تمثل الحافلات والشاحنات العاملة في النقل الطرقي العمومي للمسافرين والبضائع, الواجهة التقليدية للنشاط الذي يؤمن للمحظوظين دخلا يغطي الحاجيات والكماليات دون صرف أي مجهود ، وهو النشاط الذي يعرف باسم اقتصاد الريع ، فتكاد كل حافلة وكل شاحنة وكل سيارة أجرة تخفي وراءها مستفيدا من رخصة «كريمة» يحقق دخلا قد يفوق الدخل الإجمالي لمجموع العاملين في هذه العربة من مسيرين وسائقين ومساعدين، فعوض أن يساهم هذا القطاع الحيوي في تثمين الشغل وفي الرفع من المداخيل الضريبية, فإنه يساهم بشكل سافر في خلق الفوارق الطبقية وفي هدر المال العام، وفوق هذا وذاك فإنه يشكل عرقلة حقيقية أمام تحديث وعصرنة قطاعي النقل واللوجيستيك ويفرغ مفاهيم التحرير والمنافسة والشفافية من محتواها. «الكريمة» التي كانت في البداية بمثابة تعويض لمن أسدوا خدمات للوطن، اعترافا لهم بتضحياتهم، تحولت إلى مصدر إثراء سرعان ما تطورت آلياته وطرق التعامل معه لتشمل القطاعات الأكثر مردودية كالعقار والخدمات، ومع هذا التطور صارت بعض وكالات الاتصال تحتكر تنظيم أنشطة بعض القطاعات العمومية وشبه العمومية وتجني في فترة وجيزة أرباحا يستحيل تحقيقها في ظل شفافية طلبات العروض العمومية وفي ظل اعتماد المؤِسسات العمومية وشبه العمومية كقاطرة لمحاربة الفساد بكل أشكاله. لو اقتصر التأثير السلبي لاقتصاد الريع على الإخلال بعلاقات التحرير والمنافسة والشفافية لهانت، أما وقد تحول «اقتصاد الريع» إلى مورد للاستثمار في شراء الذمم وفي تمويل الحملات الانتخابية بطرق غير مشروعة، فقد صار من الصعب تصور قيام نظام ديمقراطي يزاوج في آن واحد بين العلاقات الاقتصادية التي سادت في «عهد الرصاص» وبين تلك التي تندرج في سياق المغرب الحديث وتتجاوب مع المبادئ التي أعلن عنها جلالة الملك في مختلف خطبه، وخاصة منها خطاب 9 مارس 2011 الذي فتح الباب على مصراعيه أمام طي صفحة الماضي والانخراط بشكل فعال في نادي الدول الديمقراطية, إن المغرب يتوفر على مجموعة من هيئات المراقبة والتقنين، مثل المجلس الأعلى للحسابات ? المجلس الوطني للمنافسة ? مجلس اخلاقيات القيم المنقولة ? الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ? بنك المغرب ? المركز المغربي للملكية التجارية والصناعية، ولكن ما الفائدة من هذه الهيئات إذا كانت تفتقر إلى القوانين والسلط التقريرية التي يمكنها أن تعالج إشكالية اقتصاد الريع بالصيغة التي تؤمن للمستثمرين التوفر على وضوح الرؤيا الكافي وتحول المناخ الاقتصادي المغربي إلى مركز يستقطب الاستثمار المنتج لمناصب الشغل والمساهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكل الشرائح الاجتماعية ، فالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات تمر بالضرورة عبر التخلي عن اقتصاد الريع وعبر تقوية العلاقات التضامنية الواضحة المعالم والأهداف. لم يخطئ الأستاذ عبد العالي بنعمور، حين تنبأ في تصريح صحفي لجريدتنا منذ يومين، من موقعه كرئيس لمجلس المنافسة، أن التعديل الإيجابي الذي طال المؤسسة التي هو مؤتمن على إدارتها، بعد استقباله من قبل جلالة الملك، سوف يفتح نارا عليها من قبل «مافيات اقتصادية» ظلت تعتاش من «فضائل اقتصاد الريع» (إذا ما كان لهذا السلوك الاقتصادي غير السليم، من «فضائل»!!). الأمر، أشبه، بالتقرب من عش الزنابير. وعكس ما قد يتوهمه الكثيرون، فإن الإصلاح الحقيقي مغربيا، لا يمكن الحديث عنه فعليا، بدون مواجهة أعشاش الزنابير هذه، المعششة في التدبير الاقتصادي المغربي. ولعل أخطر ما قد يواجه المغرب والمغاربة في هذا الباب، هو حدوث نوع من «العصيان الإداري» الذي سيكبل أي تحرك للإصلاح، حتى ولو كان صادرا من أعلى سلطة في البلاد. حينها سيكون الجميع قد اقتنع أن قوة نفوذ مافيا الفساد قد بلغت درجة جد خطيرة تهدد الدولة بكاملها. ذلك، أن التراكم المتحصل في هذا التقليد «الإقتصادي» قد جعل حجم المرض يصل درجة عالية، تتطلب عمليات جراحية حاسمة. ودور مجلس المنافسة هنا كبير وحاسم، في تحديد العديد من أنواع المرض وكذا سبل العلاج الواجبة، ولهذا السبب فإنه في مقدمة المدفع. إن عدو الفساد الاقتصادي هو سيادة القانون. والدولة الحديثة لا تستحق أن تدرج ضمن نادي الدول المنفتحة، الواهبة للثقة، الجالبة للرأسمال، المحققة لتواتر سليم لأرقام التنمية المستدامة، إذا لم تكن فيها اللعبة الاقتصادية تدار بقوانين واضحة، شفافة وسليمة، تضمن توازي الفرص أمام الجميع للنجاح. وأخطر ما قد يواجه هذا المطمح، هو حين لا يتم الفصل بين المسؤولية السياسية والطموح الاقتصادي المالي والتجاري. ذلك أن رجل السياسة، بطبيعة مهمته أخلاقيا، هو منذور للدفاع عن العدالة الاقتصادية، مما يلزمه أن لا يكون طرفا في دورة الإنتاج. أي أن يكون قويا بحياده، الذي يعزز دوره النبيل في حماية المصلحة العمومية في أن تدار اللعبة الاقتصادية بشكل شفاف مما يعزز من المناعة القصوى والحاسمة للبلد والأمة. هل الأمر متحقق في المغرب؟!.. للأسف، فإن التراكم الذي تحقق منذ بداية الستينات، وتعزز في بداية السبعينات، من القرن الماضي، قد جعل نظاما كاملا ل «اقتصاد الريع» يصبح هو «القانون العادي» الذي يتحكم في دورة الإنتاج الاقتصادي المغربي، وخلق تربية سلوكية تعلم وتعزز «الإنحراف الاقتصادي». وهذا السرطان كان واحدا من الأسباب الكبرى، ضمن أخرى تدبيرية سياسية للحكومات المتعاقبة منذ بداية الستينات حتى قرارات التقويم الهيكلي لنهاية السبعينات وبداية الثمانينات، التي جعلت الملك الراحل الحسن الثاني، يدق ناقوس خطر كبير في قبة البرلمان، ويعلن أن «المغرب مهدد بالسكتة القلبية». ولعل ضخامة الخطر، آتية من أن تلك التربية السلوكية الاقتصادية غير السليمة، تطال مجالات جد حيوية في الاقتصاد المغربي، تتعلق بالنقل والفلاحة والمعادن والصيد البحري والسياحة والتأمين وأخيرا القطاع الحيوي الهام للعقار، ثم خطر التهرب الضريبي، بما يصاحبه من تحايلات تلعب على دقائق النصوص القانونية أو أحيانا كانت لا تتورع من التحدي عنوة من الإمتثال لواجب الضريبة، لأنها محمية بهذه المظلة السياسية أو تلك. لقد بلغ الأمر، اليوم، بعد تجربة التناوب التي تم إفشالها منذ سنة 2002، وبعد تطويق وإفشال تجربة وحدة المدينة في السنة الموالية سنة 2003، بعد نتائج الانتخابات الجماعية لتلك السنة، أن أصبحنا جميعا رهائن توجه اقتصادي تدبيري، يسمح بالجزم بوجود «دولة داخل الدولة»، بشكل يكرر تماما ما حدث في تونس بنعلي ومصر مبارك. وحين صدح الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، من موقعه كوزير أول، أن هناك «مركبا مصالحيا لجيوب المقاومة» تقف بصرامة ضد كل إصلاح عميق للدولة ولدورة الإنتاج، فإنه كان يعني في العمق هذا البناء غير السليم الذي ظل يتسرطن في المغرب منذ أكثر من 40 سنة. والحال أن المغرب، لا يمكن أن يدعي أنه دخل نادي الدول الحديثة، المنظمة تدبيريا بشكل سليم، الواهب للأمل في الانخراط بشكل سلس ضمن منظومة الاقتصاد العالمي، دون أن يقطع مع هذا السلوك الاقتصادي غير الشفاف. ولأن دروس الآخرين، تعنينا دوما في طريق الحياة، فإن المرء لا يجب فقط أن يتوقف - على أهمية ذلك الأكيدة والدالة - عند التجربتين التونسية والمصرية، التي انتهت إلى ما انتهت إليه من تغيير شامل وعنيف، ما كان أحد يتخيله منذ أشهر قليلة ماضية. بل علينا أساسا الالتفات إلى تجارب أمم أخرى نجحت قياداتها السياسية في أن تحقق انتقالا سياسيا مدعوما ومحميا بانتقال اقتصادي. والمثال البارز هنا، الذي يعنينا مغربيا، هو التجربة التركية والتجربة البرازيلية. ففي كلا التجربتين، تحقق تحول سياسي نحو الديمقراطية، لكنه تعزز بتحول أقوى نحو إصلاح اقتصادي، سمح للدولتين بتحقيق نسب تنمية سنوية من رقمين. والأمر، لم يكن سهلا، لكنه تحقق بفضل صرامة على مستوى القرار السياسي السيادي للدولة، مدعوم بآلية إدارية فعالة. وفي كلا التجربتين، البرازيلية والتركية، كان الجيش منتصرا للإصلاح، وكانت الحرب الأمنية على مافيا الفساد صارمة وحاسمة. مثلما لعب الإعلام دورا محوريا في فضح كل أشكال الفساد الاقتصادي والمالي وارتباطاته المافياوية داخل البلد وخارجه. بل إن الأمر في تركيا، قد بلغ حد تصفية الوزير الأول التركي الأسبق توركوت أوزال، الذي وصلت إليه يد المافيا الأوربية الشرقية، هو الذي نجح في أن يجعل بلده الصغيرة (لكن ذات الموقع الجيو ستراتيجي الحاسم بين قارتين وحضارتين، أروبا وآسيا والعالم الإسلامي والغرب ) تنجح في أن تقتنص حقها الكامل في الكعكة الاقتصادية لدول أروبا الشرقية الوليدة بعد انهيار النظم الشيوعية بها. فيما البرازيل نجحت في أن تبني وحدة اقتصادية صلبة لدول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى. إن السؤال، الذي يفرض نفسه هنا، هو: أين انتهى التحرك المغربي (سياسيا واقتصاديا) منذ بداية حكومة التناوب؟!.. ما موقعنا إفريقيا اليوم؟!.. لم لم نواصل حسن استثمار موقعنا ضمن إطار دول الساحل، الذي كان الأستاذ اليوسفي واحدا من مهندسيه والمدافعين عنه في صمت وفعالية ميدانية؟!.. ألم تستغله الجزائر اليوم لصالحها؟!.. لماذا تراجع الإغراء الإقتصادي المغربي خارجيا؟!.. أليس السبب في أن الرؤية الإقتصادية عادت إلى منطق «اقتصاد الريع» القديمة؟!.. بمعنى أدق أليس ذلك المركب المصالحي لجيوب المقاومة، هو الذي أعادنا كأمة وكدولة وكبلد، إلى منطق افتقاد الرؤية الإستراتيجية لممارسة السياسة بالشكل الحداثي للكلمة، أي أن تكون الدولة ذات آلية إدارية شفافة تغري بجلب المال، وتسمح بالتنافسية، الضامنة للإنخراط في منطق الإقتصاد العالمي بسلاسة؟!.. هي أسئلة، والمستقبل يتحدى الجميع.. والدروس أمام الكل أيضا، طريق تونس ومصر واضحة ومعروفة فاتورتها، وطريق تركيا والبرازيل مغرية..