أصدر الأستاذ المبدع عبدالله شقرون كتابا جددا بعنوان «زمن قال الراوي»، يحتوي على ثلاث مسرحيات إذاعية أو «قصص تمثيلية» كما يحب أن يسميها وهي : الحنبل المقسوم، المشطة والمغزال، و لولا جرادة ما حصل برطال ويأتي الكتاب ضمن سلسلة من الكتب والدراسات باللغة العربية (والدارجة المغربية في جزء منها) والفرنسية، تناهز الأربعين، سبق للمؤلف أن أصدرها في إطار أبحاثه في مواضيع مختلفة تمتد من تاريخ المسرح ونشأته بالمغرب وبالخصوص الإذاعي منه، الى الحقوق والملكية الفكرية للمؤلف في الإذاعة والتلفزة، الى الشعر والشعراء وفن الملحون، فكتب مختلفة من مسرحيات أو أبحاث ترتبط بهذه المواضيع أو تلك في نفس السياق. هذا التنوع وهذه الغزارة في الإنتاج إنما تدل بالدرجة الأولى على سعة اطلاع المؤلف وتعدد مواهبه واختلاف مداركه، واهتماماته الخاصة في مواضيع قل البحث فيها في المغرب كمواضيع نشأة الإذاعة بالمغرب وحقوق المؤلف في الإذاعة والتلفزة والحقوق المترتبة عنها. يمكن قراءة الكتاب الذي بين أيدينا، بداية، كتوثيق لمرحلة معينة حيث كادت الإذاعة المغربية أن تكون النافذة الأساسية للمواطنين المغاربة، خاصة فيما يتعلق بولوج فرجة مسرحية ولو كانت مجرد سمعية، تتوجه للأذن والخيال. فهو بذاك يقترح علينا مسرحيات سبق أن قدمت على الأثير وبدون شك أعيد تقديمها مرات عديدة لكونها استهوت المستمع ونالت إعجابه آنذاك. يبقى مع ذلك سؤال عريض وواسع يتعلق بما إذا كان المؤلف قد أعاد صياغة هذه الحكايات في وقت ما، كما يفعل العديد من الكتاب الأحياء. بالطبع ينبغي أن نقر بأن الأمر يتعلق بمسرحيات كتبت، مسبقا من طرف عبدالله شقرون، وأخرجها في طابعها أو صيغتها الإذاعية لممثلين تدربوا عليها لتقديمها للمستمعين مباشرة. أي أننا هنا أمام نوع من المسرح تُكتب نصوصه مسبقا ? أو على الأقل ذلك ما يوحي به الكتاب ومقدمته - وليس أمام فرجة يتدرب الممثلون على حبكتها وتطويرها باستعمال تقنيات الارتجال المعروفة، انطلاقا من تيمة أو حكاية أونقطة انطلاق معينة، وهي مرحلة عرفها المسرح المغربي، وأكاد أقول مازال يعرفها في بعض تجاربه. وبذلك يكون الكتاب عبارة عن إحياء لنصوص قديمة مر زمن طويل على كتابتها (الأربعينيات والخمسينيات)، ولكن ظروفا معينة جعلتها حبيسة الظل لم تنشر قبل اليوم، وقد كانت تقدم كمحكيات وهو ما يخلق بعض الالتباس بين شكلها المكتوب مسبقا وبنائها على طريقة حكي وتقديمها في زمن سابق باسم «قال الراوي». مما يجعل الكاتب يقدمها، اختصارا لنا للمسافة والمنهج المتبع فنيا، في شكل «زمن قال الراوي»، أي الزمن الذي كانت فيه المسرحيات لا تشاهد فوق الخشبة كما هو الأمر بالنسبة للمسرح عموما ولكن تسمع عبر أمواج الإذاعة. ولربما يتيح لنا هذا الكتاب بدل الحديث عن «زمن قال الراوي» أن نتحدث عن «زمن الحكي»، فكل المسرحيات المقترحة ضمن الكتاب يتقدم فيها الراوي ليحكي أو يقدم الرواية، ثم يعود لينظم تسلسل الأحداث ويعود مرة أخرى لينقل المستمع من فضاء الى فضاء ومن أحداث الى أحداث ومن شخصيات الى أخرى، ثم يختتم بتقديم النهاية التي ليست بالضرورة نهاية القصة ولكن عبارة عن خلاصة على شكل وعظ وارشاد، وكأن المسرحية، بعد الإمتاع، كتبت فقط لأجل ذلك. يوضح لنا المؤلف ويؤكد، سواء في النصوص المسرحية نفسها أو في مقدماتها أو في المقدمة العامة للكتاب، مراجعه الأساسية التي وإن ظلت عموما عبارة عن قصص شعبية معروفة، فهي تأخذ مرجعياتها من القصص العربية والدارجة والأمازيغية واليهودية، ونعثر عن هذه المراجع في كثير من الكتابات بما فيها كتابات الفرنسيين والمستشرقين الذين اهتموا بهذا الجانب من تراثنا، هذا بالإضافة الى ما جادت به قريحة وإبداع المؤلف نفسه بعد انغماسه في كل هذه الذخيرة الغنية. ولذلك سنلاحظ أن أغلب الحكايات أو المحكيات التي اشتغل عليها الأستاذ عبدالله شقرون مستوحاة من نصوص كتبت عن الدارجة بالفرنسية، وأحيانا بالدارجة ولكن بالحروف اللاتينية على منوال ما اشتغل عليه الباحث الفرنسي جورج كولان ( Georges Colin ) وآخرون، غير أن عبد الله شقرون أرجعها الى أصلها الدارجي وروحها وحبكتها ومغازيها الأصلية. إن بساطة القصص هنا لا تحتاج الى بناء درامي معقد، وحين نؤكد على هذه النقطة فليس للتقليل من هذا الإبداع بقدر ما نضعها في إطارها التاريخي كحكايات كانت تتطلبها بداية المسرح في المغرب في شكله الإذاعي العائلي، وربما الحميمي القريب من الناس وقضاياهم الصغيرة أحيانا أو اليومية غالبا domestiques. من هنا كان التوجه الى خرافات قديمة تجلب المستمعين بحكيها البسيط وخاتمتها السعيدة وحكمها الوعظية، ولأن المسرح لم يكن له من طموح غير كونه مسليا وخفيفا، ولعله أداه على أحسن وجه في تلك الحقبة المحددة من تاريخ الفرجة بالمغرب وبإذاعته الواسعة الانتشار آنذاك. ومع أن الكتاب لا يحتوي إلا على ثلاث محكيات فإننا نجده - في شكل من أشكال إظهار تعدد مصادره - في إحدى محكياته يخرج عن عالم الحكاية الشعبية البسيطة ليلج عامل الخوارق الطبيعية وعوالم السحر والقوى الخفية الغير البشرية والأساطير والخرافات العجيبة. ونلاحظ في هذا المنحى شكلا من التنويع والإثراء لمنابع هذا المسرح وخصوصياته التي تخرج بذلك عن شكل الخرافة في مستواها البشري العادي. هذا فضلا عن اقتباس بعض أشكال ما سمي في القرن الخامس عشر الفرنسي بالفارس ( (la farce ، أو اللجوء الى بعض روائع «ألف ليلة وليلة». قد يجوز أن نتساءل: ما الذي أعطى لهذه النصوص البسيطة، كما أسلفت الذكر، في مضمونها وطموحها وشكلها، كل هذه القوة والأهمية التاريخية وكل هذا الصدى لدى المتلقي؟ أهي مرجعياتها العميقة والأساسية في ذاكرة الناس كما سبق ذكره والوقوف عنده ؟ أم كونها، من الناحية التاريخية، صيغت في قالب سهل ممتنع في متناول الجمهور الواسع آنذاك ؟ أم شكل تلقيها في «زمن الحكي»، حيث نسبة القراءة جد ضئيلة وكل المعرفة والتواصل لا يتم إلا عبر السمع والحكي والإنشاد؟ أم كونها اتخذت، آنذاك، وسيلة جديدة هي أمواج الإذاعة لتمريرها كوسيلة وحيدة في غياب التلفزة والسينما والقراءة لدى عموم الجمهور؟ وأخيرا، وليس أخيرا، ألم يكن الجواب في طريقة تقديمها على شكل مسرحي أو تمثيلي (كما يؤكد عبد الله شقرون) بإخراج جذاب لآذان جمهور متلقي وبأصوات ممثلين سيظلون الى الأبد خالدين في ذاكرة المغاربة بقدرتهم الفنية المتميزة التي قل مثيلها. وفي هذا الصدد لابد أن نسجل أن أستاذنا الجليل قد تغاضى عن ذكر أسماء الممثلين، وبالتالي توزيع الأدوار بينهم في تلك الحقبة التي قدمت فيها هذه الأعمال على الأثير، مع أن ذلك يدخل في صلب التوثيق، ولو أننا قد نفهم جيدا أن في مجال جد متحرك وحيوي مثل المسرح أو التمثيل كثيرا ما يتغير الممثلون من عرض لآخر أو يتغيبون فيعوضون بآخرين، ثم آخرين لكي يستمر العرض على الدوام أو كما يقال: (que le spectacle continue )، أحيانا دون أن ينتبه الجمهور أو المستمع في وضعنا هذا. للإشارة يحتفي الكتاب بصور نادرة لأهم الممثلين الذين أسسوا لهذه الفترة الفنية (قد نذكر منهم : محمد حماد الأزرق، عبد الرزاق حكم، العربي الدغمي، محمد أحمد البصري، محمد حسن الجندي، حبيبة المذكوري، أمينة رشيد، حميدو بنمسعود، المحجوب الراجي، وفاء الهراوي، بديعة ريان...)، علما بأن الذاكرة والمجال لا يسعفانا لذكر كل الأسماء. لابد أن نتوقف قليلا عند الاهتمام المفرط بالدارجة المغربية بتنقيحها وجعل كتابتها قريبة من اللغة العربية الفصحى، بالطبع يمكن أن نعثر، في ما بعد، في تجارب المسرح والزجل بالمغرب عن هذا النوع من السمو بالدارجة، ولكن يتعلق الأمر هنا بكتابات شاهدة على عصرها إبان الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مما قد يعطيها بدون شك نوعا من الريادة، ويجعلنا نعتبرها السباقة في هذا الشأن، ومن خلال ذلك ستفتح أو تساهم في فتح مجال أرحب للدارجة المغربية كأداة للإبداع و الأدب والشعر والتلقي. غير أن اعتماد لغة دارجة سهلة في هذا الكتاب لا يمكننا أن نقر بأنها دارجة مغربية عامة تتداول في جميع ربوع المغرب فهي تستقر، كما يؤكد النص والمؤلف، على ضفاف أبي رقراق أو بين الرباطوسلا وأكثر منها سلا. ونلاحظ هنا حضورا كبيرا لسلا بأزقتها وشوارعها، أسواقها وقصرياتها وشرفائها وتعابيرها المتداولة على كل لسان وجيل، ألا يتعلق الأمر بتأريخ شعبي لا مباشر للمدينة وناسها وعاداتها؟ ومع ذلك قد نلاحظ على هذه اللغة بعض الانجذاب الى العربية الفصحى وكأنها تريد أن تصفي حسابا ما مع هذه اللغة أو تظهر وكأنها لا تختلف عنها، ولا يمكن للقارئ أو الباحث أن يصنفها في درجة ثانية بعد العربية الفصحى، وهذا في اعتقادي رهان غير سليم لأن لكل لغة نكهتها الخاصة بها، وأكاد أقول وظيفتها سواء داخل المجتمع أو في الإبداع المسرحي أو الإبداع بشكل عام. يختتم عبدالله شقرون كتابه بملحق توضيحي عن منابع استلهام هذه الحكايات ومصادرها التاريخية التي تظل في متناول الباحث الذي قد ينجذب الى دراسة أعمق لهذا المنحى، ذلك أن الكتاب إثراء جديد للمكتبة المغربية وقيمة مضاعفة عن منابع المسرح المغربي.