في ديوانه الأخير «سماء جاحدة» 2016، والذي يعد الثالث في تجربة مصطفى قلوشي، بعد «غارات الجنون» 1999، و« زنابق سوداء» 2011، يأخذنا نحو تجربة جديدة ومتجددة، وهو الآتي من جيل التسعينات بكل حماسته وتردداته وكبواته، وأيضا برؤيته الطليعية الجادة في قصيدة النثر المغربية، حيث نجد أن مقوله الشعري المهيمن داخل « سماء جاحدة « يرتكز على تضمين فن السيرة داخل القصيدة، ازدواجية تناظرية سنجد لها مسوغا فنيا كمعادل لما يمكن أن يطلق عليها بقصيدة الميتا- سيرة، خاصة أننا نلمس، حسب جيرار جينيت، نوعا من الميتانصية باعتبارها علاقة نص بنص أخر يتحدث عنه دون أن يحيل عليه بالضرورة، بل دون تسميته.(1)، وبتعبير غابرييل بوري فهي علاقة تقوم على عمليتين متداخلتين قوامهما التضمين والتجاوز(2). هي علاقة الخاص بالعام، إذا ما احتكمنا إلى الهوية الشعرية للكتاب (عام) والسيرة ( خاص)، وهو اختيار جمالي سواء كان عفويا أو واعيا، فإنه يدخل ضمن الرؤية البعيدة للحداثة الشعرية، وقد أفرزته شروط سوسيوثقافية جديدة مكنت القصيدة الحديثة من الاشتغال بالانفتاح على أبعاد جمالية جديدة، لكن هذه المرة بالتفاعل مع السيرة بخلخلة خصائصها، ليس بغرض الهدم، ولكن هو بناء حواري/ نقدي داخل النص، فانتفى بذلك مبدأ الاختصاصات، وانمحى نقاء النوع الأدبي. هي إذن علاقة حوارية ربطت بين شعرية القصيدة وبين واقعية السيرة في تداخل متعال مازج لسمات كل جنس على حدة، ويمكننا القول أنه نوع من الخرق أو الانزياح عن المعيار؛ فبمعزل عن الميثاق الأوتوبيوغرافي الذي يلزم كتاب السيرة بصدقية الشخوص وأحداثها، نجد الشاعر قد تناول شخوصا حقيقية، روى تفاصيلها، لكن برؤية مغايرة تعالت عن أفعالها الحقيقية عبر تناول موضوعي وفني مغاير يخدم خصوصية قصيدته، حيث نجد الاقتضاب في التناول، والتعبير عن المواقف والقناعات الفلسفية داخل منجزاتهم الإبداعية وفق تخييل متماه مع الواقعي بمعزل عن حياتهم الخاصة. كما أننا نجده يتناول سيرة الأمكنة والأشياء، وهو اشتغال شاذ لا تتناوله أدبيات السيرة وسماتها، فخلق بذلك تناصا خلخل مفهوم السيرة داخل القصيدة، كحوار إبداعي/ نقدي حول ثنائية القصيدة / السيرة. إن العتبة التي افتتح بها نصوصه تشهد بذلك « هناك أمكنة نسكنها، وأمكنة تسكننا «، عتبة تحتدم بأسماء الأماكن والأشخاص والأشياء مادية أو معنوية، فهو يروي سيرة أيام الأسبوع التي تغمره دون تسميتها، بل يرقمها من اليوم الأول إلى اليوم السابع، تنكير يشي بصور السأم والضجر ورتابة الوقت التي تطبع هذه الأيام النكرات، فليس ثمة من ضالة يقتنصها سوى تشابه أيام الزمن الثقيل، مع نفسه أو مع أصدقائه في المقهى أو في دروب الحياة، نصوص سبعة بعدد أيام الأسبوع وردت ضمن عنوان « يوميات شاعر أتعبه ظله» حيث لا جديد يذكر بشهادة أخر يوم وهو السابع: (الصباح ضجر .../ الظهيرة تعب .../ المساء انتظار .../ الليل رجل أكمه يفكر لك في دسيسة.../ من يرحمنا من هذه المهزلة...؟). وتتواصل هذه الميتانصية بين القصيدة والسيرة مغلفة بألوان الأمكنة التي زارها في « خرائط في جغرافية العشق» وفي « كتاب السيرة «، فمدن ( أصيلا، شفشاون، فاس، العرائش) ليست في مقوله الشعري مجرد أمكنة للاستقرار أو العبور أو الاغتراب فحسب، بل هي أكبر من ذلك، عابرة للجدران والأشخاص والأحداث، صورها في لوحات لونت بأنساغ العشق والحسرة والضياع، حيث أصيلا ( برتقالة الفصول / فاكهة تدلت من شجر البحر .../ والهواء لم ينضج كفاية). وفاس العريقة بمجدها الذي يضيع شيئا فشيئا مخاطبا إياها ( تجيش مساءاتك بالغياب/ لا أسوارك تحفظ / سير الأنين الساكن فيك.../ ولا الشمس تخلع رداءها / لتحميك من صقيع الآتي...). أما العرائش فهي مجرد ( شروخ الوجه في المرآة) ... فالسيرة الشعرية لهذه الأمكنة لا تقاس عنده بالحيز أو الفضاء الفيزيائي، بل أضفى عليها مقامات كائنات حية تتأثر بعوامل البشر وتؤثر فيهم، تتجدد وتفنى، تمجد وتهمش...عبر استنطاق دلالاتها التاريخية والحضارية والاجتماعية، حوار ميتانصي بين القصيدة والسيرة يستدعي التفاعل الوجداني بين الإنسان والمكان، وعي تفاعلي حافل بالفرح والحزن والحسرة والأمل لرد الاعتبار للأمكنة التي تصنع مواقف الإنسان وتبني ذاته وهويته، هكذا يقلب المعادلة الفنية نحو جدوى تناول سيرة المكان شعرا وفق حساسية جديدة، لم لا؟ كيف لا وقد شبه المدينة في نصه « سيرة المدينة» بامرأة تشيخ، وبشجرة توت تهرم، فيتشفى فيها المارة والبحر والنوارس ( من وراء حجاب/ يختلس المارة / النظر إليها.../ كانت تتعرى ... فتتساقط خصلات من/ شعرها الأشيب/ ومثل شجرة توت/ في خريف عاصف/ تواري سوءتها عبثا/ فيضحك البحر ساخرا.../ وتجهش النوارس بالرحيل.). كما أنه ينتقل بنا نحو سيرة الأشخاص من شعراء قدامى ومعاصرين، أو من أقربائه، أو أخرين بصموا ساحة الفن العربي. ففي قصيدة «معلقات» يستحضر، بكثير من الحنين والتبجيل والأسى أيضا، شعراء راحلين، وأخرين ما زالوا على قيد القصيدة، لذلك يستنكر ضياعهم من خلال عتبة افتتح بها نصوص « معلقات» بقوله ( لماذا يموت مثل هؤلاء الذين يصنعون فينا القدرة على الحياة؟؟)، سؤال استنكاري أريد به تمجيد منجز كل شاعر على حدة بمعزل عن حيواتهم الخاصة والتي عادة ما تتناولها السيرة، إنها سيرة بمذاق الشعر وخصوصياته ومتطلباته، فهو يحاور ويصادي السيرة باشتغال وانشغال مغايرين للمعيار السيري، بما يخدم ويضخ في القصيدة أبعادا جمالية تعصف بقناعات نقدية تؤطر وتحد من انفتاحية النصوص إلى ماراء النص؛ هي نصوص أفردها لهؤلاء الشعراء، فامرؤ القيس ينزاح به عن كونه يرثي ملكا دنيويا بدلالة الجملة الشعرية (عار في صحراء اللغة/ يرثي ملكا ضاع...) ليرفع ملكه هذا إلى مجده الشعري واللغوي. أما طرفة بن العبد فقد انكسر الحلم والألوان على ظله لذلك نجد عنده ( تزهر القصيدة). بينما المتنبي هذا الشاعر الإشكالي فقد مجد سيرته، بمعزل عن نزوعه لسيادة وحكم مكان ما، عبر استعارات كلماته المجلجلة التي عرجت بنا إلى سماء مستحيلة (إمكانية سوس المثقف للرعية) فلا غرابة أن نجد متاعه المعجمي لا يبرح مسامعنا وقلوبنا لحد الآن، حيث (الخيل والليل والأسماء تعرفه/ وكل هوام الأرض/ تلهج بحكمته). ويواصل تمجيد المعاصرين على نفس الشاكلة، فمحمود درويش وأمل دنقل وأدونيس حراس اللغة والقصيدة، روى سيرهم الرمزية التي نذروا ذواتهم فيها للدفاع عن اللغة والقصيدة والهوية والوطن. إنهم حقا صانعو الحياة فينا على الدوام. من جماليات القصيدة الحديثة مجددا أنها استطاعت أن تطعم وتغذي الشعرية العربية المعاصرة بروافد فنية وموضوعية كانت حكرا على النثر والسرد، فأن يتناول الشاعر سيرة الأشياء مادية أو معنوية، فمعناه أنها إشارة جديرة بالتمحيص، لأنها سمات شاذة في أدبيات السيرة وفي ميثاقها المرجعي، فالكائنات غدت كائنات حية تتفاعل وتحس وتؤثر وتصنع المواقف وتبني الذوات تماما كما تفعل بنا سير الشخصيات العظيمة، وقلما ننتبه لذلك، فقط نتناولها شعرا على أنها مجرد مفردات أو تيمات تؤثث فضاء النص، والحق أنها هنا شخوص افتراضية تؤثر في طبائع البشر وتوجهها، فالنص المقطعي « أسلاك شائكة» جاءت نصوصه الداخلية معنونة ومصدرة باسم إشارة (هذا، هذه) لتنبيه إشاري موجه إلى المتلقي ليقف على أهمية هذه الأشياء وضرورتها الحتمية والمصيرية في حياته، بسردية خفيفة ومقتضبة يروي سيرة هذه الكائنات الافتراضية التي تعبر عن علاقة وجدانية بالإنسان من حيث أحلامه وخيباته، ف» هذه الأبجدية» ( من خصرها مشدودة إلى شجر اللغة)، و» هذه القصيدة « (دست يدها في صدري خلسة/ أصابتها طلقة طائشة من جهة البحر../ فانطلقت تنزف / في صحراء اللغة)... علاقة وجدانية تعبر عن روح الهوية الثقافية لتحقيق الذات أولا، ثم ثانيا مواجهة الغزو الثقافي الآتي من وراء البحر. ويستمر في التساؤل حول جوهر الإنسان ما بين الروح والموت ووعد الجنة، تساؤل ليس بالضرورة تشكيكيا، وإنما هو نزوع نحو البحث عن طمأنينة غائبة نلهث وراء باستمرار (أحقا أن الروح/ حقل فزاعات؟؟؟ /أحقا أن الموت/ جبة السماء/ المطرزة بالغياب/ ورائحة الجنة؟؟؟) هي قضايا فلسفية شائكة لا يمل الشاعر من التفلسف فيها كلما اختنق بالواقع وحقيقة الحياة والموت المغلفين بالضياع والغربة والقلق الوجودي، يقول في نص «هذا الموت» ( لماذا يهابنا الموت كلما / زرنا قبور موتانا.../ وأهديناهم باقة ورد ضدا / في النسيان؟). هكذا نخلص أن ديوان « سماء جاحدة « قد عبر عن وعي ميتاناصي راوغ فيه السيرة في الشعر، والشعر في السيرة، تعبيرا منه عن ممانعة وجحود سماء الواقع بشخوصه، والأدب بأجناسه، عن فتح أبواب يطالها الصدأ الإبداعي والنقدي من أجل دينامية نصية مشروطة بتحولات سياقية لابد لها أن تتغير وتستمر، تحولات تتعالى على المواضعات والقناعات خاصة حين نصيخ السمع للأمكنة التي نسكنها وتسكننا، وللأشياء التي نصنعها وتصنعنا، وللأشخاص الذين نبتذل في سرد تفاصيل لا تروم الماورائيات في ذواتهم. هكذا أجدني أقف، وأتمنى ذلك، على نص يكاد يكشف عما سميته بقصيدة الميتا-سيرة. المراجع: Gérard genette. Palimpsestes : La littérature au second degré. Seiul 1986. P 10 Gabriel Bauret. La peinture et son commentaire : La métalangage du tableau littérature. n°27 _ P26