شكلت بداية الثمانينات مرحلة مهمة في تاريخ الحركات الاجتماعية ببلادنا ، اتسمت بظهور أولى التعبيرات التي أدت إلى ميلاد الحركة النسائية المغربية من خلال فصيلين هما الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، التي رأت النور سنة 1985، واتحاد العمل النسائي سنة1987، اللذان سبقهما إنشاء نوادي نسائية وصدور صحف كجريدة 8 مارس، في بداية الثمانينات، وتلاهما فيما بعد ميلاد عدد مهم من الجمعيات، التي رأت النور خلال بداية التسعينيات. والجدير بالذكر أنه من بين أهم السمات التي ميزت هذه المكونات كونها خرجت من رحم الحقل السياسي، بحيث كانت جل مناضلاتها تنتمين إلى أطياف الصف الديمقراطي اليساري، من حزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ومكونات أقصى اليسار، واللائي انخرطن في دينامية النضال الديمقراطي، الذي شكل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الإطار الأساسي الذي استقطبهن وسمح لهن باكتساب أدوات الفعل السياسي والنقابي وحتى الثقافي لمن كانت لهن ميولات ومؤهلات الاشتغال في الحقل الثقافي. إن الفاعلات النسائيات المغربيات هن نتاج لهذه الحركية التي اعتبرت الربط بين قضية حقوق المرأة والديمقراطية أحد المداخل الضرورية والحاسمة من أجل التقدم في تحقيق مطالبها من جهة، ومن جهة أخرى لأنها آمنت أنه لا أساس للديمقراطية في غياب المساواة بين الجنسين. وعليه من المهم اليوم التأكيد على أن هذا الربط والارتباط بين الديمقراطية ومسألة المساواة، هو أمر ميز الحركات النسائية عالميا، بل يمكن القول إن العلاقة بين الفعل النسائي والديمقراطي لم تكن دائما منسجمة ولكنها لم تكن قط متناقضة. إن التقدم في الاعتراف بحقوق المرأة تم في ظل التقدم في رسوخ قدم الأنظمة الديمقراطية، التي يبدو أن بدونها استحال وضع الإطارات الضرورية واللازمة للمناداة بحقوق الإنسان والنضال من أجلها وضمنها / وفي صلبها الحقوق الإنسانية للنساء. فالديمقراطية اعتبرت شرطا ضروريا ، وإن لم تكن كافية ، من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين. ويفيدنا تاريخ الحركات النسائية ، على المستوى العالمي، أن التقدم في الاعتراف بحقوق المرأة، حتى وإن كان بطيئا، لم يكن ممكنا إلا في ظل الأنظمة الديمقراطية، وأن التراجع عن بعض المكتسبات شكل أحد الانعكاسات للأنظمة التوتالتارية الشمولية التي عرفتها أوربا فيما بين الحربين العالميتين. وعلى غرار باقي الحركات النسائية العالمية، استطاعت الحركة النسائية المغربية أن تحقق مطالبها في ارتباط مع التقدم في إطلاق مسلسل الانتقال الديمقراطي. فبمقدم حكومة التناوب سنة 1998 استطاعت الحركة النسائية أن تضع ملفها المطلبي، وفي القلب منه إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، ضمن أجندة الإصلاحات. واليوم وبالرغم من كل المؤاخذات التي يمكن أن تسجل فيما يخص التردد الذي ميز عمل ومساعي حكومة التناوب في حسم إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، لا يمكن أن نغفل أن الطريقة التي تم بها تدبير الملف ( بالرغم من ايجابية النتائج بالنسبة للنساء) قد شكل نوعا من التراجع عن المنهجية الديمقراطية التي كانت الرهان الأساسي لمكونات الحركة الديمقراطية ببلادنا، ولمسلسل الإصلاحات التي عرفها الدستور المغربي سنتي 1992 و1996 والذي كان يتوخى أساسا التأسيس للتناوب. وقد تمثل هذا التراجع أساسا في سحب الملف من الحكومة والتذرع بالتحكيم الذي طلبه الفاعلون، بما في ذلك مكونات الحركة النسائية، من السلطات العليا للبلاد، حيث تم التدشين ، كما يبدو ، للتراجع عن الخط السياسي الذي شجع مكونات الصف الديمقراطي للانخراط في التناوب، بدءا من ذلك التاريخ الذي ستليه خطوات أخرى ذهبت في نفس المنحى والذي يمكن اعتبار تعيين حكومة تقنوقراطية سنة 2002 والدفع بتأسيس حزب الأصالة والمعاصرة ، سنوات بعد ذلك ، مرورا باعتقال أعضاء من تنظيمي البديل الحضاري وحزب الأمة والتضييق على وسائل الإعلام والاستمرار في سياسة الإفلات من العقاب، والتساهل مع الفساد والمفسدين.... أحد عناوينه البارزة. طبعا شكل إصلاح مدونة الأحوال الشخصية خطوة متقدمة ومنعطفا بالنسبة للحركة النسائية ولكل من كرس جزءا من نضاله لقضية المساواة بين الجنسين، غير أن تفعيل بنود المدونة واجهته عراقيل كبيرة حالت دون جعله واقعا يسمح للنساء بالتمتع بما تضمنه من حقوق كانت الغاية منها هي احترام كرامتهن والتعامل معهن على قدم المساواة مع الرجال بتجنب الطابع التمييزي الذي ميز مدونة الأحوال الشخصية سابقا، منذ صدورها ، مرورا بتعديلات سنة 1993 . ويمكن الإشارة إلى أن مشاكل التفعيل، بالرغم من استمرار العقلية الذكورية التي مازالت تتحكم في دواليب وأجهزة القضاء ( وبمختلف المهن المرتبطة به كالمحاماة وكتابة الضبط والعدول وأعوان التنفيذ، والخبرات....) إلا أنه لا يجب اختزالها فقط في هذا البعد، إذ تطرح بالإضافة إلى ذلك قضية الحكامة وطرق التسيير وآليات التتبع والمراقبة التي تلقي بثقلها وظلالها على السير العادي لقضايا متعددة أصبحت اليوم تطرح إشكالا سياسيا عاما. يضاف إلى هذا الجانب كون مكونات الحركة النسائية حتى وإن استمرت في القيام بدور اليقظة فيما يخص مسألة تفعيل المدونة، فإنها إلى جانب ذلك، أولت اهتماما خاصا ، بل أولوية لقضايا العنف القائم على النوع، والانخراط في سيرورة الدفاع عن الرفع من التمثيلية السياسية للنساء، بالإضافة إلى الاهتمام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لم تغب عن أجندة البعض منها خصوصا المكونات المتواجدة في العديد من جهات المغرب ومناطقه البعيدة عن كبريات المدن، والتي تشتغل في إطار التمكين الاقتصادي للنساء. والواقع أن التصدي لهذا الجانب من قضايا النساء يعتبر أمرا حيويا بالنظر من جهة إلى أهمية الاهتمام بالفئات من النساء التي تعاني من الفقر والهشاشة، والعمل على إدماجها اقتصاديا، ومن جهة أخرى لارتباط كثير من إشكالاته وتداعياته بموضوع مدونة الأسرة. إذ في غياب التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي بإمكانها أن تضمن الحد الأدنى من الكرامة، تظل الحقوق المدنية على الرغم من أهميتها بعيدة المنال لفئات واسعة من النساء اللائي يعانين من الفقر والأمية والتهميش ويجدن أنفسهن في دوامة يبدو الانفلات من قبضتها أمرا مستحيلا. وبخصوص هذا الموضوع يمكن التنبيه إلى الارتباط القائم بين الاستجابة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في جزء كبير منها، بالاختيارات الكبرى وبالتوجهات الإستراتيجية اقتصاديا وبالسياسة العامة للدولة، التي لا يمكن تحقيقها إلا في ظل سياسة قائمة على مبدأ التوزيع العادل للثروات وللموارد، سياسة مؤسسة على قواعد الحكامة الجيدة والمراقبة والتتبع والتقويم وإرساء أسس الشفافية. اختيارات أصبحت اليوم ، بالنظر إلى الترتيب الذي يحتله المغرب في سلم التنمية البشرية، تطرح أكثر من سؤال وتحيل إلى الاتجاه الذي اتخذته بلادنا والذي يبدو معاكسا لإمكانية التقدم في تفعيل شعارات ظلت فارغة من محتواها في ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية التي تواجهها عراقيل أصبحت اليوم جزءا من منظومة الفساد الذي استشرى في كل الجسم، والتي لم يعد بالإمكان الاستمرار في السكوت عنها أو قبول الصمت المتواطئ بشأنها. إذا كانت قضية إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، والمطالبة بتبني نص قائم على المساواة بين الجنسين، قد شكلت رهانا نجحت مكونات الحركة النسائية في وضعه في قلب الأجندة السياسية وعبأت حوله ولأجله كل الديمقراطيين والحقوقيين، وكل الفاعلين من مختلف المواقع، بل ونجحت في أن تكون المفاوض الرئيسي بخصوصه، فالمطالبة باحترام بنود مدونة الأسرة وتفعيلها ، بما يطرحه من تعقيدات مرتبطة في جوهرها بالحكامة والمراقبة، تضع الموضوع في إطار أوسع يتجاوز مكونات الحركة النسائية. نفس الأمر بالنسبة للتقدم في تحسين مؤشرات التنمية البشرية والاستجابة للمطالب المتعلقة بالمساواة في الاعتراف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الهادفة إلى تحسين أوضاع المواطنين والمواطنات، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعتبر أمرا يهم الحركة النسائية فقط. ولا غرو في أن التعثر، بل والتراجع الذي عرفته بلادنا، أصبح يلح على الجميع ويهم كل الفاعلين، كل من موقعه ومن زاوية اهتمامه وتخصصه، وهو الأمر الذي أصبح يطرح سؤال الإرادة السياسية الذي يستدعي التصدي له من طرف الجميع ولا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار أنه يعني الحركة النسائية لوحدها. إن هذا الترابط يجعل اليوم سؤال المساواة بين الجنسين في كافة الحقوق مرتهنا بسؤال الديمقراطية والإصلاح السياسي والمؤسساتي. وهي اليوم معركة كل الديمقراطيات والديمقراطيين المتشبثين بالتقدم في تحقيق الاعتراف بحقوق الإنسان لكافة الفئات وفي القلب منها الحقوق الإنسانية للنساء. وعليه، فإن التحدي المطروح اليوم هو انخراط الجميع ضمن سيرورة الإصلاح الدستوري من خلال التقدم بمقترحات واضحة بخصوص كل القضايا التي من شأنها أن تؤسس لميلاد مغرب ديمقراطي يضمن الكرامة لمواطنيه ومواطناته وتكرس مبدأ المساواة كحق من حقوق الإنسان. نوجد اليوم في سياق تاريخي يتميز بنهوض الشعوب العربية في عدد من البلدان ضد الاستبداد والقهر، وهو ما كان له صداه على مستوى بلدنا من خلال النداء الذي وجهه عدد من الشباب يعود لهم اليوم الفضل في زرع الروح من جديد في جسد كان قد ارتكن إلى الخمول، وإعطائه نفسا جديدا أعاد الحياة للكثير من أطراف هذا الجسد بعد أن كاد يقتله التكلس. جاحد من لا يقر اليوم أن الشباب المغربي، وعلى غرار باقي شباب تونس ومصر واليمن.....، قد ضخ دماء جديدة ( مزيدة ومنقحة ) في شرايين جسد استهلك كل طاقاته. ومن المفروض اليوم أن نتحلى بالتواضع اللازم من أجل الإقرار بأن المسيرات التي انطلقت يوم 20 فبراير 2011 سمحت بالعودة من جديد إلى طرح الأسئلة الحارقة والحاسمة حول السيرورة التي بدأت مع حكومة التناوب، وتم للأسف ودون مبررات، التراجع عنها في السنوات الست أو السبع الأخيرة، والتي أدت إلى التراجع عن عدد من المكتسبات التي كانت لاتزال جد هشة، بما فيها تلك التي تهم أوضاع النساء. على سبيل الختم إن قضية المساواة بين الجنسين هي من أعقد القضايا التي تحتاج إلى نفس طويل، وإلى زمن لا يقاس بحساب الزمن السياسي الآني، وذلك من حيث أنها بقدر ما تستهدف إقرار مبدأ المساواة في الحقوق بين النساء والرجال بقدر ما تستهدف تطوير العقليات وخلخلة التصورات النمطية المؤسسة للهيمنة الذكوربة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ البشري في أبشع صوره. وهي من هذا القبيل تحتاج إلى الوعي بأهمية السيرورة التاريخية التي يتوجب التقاط ما توفره من ظروف وشروط من أجل انتزاع مكتسبات تعتبر قاعدة للمزيد من التقدم. إن الظرفية اليوم تقتضي استثمار ما أتاحته حركية ما بعد 20 فبراير 2011 من إمكانيات لإطلاق النقاش الجاد والحوار المنفتح والمسؤول حول الإطار الضروري الذي يسمح بالتقدم في الاعتراف بالحقوق وضمنها حقوق المرأة ومبدأ المساواة بين الجنسين التي أصبح جليا أنها مرتبطة، في الكثير من مظاهرها ومقاصدها وأهدافها، بوضع دستور ديمقراطي يضمن المساواة للجميع نساء ورجالا. (*) فاعلة حقوقية مهتمة بالمسألة النسائية