آخر بأي لون تلون!
2 قصة «النحلة شامة»
مع الحسن الثاني!!
كان المغفور له الحسن الثاني يقول مولاي الطاهر يدعونا كل سنة إلى القصر، خصوصاً بمناسبة «شعبانة». وفي سنة 1982 دعانا، كالعادة، وقد كان طلبه هو أداء أغاني الملحون التي سجلناها في تلك الفترة، وقد أُعجب كثيراً بأغنية «الشمعة»، حيث طلب من المرحوم عبد السلام خشان، رئيس الجوق الملكي، أن يعزفها ويتمرن عليها مع فرقة جيل جيلالة، في أفق تنظيم جولة في الولايات المتحدة وأدائها هناك... لكن هذه الجولة لم يكتب لها أن تتم..
في ذلك اليوم، يضيف مولاي الطاهر، سألنا جلالة الملك رحمه الله، إن كنا نعرف الكثير عن فن الملحون، فقد كان جلالته على إلمام كبير به وقد أوضحنا له بأن المجموعة ليست من حفظة الملحون، بل هي فقط دخلت هذه التجربة لتحبيب هذا اللون الفني للشباب.
بعد برهة يسترسل مولاي الطاهر عاد الملك وطلب منا أن نبحث عن قصيدة اسمها «النحلة» وأن نهيئها على أساس أن نؤديها في حضرته في الفرصة الموالية..
خرجت الفرقة من القصر وهي لا تعلم أين ستجد هذه القصيدة، خصوصاً وأنها سمعت بها لأول مرة ومن طرف الملك. كان الباب الأول الذي طرقته المجموعة هو الإذاعة الوطنية، حيث أبلغتها إدارتها بأن القصيدة فعلا موجودة، لكنها ممنوعة من البث، كما هو ممنوع منحها إلى أي أحد... توزع أعضاء الفرقة على مختلف المدن العتيقة واتصلوا بعدة منشدين بحثاً عن «النحلة»، التي ينبغي العثور عليها في أقرب وقت ممكن، لأن الملك قد يستدعيهم في أية لحظة، وفي الأخير تمكن عبد العزيز الطاهري من وضع يده عليها بعد أن التقى بأحد المهتمين بفن الملحون.
كانت القصيدة طويلة يروي مولاي الطاهر ولا نعرف ما هي الجمل التي يرغب الملك في سماعها. في الأخير اهتدينا إلى فكرة، فالملك ليس له الوقت كي يُنصت إلى قصيد تدوم مدتها أزيد من ساعة، فأخذنا نحذف الأبيات، خصوصاً بعدما وجدنا أن الجملة المهمة في القصيدة هي تلك التي تقول:
«السلطان طبيب،
والرعية مضرورة،
ولا وزير ليه يبلغ لخبار .
تمكنا من وضع توقيت لا يتعدى 5 دقائق للقصيدة وأنشدنا قسمين فقط.. تخوفنا يقول مولاي الطاهر من أن يدركنا موعد الملك، كان في محله، فبعد ثلاثة أشهر من الموعد الأول دعانا من جديد إلى القصر، لما دخلنا إلى المكان المخصص للحفل، فوجئنا بتواجد الحكومة برمتها والتي كان يرأسها المرحوم المعطي بوعبيد، لم أكن أعرف إذاك يقول مولاي الطاهر كل أفراد الحكومة، فقد أثار انتباهي تواجد الأستاذ امحمد بوستة الذي كان وزيراً للخارجية ولي قرابة عائلية معه..
دخل الملك، وقف الجميع، وأول ما قام به هو السؤال عن جيل جيلالة: «واش جاوا جيلالة؟». تقدمنا فسألنا «وجدتوا النحلة؟»، أجبناه بالإيجاب. فطلب منا أداءها، وتوجه إلى المرحوم التهامي الهاروشي، الذي يعد أحد أعمدة إنشاد الملحون في المغرب وأحد مؤنسي الملك، وطلب منه أن يغني معنا. ولأن الهاروشي كان ينشد الملحون بالطريقة التقليدية، لم يكن يعلم أننا بترنا عدة مقاطع فكان يستنكر هذا الأمر فوق الخشبة، كلما حذفنا بيتا من الأبيات بقوله: «آها آها». هذا الأمر أضحك الملك كثيراً، لكنه لم يعقب على الموضوع.
لازمة هذه القصيدة تقول:
«صولي يا شامة الضريفة،
وزها يا ولفي على الرضا،
قطفي من الأزهار
يا ترياق علاج كل ضر،
يا بنت المُلك ليك همة وتجارة...»
لما بلغنا إلى المقطع الذي يقول:
«السلطان طبيب،
والرعية مضرورة،
ولا وزير ليه يبلغ لخبار...»
وقف الملك وتوجه إلى أعضاء الحكومة، وقال لهم: «سمعتو آش كالو«! وأعاد البيت أكثر من مرة، وكان يشدد على مقطع «لا وزير ليه يبلغ لخبار».
فهمنا إذاك أن المقصود من الأغنية هو هذا البيت، وأن الملك كان يحفظ القصيدة عن ظهر قلب ويعرف أبياتها، لكنه فقط أراد أن ننشدها نحن وأمام أعضاء الحكومة، كما أن التهامي الهاروشي كان يحفظها هو الآخر ولم تكن هذه القصيدة «غابرة»، كما يعتقد الناس.
3- الفنان والفقر الجبان!!
لم تكن المعاناة التي سبق الحديث عنها هي الوحيدة في حياة «جيل جيلالة»، هذه المجموعة التي تغنى بقصائدها بلد بأكمله، كان أفرادها لا يجدون حتى ثمن كراء المنازل التي تأويهم، لكن عفة الإنسان الذي بداخلهم جعلتهم يجترون المرارة في صمت، شأنهم شأن كل فناني فترة السبعينيات ومثقفي هذا الوطن الحقيقيين في تلك الحقبة. «بطلنا» في هذه السلسلة مولاي الطاهر الأصبهاني ستعرف حياته معاناة عديدة، وهذا يعلمه كل المقربين له، لكن روحه المرحة وولعه بالنكتة كانا يحجبان حقيقة المشاكل التي يتخبط فيها ويواجهها بصمت بمعية أسرته، خصوصا زوجته السيدة فتيحة التي قاسمته شتى أنواع المعاناة.
في الحقيقة، لم يكن مولاي الطاهر خلال لقاءاتي معه لإجراء هذه السلسلة، يرغب في الخوض في مثل هذه الأمور، لكن كل أصدقائه الذين عرفتهم من خلاله كانوا يحكون لي خفية عنه، كيف كان يواجه الأزمات بدون أن يزعج أحدا.. أفهم أن شموخ الفنان يجعله يترفع عن مثل هذه الأشياء، لكن من حق الجمهور الذي صفق طيلة 30 سنة لهذا النجم وزملاءه، أن يعرف أن ّولاء «الأولاد» كانوا يتحفونه بأبدع الأغاني وفي قلوبهم قسط غير يسير من مرارة الزمن الرديء الذي لا «يجود» إلا للتافهين!
يحكي محمد عمران، وهو أحد أعز أصدقاء مولاي الطاهر وأقرب صديق لعائلته، أن مولاي الطاهر اضطر لأن يعمل في الإشهار، لأن الديون تهاطلت عليه، ولم يكن له مال لتسديد فواتير الكراء وغيرها، كان ذلك في سنة 2000، وكانت زوجته السيدة فتيحة قد اضطرت لتنفض الغبار عن آلة الخياطة التي كانت لديها، وتدخل غمار حرفة الخياطة كي تساعد زوجها مولاي الطاهر في تحمل عبء المصاريف.
في هذه الفترة كانت «جيل جيلالة» متشتتة، حيث غادرها محمد الدرهم الذي تعاقد مع إحدى شركات الإشهار، فيما لم يعد مولاي عبد العزيز الطاهري متحمسا للغناء، وكثر الكلام في الصحف وفي وسائل الإعلام الأخرى عن هذا التشتت، وطرحت تساؤلات عديدة حول أسبابه.. ولم يعد أحد يدعو الفرقة للعمل!
في هذا الخضم «الحزين» اتصل عبد العظيم الشناوي بمولاي الطاهر وأبلغه بأن إحدى شركات الاتصال قد وضعت مشروعا في المغرب، ويتعلق الأمر بشركة «ميدتيل» وتريد أن تقوم بالدعاية، لذلك فهي في حاجة إلى ممثلين، مبلغا إياه أيضا أن الشركة لا تريد الدعاية عبر التلفزة، وإنما في الجناح الخاص لها بالمعرض الدولي بالدار البيضاء، يقول عمران، «كان الأمر صعبا على مولاي الطاهر، وكنت أشعر به، لكني كنت أعلم أنه في أمس الحاجة إلى المال، وكان هذا الأمر يؤلمني كثيرا! فكيف لأحد رموز الغناء المجموعاتي أن يتحول إلى رجل «ريكلام» ليس في قناة تلفزة أو إذاعة أو صحيفة، وإنما على الهواء في جناح مخصص لشركة؟! لحسن الحظ، يضيف عمران، كانت الفكرة هي أن يلبس لباس «الدمى وأن يصبغ وجهه بشعار الشركة وأن يقوم بحركات ميمية طيلة أربعة أيام صباح مساء، فيما يقوم عبد العظيم الشناوي بالتنشيط بواسطة الميكروفون.. خلال تلك المدة، سيتعرف أحد المسؤولين بالشركة على هوية الرجل الذي يقوم بالحركات الميمية، فتوجه إليه بأمر في صيغة سؤال: «لماذا لا تغني»؟ هذا «العرض» رفضه مولاي الطاهر، فتم التعويض باستعمال «الكاسيط»!.
ليس هذا هو الموقف المحرج الوحيد الذي تعرض له مولاي الطاهر في تلك التجربة، يضيف عمران، بل هناك مشهد آخر آلمني كثيرا، فبينما كان مولاي الطاهر يقوم بالدور المنوط به في المعرض الدولي، ستأتي زوجته وابنته الصغرى غيثة، فاقتربت منه زوجته متسائلة بألم: «آش هادشي آمولاي الطاهر؟»، فرد عليها: «هاد شي اللي عطا الله» والحزن يعتصر قلبه بالنظر لصعوبة الموقف.
يرفض المتمرد عمران أن تنتهي هذه الحكاية بهذه الصورة المرة التي تعكس المفارقة الغريبة في الواقع المغربي، والذي يحاول فيه البعض صنع نجوم غصبا على أذواق المغاربة ويرمي بالتحف الإبداعية للهلاك.
يقول عمران: طيلة تلك المدة «الإشهارية» في المعرض الدولي، كان مولاي الطاهر، رغم المرارة، بشوشا يمرح مع الجميع، وفي فترة الغداء يخرج من حقيبته «السندويتش» الذي أعدته له زوجته في الصباح، تم يعد للنكتة والضحك. والمضحك أكثر، يسترسل عمران، أن تواجد مولاي الطاهر في تلك الوصلة الإشهارية سيصادف قدوم الطيب الصديقي إلى المعرض، والذي كان مدعوا من طرف «اتصالات المغرب»، سيرمقه مولاي الطاهر، وبعد أن تبادلا التحية، سيدعوه للحديث، فرد عليه الصديقي بطريقته الساخرة: «انت ميدتيل وأنا اتصالات.. من اليوم الحرب بيني وبينك آمولاي الطاهر». وواصلا الضكك.
4 - عبد الحليم كركلا
والتقدير العربي!
كانت مسيرة جيل جيلالة حافلة بالمشاركات الدولية، بعضها يظل موشوما في ذاكرة هذه الفرقة التي أتحفت ولاتزال المغاربة لثلاثة عقود. ففي سنة 1994 ستكون لجيل جيلالة رحلة استثنائية إلى لبنان، هذه المرة ليس للمشاركة في حفلات، كما جرت العادة بذلك، ولكن من أجل إنجاز عمل فني كبير مع الفنان عبد الحليم كركلا وفرقة الرحباني الموسيقية.
يتذكر مولاي الطاهر الأصبهاني أن أول لقاء مع الفنان عبد الحليم كركلا كان في أواخر الثمانينيات بتونس، حيث لم تكن الفرقة تعرف الرجل، يقول مولاي الطاهر: كنا في قرطاج نشارك في فعاليات المهرجان هناك، كانت مشاركتنا، كما هو معتاد في هذه المناسبة تلقى إقبالا كبيرا. بعد انتهائنا سيتقدم نحونا رجل، أذكر أنه كان مصابا بكسر في يده، كانت لهجته مشرقية، أبدى إعجابه بأغانينا قبل أن يقدم لنا نفسه بالقول: «أنا اسمي عبد الحليم كركلا من لبنان وأود أن تشاركوني في عمل أنجزه». رحبنا بفكرته وأبلغناه أننا على استعداد للتعاون. أخذ أرقام هواتفنا المنزلية، ثم افترقنا.. في سنة 1994 سيتصل بنا أنطوان مدير الانتاج الفني ويخبرنا أنه يريد أن نلتحق ببيروت لتسجيل بعض الأغاني على الفيديو، رحلنا إلى هناك، وبينما نحن في الاستوديو، سيدخل علينا عبد الحليم كركلا، كنا إذاك قد عرفنا أنه أخصائي ب «الكوريغرافي» وأنه من الفنانين الكبار ببلاد الأرز، وأنه يتلقى دعما ماليا كبيرا من المرحوم رفيق الحريري لإنجاز أعماله المتميزة وتعمل معه فرقة موسيقية تتشكل من عشرات الراقصين والراقصات. بعد واجب الترحاب أسر لنا أنه يود توظيف بعض أغانينا في أحد أعماله الكبرى التي سيعرضها في عواصم العالم ومدنها الأثرية، وجدنا أنه أعد كل شيئ وتصوره واضح للعمل، بل زكثر من ذلك أنه اختار أغاني جيل جيلالة التي يريد توظيفها... كان اختياره قد وقع على أغاني «الكلام المرصع» و«الدورة» و«الحمد والشكر» و«القلب المسكون». رحبنا بمقترحه ودخلنا للاستوديو قصد الشروع في التسجيل، وكنا نفاجأ بحضور منصور الرحباني الذي علمنا فيما بعد أنه هو من سيقوم بالتوزيع الموسيقي للعمل. سجلنا أغنيتي «الكلام المرصع والدورة»، أما «الحمد والشكر» فلم نسجلها إلا بعد أن عدلنا كلماتها... مكثنا هناك 15 يوما من شهر رمضان، توطدت خلالها علاقاتنا بكركلا، الذي أصبح يجالسنا يوميا ويستمع إلى أغانينا، وكلما استمع لأغنية لم يكن قد أنصت إليها من قبل، إلا وطلب منا أن نسجلها للعمل، فكنت أرد عليه مازحا «خاصك تألف»، وكان يستغرب لهذا الجواب فاستفسرني في إحدى المرات «كيف تقول لي خاصني نألف والأغاني مؤلفة أصلا؟»، فأجبته «تألف» أي أن تسخى للفرقة ب «ألف دولار، ألفين... وهكذا، لأن المتفق عليه هو ثلاث أغاني، وقد منحناها لك»! فدخلنا جميعا في هيستيريا من الضحك.
كان الرجل بسيطا وودودا، خلق معنا علاقة صداقة متينة حتى أننا لم نأخذ شريط العمل إلى أن سمعنا الناس هنا في المغرب يتحدثون عن عرض قدم بمدينة وليلي وكانت مشاركة جيل جيلالة بأغانيها رائعة، لكن من سوء الحظ أننا كنا خارج المغرب.
إن كنه هذا العمل، يتابع مولاي الطاهر، هو أداؤنا لأغانينا بالشكل الذي نقدمه ويقوم الجوق الموسيقي بالعزف وتتوزع الجمل الموسيقية والكلمات بشكل سانفوني جميل وأحتفظ أيضا بأصواتنا التي أعجبته كثيرا ووظفت في هذه المقطوعات، ونشير هنا إلى أن الفنان مارسيل خليفة شارك معنا في هذا العمل بألحانه. قبل عودتنا إلى المغرب بأيام قليلة، أبلغنا بأننا مدعوون إلى بيت إحدى الشخصيات البارزة في لبنان، ويتعلق الأمر برفيق الحريري رحمه الله.
يقول مولاي الطاهر، لم أكن أتوقع أننا سنستقبل في بيت هذا الرجل ذي المكانة المتميزة عربيا ودوليا، بتلك الحفاوة، لم يكن رفيق الحريري موجودا، كان أبناؤه وزوجته وشخصيات سياسية منهم وزراء ومسؤولون في الأحزاب اللبنانية بالإضافة إلى فنانين، تصور أنه لدى دخولنا، وقف الجميع من مكانه، «صعقت» فعلا من هذه اللباقة والمستوى الرفيع من تقدير الآخر... «معلوم»، يضيف مولاي الطاهر، فهكذا هو تصرف الطبقة المتنورة حقا لا ادعاء، وخبرت ساعتها ما معنى مصطلح «التحضر».. ومع أن الدعوة كانت ترحابية فقط للفرقة قررنا أن نغني لهؤلاء الناس، وقد أعجبتهم أغنية «الشمعة» كثيرا، خصوصا زوجة رفيق الحريري، كما أدينا أغاني أخرى.
المهم إنني وقفت على حقيقة هذه العائلة، فهي بالفعل عائلة راقية وتشكل البورجوازية الوطنية الحقة، تعشق الفنون والثقافات، وتدعمها ماديا ومعنويا، وليس هاجسها هو الإسمنت والترامي على الصفقات، وفهمت لماذا تعد بيروت عاصمة الفنون والثقافة، لأن فيها مثل تلك العائلات التي تدفع بكل ماهو جميل إلى الأمام، وبكل ما يجعل بلدها نقطة جذب للعالم.
قبل رحلة لبنان، كان لجيل جيلالة موعد مع الجمهور الأمريكي بثلاث مدن وهي نيويورك، بوسطن وواشطن، حيث اتخذ أحد المنظمين، يسمى حسن زريقة، مبادرة إقامة عروض لجيل جيلالة في هذه المدن الأمريكية، أعتقد أعضاء الفرقة أنهم سيغنون للجالية العربية هناك، لكنهم في الحفلات الثلاثة سيجدون أمامهم حتى الجمهور الأمريكي، ولكثرة إعجاب المستضعفين بأغاني جيل جيلالة، سيمنحونهم حتى مداخيل تذاكر المسرح بواشنطن، رغم أن جيل جيلالة أخذت مستحقاتها عن عروضها الثلاثة في المغرب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.