لحظة رفيعة من أجل المصالحة مع الماضي تلك التي شهدها رواق المجلس الوطني لحقوق الإنسان في ختام أنشطته المنظمة بمناسبة الدورة 23 للمعرض الدولي للكتاب و النشر ، حيث كانت استضافة توفيق الوديع الآسفي لتقديم كتابه الجديد « ذكريات ..عبرت» مناسبة لإعادة قراءة صفحات الماضي بمخاضاته و توتراته ..و كذا نقط الضوء الكثيرة فيه ... عبر مسار عائلة استثنائية ، توقف الحاضرون على تفاصيل غير مسبوقة من تاريخ المغرب المعاصر ... لحظة تقديم الكتاب حضرها المجاهد بنسعيد آيت أيدر الذي أدلى بشهادة تاريخية في الموضوع إلى جانب شهادات أخرى من صفوف عائلة آل الوديع ...كما قدمت لطيفة البوحسيني قراءة رصينة للكتاب ندرجها في ما يلي : ذكريات ....حكي....بوح....قصة....قصة أسرة ليست ككل الأسر....آل الوديع تبدأ القصة من نواحي مدينة آسفي في المغرب العميق ، لتمتد في ساحات الوطن...ويمتزج في القصةالعمق الجغرافي ....بالعمق التاريخي. هي حكاية منسابة انسياب مياه الوادي الكبير وشلالات حدائق الأندلس الغناء... فمن قلب الأندلس انطلقت الحكاية....حكاية روتها أصوات، أرادها توفيق أصوات من رحلوا من هنا إلى هناك. الأب الآسفي، أمي ثريا، ماما آسية والأخ العربي.....دون أن يغيب تماما أفراد الأسرة الآخرين، كل واحد باسمه... أهي صدفة أن تنطلق الحكاية من الأندلس؟ المكان هنا له أكثر من دلالة....رمزيته تشع في القارئ لتذكره بمجد حضارة امتدت آثارها من هناك لتبصم حيوات الناس هنا بمختلف المدن المغربية....ولتترك بصماتها في تقاليد الأسر المغربية وضمنها أسرة السقاط والآسفي.....ولتؤكد أن أكبر الحضارات هي التي تنجح في مد الجسور وفي صهر الثقافات والعادات والتقاليد الذي ما كان له ليتم لولا تجذر قيم الانفتاح والتسامح والاحترام للاختلاف والمختلف... من هناك انطلق الحكي...انسحب توفيق بكل تواضع إلى الخلف، ليترك لذريته الكلمة... فحضر ابنه أسامة من خلال إلحاحه على تتبع حكاية الأسرة من أولها إلى آخرها...وحضرت ابنته سامية وهي تضبط الإيقاع لكي لا تفلت التفاصيل.... انبنى الحكي على أحداث واقعية مع حرص توفيق على نسجها وتقديم أجزاء غير يسيرة منها في قالب متخيل....و هو ما أضفى على هذا الكتاب جاذبية خاصة ومنحه نكهة مميزة تشد القارئ إليه...وتجعله غير مستعد للتخلص من فكاكه... ماذا تحكي قصة آل الوديع، كما قدمها توفيق؟ إنها قصة تحكي انتقال عدد من القيم واستنباتها عبر أجيال هاته الأسرة....قيم متعددة عنوانها، العريض هو حب الوطن... حب الوطن الذي يتم نسجه بقيم الاستقامة والنزاهة والصدق والمروءة .. قيم نكران الذات ونبذ الأنانية واستنبات الغيرية.. قيم الشجاعة والبذل والعطاء بسخاء وبدون حساب.. قيم الكرم ومعها احترام وتقدير الكرامة المتأصلة في بني آدم خلال رحلة حياة، أعطت هذه الأسرة دليلا قاطعا على أنها ظلت وفية لهذه المبادئ. و ها هو توفيق يمدنا في هذا الكتاب بتفاصيل الحياة اليومية التي تشهد على حرص الأبوين :باالآسفي وأمي ثريا، على تقديم نماذج حية لأبناهم وبناتهم وعبرهم للأحفاد من الإناث والذكور...ففي هذه الأسرة، لا يستقيم الميزان إلا بتوازن كفة النساء والرجال. ثريا: الزوجة والأم والمرأة والمناضلة....شكلت نموذجا متفردا...قدم توفيق أكثر من تفصيل وتدقيق يؤكد ذلك...قصة نموذج بدأ مع شغب الشابة اليافعة الذي جر عليها غضب المعلم....فما كان منها إلا أن ترفض رفضا قاطعا أن يعاملها المعلم معاملة تقلل من شأنها....شأن المرأة التي تربت على الاعتزاز بنفسها وكرامتها...فكان ما كان... ومثله مثل الشاعر جميل، افتتن الشاب بحبيبته وغنى لها وأول ما قاد المودة بيننا ===== في واد بغيض يا بثينة/ثريا سباب كان في رفض الشابة لتعامل معلمها ...ايذانا ببداية قصة حب وارتباط قوي...ظل كذلك وأينعت حديقته أزهارا وورودا وأشرقت أنواره لتضيء عتمة ليالي طالت أكثر من اللازم... الليالي الحالكة لسنوات الجمر والرصاص التي تلظى بنيرانها بعض من أفراد هذه الأسرة بشكل مباشر والتي مست شظاياها باقي أفراد الأسرة....الاختطاف، الاعتقال، الاختفاء القسري، السجن، المحاكمة، الإضراب عن الطعام، الزيارة، البارلوار.....إلى غيرها من المفردات التي دخلت إلى القاموس المتداول في بيت الأسرة...والذي تآلف معه كل من احتضنه بيت آل الوديع... فمن اعتقال الأب إلى سجن الأبناء الثلاثة، مرورا بالتضييق على الجميع، قص توفيق الحكايات المتعددة....ومعها رحلة الذهاب والإياب المستمرة إلى السجن المركزي بالقنيطرة ونضالات عائلة المعتقلين... قصة آلام وجراح...قصة الفراق الناتج عن الإبعاد قسرا...قصة أم ظلت صامدة في وجه الجبروت والظلم حتى تخالها غير متأثرة ....وهي المرأة والشاعرة المرهفة...فقط، تصدح زغاريد هذه الأم في كل مرة أرادت من خلالها التأكيد على صمودها وصمود عائلتها......... زغرودة أم تعبير يتشابك فيه عمق الثقافة المحلية مع صوت وتطلع المرأة الطامحة والفاعلة والمناضلة والناشطة على أكثر من واجهة، لتنقشع الغشاوة ويشرق نور الشمس.....شمس الحرية و الانعتاق. أصبح بيت آل الوديع قبلة لكل مناضلي ومناضلات الحركة الاتحادية ، وحجت إليه وفود كثيرة من بين أبناء وبنات الجيل الذي ساهم في معركة تحرير الوطن من قبضة الاستعمار ليجد نفسه فيما بعد في معركة تحرير الوطن من قبضة التسلط والاستبداد.... وكان عريس الشهداء، عمر بنجلون لا يفترق مع أبا الآسفي ...يلتقيان معا باستمرار...يحرران المقالات لجريدة اختار لها اسم فلسطين...ويدبجان البيانات والبلاغات.... عشرة عمر كان عمر يحاول خلالها أن يطوع مزاج صديقه العنيد (المعكس) كما كان يسميه...بل ومن بين ما أورده توفيق في الكتاب، هو أن التقرير الأيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كتب في إحدى غرف البيت...في حي لوازيس...وهو البيت الذي يضم جزءا من ذاكرة المغرب... بيت ليس ككل البيوتات، هو ذلك الذي ترعرعت فيه شابة ذكية، فصيحة، بليغة اختارت مهنة القضاء في زمن كانت أبواب القضاء لا زالت مقفلة في وجه النساء، كما أبواب الكثير من المهن والوظائف التي اعتبرت حكرا على الرجال... لم يكن ذلك غريبا على شابة نشأت في حضن أم شجاعة وأب كان ينتصر للعدل ويقاوم، بكل ما أوتي من قوة، كل أشكال الظلم... كان القضاء في وعي آسية فرصة لقول الحق....ولذلك، حينما استعصى الحال، اختارت أن تنخرط في سلك المحاماة لتصدح بهذا الحق عاليا.....ولتنتقل فيما بعد إلى الاحتكاك بالأحداث ممن أوقعتهم مآسي الحياة بين القضبان، حيث تعرت أمامها كل أشكال الظلم والقساوة التي استقبلت هؤلاء بدون رحمة ولا شفقة....نسجت معهم خيوط علاقة، كانت حريصة خلالها على مدهم بالحب والحنان الذين هم في حاجة إليه...وليس من قبيل الصدف أن يطلقوا عليها اسم ماما آسية............فقد كانت بمثابة الأم بالنسبة لهم.....لم يخطؤوا العنوان...إذ لم تكن آسية مجرد موظفة/إطار في مديرية السجون....لقد كانت حاملة لقضية، أصبحت هاجسها الأساسي خلال السنوات التي قضتها تنتقل بين مختلف سجون الوطن....متفقدة لأحوال من لفضهم المجتمع....وحريصة على أن يمنحهم هذا الوطن ما يسمح لهم باسترداد كرامتهم ومعها وطنيتهم.... هي التفاصيل التي لا نمل من قراءتها في هذا الكتاب الذي بين أيدينا....هي التفاصيل التي كانت سامية تلح على أن تسمعها وتحرص على التقاطها وتخزينها في ذاكرتها الصغيرة.....وهي تنتظر فرصتها لتعبر عن نفسها بالشكل الذي سيبقى وفيا لقيم مستنبتة في تربة آل الوديع... نستشف مما قدمه الكتاب شغب العربي الذي يبدو أنه لم يفارقه منذ طفولته.......كبر الرجل....وحقق نجاحات علمية مميزة.......وانخرط في المعارك النضالية لأبناء جيله......وبقي مهجوسا بقضايا الوطن.....وبقيت إشكالية احترام كرامة البشر تشكل ألما وجرحا يرافقه كل يوم.......فناقش وحلل ...وكتب الشعر وتوزع بين موسيقى العالم بحثا عن ضالته........بقي محتفظا فيه بقيمة الفرح والتفاؤل والأمل في غد أفضل.......غير أن المرض لم يمهله....ورحل وفي نفسه أشياء كثيرة وفي صوته غصة الألم على كل من حرم من التمدرس ومن لقمة عيش كريمة.... ستبقى ذكرى العربي حاضرة بقوة...وسيبقى شغبه الجميل مستمرا مع كل اللقاءات الكروية التي تستأثر باهتمام أسامة الذي كان يتقاسم معه حب كرة القدم...دون أن يلتقيا في حب الفريق البيضاوي ولا الإسباني الأقرب إلى قلبيهما.... إنه كتاب يرجع بنا إلى مسار وذاكرة أسرة مميزة...ولكنه كذلك كتاب نستشف من خلاله بحث توفيق على أن ينهي مراسيم الحداد على من رحلوا...وهو الحداد الذي امتد في الزمن ليتكثف في السنوات الأخيرة حيث اختطف الموت الواحد تلو الآخر دون أن يترك لتوفيق متنفسا وسعة نفسية وقوة واستعدادا لقبول أحبائه ممن غادرونا إلى الأبد.... بقي توفيق متماسكا، وهو يعرف جيدا أن عليه أن يتحمل متاعب هذا الرحيل المتعدد ....فقد أصبح عمادا للأسرة، يعتمد عليه في الكبيرة والصغيرة....فصبر وصابر....تكبد المعاناة المتنوعة والمختلفة.... لكن الأرض لم تعد تسعه....لم تعد تتحمله....أشجانه وأحزانه وآلامه على فراق الأحباب مزقته من الداخل....فكان الكتاب لحظة تعبير عن قرار...قرار الانتقال من الحداد إلى الحٍلم ...ومن الحلم إلى الحلم بغد يستلم فيه الجيل الجديد راية المستقبل من الجيل السابق ويتسلم الوديعة التي اؤتمن عليها حتى تبقى جذوة الحرية مشتعلة لا تنطفأ مهما كانت قوة الريح... هو كتاب/ذاكرة/شهادة.....لرجل، حرص على الاستمرار في تقليد عائلي....هو تقليد الكتابة في مجتمع يفضل الأسلوب الشفوي حتى بين نخبه... تضمن من التفاصيل ما يمكن أن يضيف إلى زاد الباحثين مادة ذات أهمية بالغة... فسواء تعلق الأمر بالمؤرخ أو الباحث السوسيولوجي أو الباحث الأنتربولوجي...فالكتاب يوفر معلومات ذات قيمة مهمة إنها قصة أسرة ....تتداخل مع قصة وطن في واحدة من بين مراحلها المعقدة والملتبسة. شكرا لك توفيق.. والشكر موصول لأسماء بوستة التي كان حرصها كبيرا ليتم إنجاز الكتاب.