أظهر الاحتفاء بحركة 20 فبراير، وما أعقبها من تظاهرات محلية، كم هي ساذجة وعقيمة تلك الثقافة السياسية التي يتحلى بها الكثير من المغاربة المنشغلين بالشأن السياسي، حين اعتبروا أن الخلاص - كل الخلاص - تأتي بهم مواعيد »الفايسبوك« !! وإذا كانت مكرمة ما.. لهذه الحركة، فهي أنها. . أولا: حررت قسما من الشبيبة، عانى من التأزم كثيرا، واختمر الغضب في باطنها على مهل، حتى تحول الى نار مشتعلة.. فقد تحررت الشبيبة من عقدة الخوف والاتكالية، والانتظارية، التي أقعدت الجماهير عن الفعل عقودا من الزمان! إنها خطوة هامة فعلا، وإنجاز تاريخي عظيم، لاشك أنه يكتنز في طياته قيم التضحية والوفاء، والتطلع الى التغيير الإيجابي. . ثانيا: هزت أركان الأمة بأسرها، منتزعة، لا فقط إعجاب الجماهير وعطفها، بل وكذلك جذبت انتباه وتأييد الطبقات المحافظة والمعتدلة، وكانت جميعها تضع أيديها على قلوبها وهي ترى وطنها يسير نحو المجهول! في حلقة »»حوار«« بالقناة الأولى) ليوم الثلاثاء 22 مارس 2011، كنا ضيوفا عند الاستاذ عبد الهادي خيرات وبذلك يكون معد البرنامج ومقدمه قد خرج عن المألوف، باستضافته لشخصية مميزة سياسيا، وغير نمطية.. اجتهدت، ما وسعها الاجتهاد، لرفع الحجب عن الزوايا المظلمة في تاريخ السياسة المغربية، على امتداد نصف قرن من الزمن، وفي مقدمتها علاقة العرش بالحركة الوطنية، علاقة تراوحت دائما بين المد والجزر. من أبرز سماتها الثابتة: انعدام الثقة بين الأطراف، بدليل أن الطرف »القوي« كان لا يمد يده - و لايزال - الى الطرف الثاني، قصد مد جسور التحاور والتفاهم، إلا عندما تصاب عضلاته بالارتخاء والهشاشة، وقبضته الحديدية بالشلل، جراء هزائمه وإخفاقاته المتتالية، واستنفاده لترسانة المناورات والتكتيكات في مواجهة المعارضة اليسارية. كطرف ثان كانت المعارضة - على ما يبدو في جزء منها- تقف في قاعة الانتظار... جاهزة لالتقاط أية إشارة تأتي من القصر. ولأنها ضعيفة ومفككة، فإنها لم تقو... بل ولم تجرؤ في يوم من الأيام - حسب علمنا - على فرض شروطها أثناء إدارة الحوار. لذلك كان القصر دائما «»يتلهى»بها... منصرفا الى تضميد جراحاته، واستعادة عافيته كي يركلها بلا شفقة ولا اعتبار في نهاية المطاف!! ورغم أن الفريق الصحفي - المنتقى انتقاء - لمحاورة المناضل عبد الهادي خيرات قد حاول أفراده معاسكة الضيف -اعتباطا - فظلوا يبحثون عما يرونه من بؤر معتمة في مواقفه ودفاعه عن نضالية اليسار المغربي، وصموده في وجه الأعاصير الشرسة.. لكنهم، باندهاشهم وصمتهم الطويل عبروا عن حاجاتهم الى دروس في فهم تاريخ النضال الوطني التقدمي، وعجزهم عن الاقتراب من الملفات التي كان القصر يتداولها والحركة الوطنية، طوال فترات حكم الملوك الثلاثة. ولأنه ملم بجزء غير يسير من تلك الملفات الساخنة، ولأنه مناضل لا يحتاج الى تزكية من أحد، فإن عبد الهادي خيرات قد استطاع أن يرسل عبر التلفزيون الى ملايين المغاربة، المستنفرين هنا وهناك في هذه الظروف، إشارات.. أحيانا واضحة، وأحيانا مشفرة... تحرض على الصمود في النضال، حتى تحقيق الهدف المنشود: إعلان القطيعة التامة مع الماضي المشؤوم للدولة المغربية، ماضي المناورات والمصادرات المهووس بالرغبة في تركيع الاحزاب والنقابات والجمعيات والافراد...بدل تقويتها للاستقواء بها في منازلته لخصوم وحدتنا الترابية. والتصدي للظلامية والتطرف الديني، وتجنيد تلك الهيئات الشعبية في معارك التنمية الحقيقية، وتشييد المغرب الجديد، المزدهر... الذي طال انتظاره. لا أعرف ضيفا حاوره »برنامج «حوار»« التلفزيوني... تحلى بالشجاعة السياسية، وبوضوح الخطاب، مثلما فعل عبد الهادي خيرات. كان الضيوف، في غالبيتهم، يستسلمون لفرحة الضيافة، فينسون مبادئهم وخطوطهم الخلفية، حيث الجماهير التي يتمترسون خلفها، تاركين تحالف البرنامج ،المتكون عادة من مقدمه، وصحفيين، وأستاذ جامعي) يفعل بهم ما يشاء! فلم يغازل خيرات شباب حركة 20 فبراير، ولم يبخسهم حقوقهم، ولكنه وضع حركتهم في سياقها التاريخي.. كحركة انبثقت من جمر شقاء الجماهير، ذلك الجمر الذي ظل يكبر ويكبر.. محدثا تراكما ملتهبا... الى أن بلغ درجة التعبير الصريح، والخروج الى الشارع، في محاولة منه لبدء كتابة جديدة لتاريخ النضال المغربي الحديث. إنهم أوفياء إذن لنضال آبائهم وأجدادهم.. يحملون في عيونهم وقلوبهم وجباههم وشم الذكريات المشؤومة لدى الأجيال التي أنجبتهم من تحت سياط الجلادين، ممثلي آلة التخلف والقهر، التي تكره أن يكون المغاربة أسيادا. ولذلك ظل خيرات، طوال البرنامج، يلوح بالسؤال الأزلي: »هل تريدون لهذا البلد أن يتقدم؟! أم تريدونه أن يظل حيث هو: ضعيفا وتابعا، شبحا بين الأوطان؟! مراجعة الدستور، إعادة قراءته جملة وتفصيلا من منظور نقدي.. الفصل 19، والتجاذبات حوله في شأن إمارة المومنين.. سلطات الملك، الحكومة المنتخبة، اختصاصات الوزير الأول، المجلس الحكومي المقيد بالمجلس الوزاري.. وغيرها من المواضيع التي أفاض في توضيحها ضيف »حوار«، وأجاد. ومهما يكن، فإن عبد الهادي خيرات قد دق ناقوس الخطر أمام ممثلي شباب انتفاضة 20 فبراير، محملا ملك البلاد، قبل لجنته الخاصة، وبالتالي وسطاء القصر... مسؤولية إفراغ الخطاب الملكي ليوم 9 مارس الجاري من محتواه الثوري.. ربما إمعانا منهم في كسب مزيد من الوقت وتطويع الزمن لفائدة الأطروحة البالية، التي تصور اليسار كما لو أنه فزاعة أو بعبع.. على الملك أن يحتاط منه دائما وأبدا، وأن يعمل على تركيعه، بدل تقديره، وتقريبه منه، وإشراكه في إدارة شؤون الدولة. إن اليسار المغربي المعاصر لا يزاحم الملك في الحكم، وليس لديه أي مشروع لإسقاط النظام الملكي، لإقامة نظام جمهوري بدله! لقد نضج اليسار المغربي بما فيه الكفاية.. وأدرك أن الملكية لا تتناقض مع الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومع الدولة الحديثة.. على عكس ذلك، فتقوية الملكية، كملكية دستورية برلمانية ديمقراطية حقيقية... من شأنها أن تسرع عملية إنجاز مسلسل التقدم والازدهار في بلادنا. يقتضي ذلك من الفرقاء جميعا، النزول إلى الأحياء والشوارع والقرى لسماع صوت الشعب، ورأي الشعب، وبؤس الشعب وآلامه.. والانكباب على تأطيره، وتنظيمه، وتوجيهه، وإنصافه.. لأنه هو الضمانة الوحيدة للقوة والأمن والاستقرار.