كانت المدينة ترزح تحت سيطرة فصائل من الجيش الحر، بالإضافة لجبهة النصرة وأحرار الشام وفصائل أخرى، منها الجبهة الإسلامية، طبعاً لم يكن هناك أي وجود لشيء اسمه داعش، مع الإشارة إلى انعدام أشكال الدولة من مؤسسات ودوائر، فقد استولوا عليها واتخذوها مقرات، لكنهم لم يتدخلوا في حياة الناس الاجتماعية من ملابس وحرية تجول وعلاقات اجتماعية للنساء والرجال ، هذا الأمر استمر للشهر السادس 2013 ، حيث شاهدت لأول مرة علم داعش الحالي المختلف عن النصرة وأحرار الشام و بقية الفصائل، مع رؤية هذا العلم رأيت وجوهاً ليست كوجوه بلادي المألوفة عندي، فقد كانوا مقاتلين غرباء أجانب وعرب، مناظرهم غير المألوفة وكلامهم الراطن وتصرفاتهم السيئة كانت غريبة تماماً عن مناظر وكلام وشعب سورية، ملامحهم ملامح رجال العصابات، تصرفاتهم تصرفات شذاذ آفاق من القرون ما قبل الحجرية، وعلمنا فيما بعد أنهم منشقون عن النصرة، وأنهم يتبعون تنظيم ما أسموه دولة الشام والعراق الإسلامية، واختصارها ( داعش ) . هبت ريحهم الحاقدة على أهل مدينتي، فعلا نعيق الغربان، وخرجت الأفاعي من جحورها ، بدؤوا بخطف النشطاء المعروفين بوقوفهم مع الثورة العاملين في حقل الإغاثة ومجالات أخرى، دون أن يعترفوا بذلك، ودون توجيه أي تهمة له، لقد وجدت جثثاً لناشطين مرمية بأماكن خارج المدينة، وأيضاً الفاعل مجهول، لكن كانوا على خلاف مع عناصر لداعش، وكانت قد وصلتهم تهديدات من هذا التنظيم، ثم صعّدوا من وحشيتهم القذرة وتصرفاتهم الرعناء، فقاموا في الشهر العاشر 2013 بالهجوم الوحشي على الكنائس وإنزال صلبانها، فخرجت تظاهرة ضمّت أهالي المحافظة مسلمين ومسيحيين ، حملت الصليب، وهتفوا بشعارات مناهضة لداعش، لكن تم تفريقها بإطلاق الرصاص. الكنائس أصبحت مقرات لعناصرهم الذين انفلتوا على الشعب العاجز عن فعل أي شيء، تصوّوا حال كنائسنا الداعية لمحبة وسلام قضى المسيح من أجلها على الصليب كيف غدت مراكز حقد وكراهية وبغضاء، ومنطلق فكر تكفيري إرهابي حاقد، فتحوّل لون جدرانها للون أبيض ادعوا أنّ قلوبهم مثله، لكنهم ناقضوا أنفسهم الكاذبة، وأضافوا إليه اللّون الأسود ليعبّر صراحة عن نفس مريضة وعقل نتن ، ومكان الصّلبان علقوا اعلامهم ، معلنين لجميع ( الكفار) أنهم الموت القادم من الشرق ، وكرّت مسبحة تدخلاتهم الفظة بالناس بمشاركة الفصائل الموجودة في المدينة من نصرة وأحرار وغير ذلك حيث بدؤوا بالتدخل أيضا بمسألة الحجاب ، فقاموا بعد الشهر العاشر 2013 بإيقاف النساء غير المحجبات بالشارع، والطلب منهن تغطية رؤوسهن التزاماً بتعاليم إله هو منهم، ومن أعمالهم براء، طبعاً هذا الطلب كان بطريقة تفتقد أدنى حدود الأدب و اللباقة، لكن من أين لهم تلك اللباقة والأدب والتهذيب ؟! طبعاً كنتُ من بين النساء المستهدفات بأمر الحجاب، وقاموا بمنعي دخول مكان عملي دون حجابٍ ولم يكونوا عناصر داعش كانوا من فصيل آخر . عناصر داعش بأغلبيتهم الأجنبية الدخيلة، و أقليتهم السورية، جالوا بسياراتهم بهدف إجبار النساء على تغطية رؤوسهن، هذا في ظاهر الأمر، أما في باطنه فقد كانت تلك القضية حجة لهؤلاء الداعشيين للتحرش بالنساء، ولم يتوقّف الأمر عند الحجاب، بل تعداه في شكل العلاقات الاجتماعية بين الناس، فكلما رأوا رجلاً مع امرأة كانوا يتحققون من شكل علاقتهما ببعضٍ، ويبادرونهم بالسؤال عن صلة القرابة بينهما ؟ هل أنت محرم شرعي ؟ وإذا لم تكن كذلك ماذا تفعلان معا ؟ حتى السلام بات مثيراً للشبهات . ذات مرّة كنتُ في طريق عودتي للبيت، فرأيت شخصاً أعرفه، توقفت للسلام عليه والاطمئنان عن حاله، فجأة داهمتنا سيارة، وترجل منها شخص ملتحٍ مرتدٍ لباساً أفغانيّاً، وزمجر بجنون وغضبٍ: ماذا تفعلان هنا معاً ؟ أجابه صديقي الّذي كنتُ معه: هذه الأخت جارتي، فأجابه الرجل الملتحي لا يجب أن تقف معها؛ لأنّك غير محرم، ألا تعلمان حرمة ذلك في الدين ؟! فكرر صديقي الجواب: إنها جارتي، حاولتُ التدخل، فأومأ الصديق بعينيه أن اذهبي، لكني لم أذهب . الرجل الملتحي لم يتكلّم معي، وبقي الحوار بين الاثنين، على اعتبار أن صديقي رجلٌ وهذا حديث خاصّ بالرجال، وأنا (ناقصة عقل ودين)، في النهاية استسلمت، ولاحقاً علمتُ أن صديقي قد اعتِقِل لفترة محدودةٍ، ثمّ أطلِقَ سراحه فيما بعد. أوكسجين الحرية بدأ يتلاشى، وعمّ السّواد الأفق، لقد توقّف الكلام في حلقي وتحشرجت الكلمات في فمي، من هؤلاء ؟! ماذا يحدث ؟! ما مآل أمورنا معهم ؟ في عصر أحد أيام كانون الأول سمعنا صوت إطلاق نار واشتباكات شديدة ضارية، لم نعرف ما حدث بداية، لكن فيما بعد تبيّنا أن الأمر مواجهة بين الفصائل المختلفة ضد داعش, قررت تلك الفصائل الاتحاد فيما بينها لطرد داعش فحاصروه في مقره الأساسي، كانت المعارك عنيفة والمواجهات ضارية، ومنزلي لسوء حظه كان في منتصف المسافة بين جبهة النصرة وحلفائها من جهة، وداعش من جهة أخرى . لم يستطع أحد الخروج من بيته، فالرصاص المنهمر جعل السيارات كالغربال المثقب، وجدران البيوت المحيطة ببيتي غدا حالها كحال السيارات، فالقنّاصون تسابقوا على قنص كلّ شيءٍ، وزخرفة ما يجدونه أمامهم برصاصهم الطّائش المجنون، وسط هذا الجو زادت معاناتي، وكنت وحيدة في المنزل، إذ تصادف حدوث هذا مع سفر عائلتي للعاصمة، مع انعدام وجود الحاجات الأساسية لحياة الإنسان من خبز وطعام ودواء، عدا عن الحصار المفروض علينا بفعل الاشتباكات، أصوات الانفجارات على قوتها، وأصوات الرصاص على شدتها وغزارة انهمارها، كلّ ما سبق، وأجواء الخوف والرعب، لكن الأمل بقي ساكناً فيّ، والتّفاؤل عنوان مازال يعرف طريقه لي، وخاصّة مع توارد الأخبار عن انهزام داعش، هذا ما كان يصلني عبر الهاتف الأرضي وأجهزة التلفزة والنّت الفضائي، بداية لم أستطع الخروج من البيت، فمع كل ما سبق، كانت لي رغبة بمعرفة ما يحدث، وزادت رغبتي بالخروج بعدما علمت أنّ هناك جثة في الحارة القريبة من بيتي، حسمت أمري أخيراً وخرجت من البيت دون حجاب، وتوجّهت لأقرب بقالية لشراء حاجياتي، جيراني استغربوا عدم ارتدائي الحجاب، ونبّهوني إلى أن الوضع لم يُحسم بعد، ومازلنا في دائرة الخطر، منطقتي رغم أنها ساحة صراع، لكن الماء والكهرباء لم تنقطعا، على عكس مناطق أخرى . الجثث أصبحت أكواماً في الشّوارع كما توارد لمسامعنا من الناس، ومآذن المساجد طلبت من الجميع التبرع بالدم، واستنفار العاملين في الحقل الطبي، كذلك وجّهت النداء للأطراف المتحاربة للتوقّف مؤقتاً عن القتال، لإغاثة الجرحى وترحيل الجثث من الشّوارع ، ولكي يتزوّد الناس بحاجياتهم، لكن كل نداءات المساجد لم تفعل فعلها، فاستمرّت المعارك واشتدت حدّتها، لتحمل الأيام التالية الخبر السيئ بانتصار داعش على الفصائل الأخرى، وقتها بكيتُ برعبٍ و خوفٍ وألمٍ وما زلت غير مصدقة للأخبار، حتى شاهدتهم بأم عيني من وراء ستارة النافدة الخشبية، وهم يسيرون منتشين بالنصر . بعد خمسة أيام أعلنوا عن انتصارهم في يوم الجمعة, عزلوا أئمة الجوامع واستبدلوهم بأئمة دواعش بعد انتهاء الصلاة، وخلال الخطبة لقنونا مجموعة أوامر، وكان للمرأة النصيب الأكبر منها، فالنساء ملزمات بالعباءة الطويلة السوداء الفضفاضة والخمار، والحشمة، وتحريم التدخين وبيعه وتحريم تداول أشرطة الأغاني وسماعها، طبعاً مع التهديد والوعيد بإنزال أقصى العقوبات لمن يخالف، و تمّ في نفس اليوم تطبيق الحدّ بقطع رأس أحدهم ادعوا انه شتم الرسول (ص) لكن تواردت الأنباء من بعض النشطاء أنه احد عناصر الفصائل المعادية الذي أسر خلال المعركة، كان ما حصل صدمة للجميع ، و صاعقة نزلت على رأسي . هل نحن في سورية أم الحضارة ؟ من هؤلاء الأوباش ؟ ما مآل الأمور ؟ لماذا وكيف ؟ وتتزاحم الأسئلة. لم تأخذ النساء موضوع اللباس على درجة من الأهمية، لكن داعش كانت على العكس تماماً، مباشرة باشرت بالبحث عن النساء غير الملتزمات بمعايير الملابس الإسلامية وفق تفكيرها، و بدؤوا باعتقال النساء بمعونة نساء داعشيات ، كونه حراماً أن يمسّوا امرأة، والمرأة المعتقلة كانت تجلد ومعها ولي أمرها، وربما جلدوا معها الأب والزوج . لقد بدأ مساسل التّعذيب، وسط ذهول الجميع واندهاشهم، خرجتُ من بيتي وأنا أرتدي رداء طويلاً ( مانطو )، وغطيت وجهي بالحجاب، صادفتني سيارة لداعش، حاولتُ الهرب منهم، لكنّي لم أفلح في ذلك، ترجل من السيارة رجلٌ سعودي أو يمني أشعث الشعر واللحية والشرر يتطاير من عيونه، سألني عن سبب عدم التزامي باللباس الشرعي ؟ فأجبته: أنا ملتزمةٌ، فنفى ذلك بغضبٍ، وقال: هذا حجاب شفاف ملفوف على رأسك ولا يجوز، أخبرته أنّي سألتزم، سألني عن ولي أمري، فأجبته إني لستُ متزوّجة، ولا أب عندي ولا أخ، فأراد الاستدلال على بيتي ليراقبني ويراقب التزامي، تجاهلته وتوجّهت للبقالية التي جرى الحوار بيني و بينه أمامها، لم يتزحزح من مكانه، كنتُ أراه من داخل البقالية، والذعر يسكنني، فهو يستطيع بكلّ بساطةٍ أن يدخل و يعتقلني أمام الجميع، لكنّه تحرّك من مكانه كونه سدّ الطريق في وجه المارّة، عندما ذهب خرجت بسرعة من البقالية وهربت لبناء قريب في حارة مجاورة عند معارف لي ، لكن السيارة بقيت تتجول باحثة عني، في هذه الفترة، لبسني الرعب، امتلكني الذعر، وغُمّ على قلبي، وانهارت أعصابي تماماً، فما بين لحظة استيقافي من الداعشي وهربي منه ووصولي لبيتي سالمة منه مجدداً، أحسستُ أن دهراً مرّ عليّ، وليس مجرد دقائق . لم يتوقف أمر اعتقال النساء و جلدهنّ مع أولياء أمورهنّ، فزاد الداعشيون تركيزهم على المدارس بشكل خاص، وقاموا بإشهار أفكارهم على اللوحات الإعلانية عن فضائل النقاب، والنساء درةٌ مكنونة، وجوهرة مصونة، ولن يتمّ ذلك دون النّقاب، وهذا من شرع الدين الإسلامي، في سبيل حفاظ المرأة على عفّتها ! بدأ الداعشيون انتشارهم المقيت كالديدان في كل مكان، وخاصة في محال الأطعمة السريعة في الأسواق والحارات والمشافي، ومقاهي النت، ففصلوا بين النساء والرجال، وعند حصول أي مخالفةٍ يُحاسب مالك المقهى، في نفس الوقت بثّوا سمومهم في أوساط الشباب والصبايا، فبسبب عدم وجود شبكة نت كنا نستعمل الانترنت الفضائي، في مقاهي النت جرى الاحتكاك مع هؤلاء الداعشيين، فمن جهةٍ كانوا يتواصلون مع أهلهم ويدعون أصدقاءهم للمجيء حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، و من جهة أخرى يحاولون التغلغل بالناس، كانوا من كافة أصقاع الأرض من جميع البلدان العربية والأجنبية التي من الممكن أن تخطر بالبال ( كنداالصينفرنسابريطانيا كازاخستان الشيشان تركيااسترالياالنرويج المغرب الجزائرتونس ليبيا مصر السعودية العراق اليمن الأردن الخ .... )، ومشهد الداعشيات وأطفالهنّ أصبحت عادية، ومهمّة المجاهدات الداعشيات إقناع الفتيات الزواج من المجاهدين الداعشيين، و خصوصاً المهاجرين واعتبار ذلك الزواج تقرباً من الله !!! حيث إن الأجانب أطلقوا على أنفسهم لقب ( مهاجرين )، ودواعش سورية سمّوا أنفسهم ( أنصار ) أسوة بالرسول (ص) عندما هاجر من مكة للمدينة وما أبعدهم عن هذه الهجرة، أما نحن السوريين العاديين فنحن جميعاً مرتدين صحوات كفار بحاجة لإعادة تعليمنا أصول الدين والأخلاق، و تلكم الداعشيات كنّ مبرمجاتٍ على كلّ الأسئلة المتوقعة، والإجابات كانت دائماً جاهزةً ردّاً على أيّ تساؤل، ونقطة البدء كانت في المدارس، فبدأ الوعظ و الإرشاد، مع إمكانية اعتقال المديرة أو المدرّسة، والفتاة المخالفة في حال التهاون بموضوع اللباس، طوال هذه كانت تراودني فكرة الرحيل، فالأمر أصبح لا يطاق في ظلّ القمع والخوف والظلم والممارسات الوحشية الهمجية، لكن هذه الفكرة كانت صعبةً عليّ، كيف لي أن أرحل و أترك عملي مصدر رزقي و معيشتي ؟! وخصوصاً أنهم بدؤوا ا بالاستيلاء على المنازل الفارغة دون وجه حق، والتهم دوماً باطلة وجاهزة، ومنعوا حتى من أن يسكن أقارب محتاجين في المنزل . عشتُ حالةً نفسيّة مزرية مقيتة مؤلمة لا توصف، لا أحد يستطيع فعل شيءٍ أو يساعدني في فعل شيءٍ، الجو الآن ذكوريٌّ داعشي مأساويٌّ، فماذا سيحدث بي ؟ لا قانون ولا دولة ولا نظام . زادوا من وقاحتهم وسفالتهم وأعلنوا رغبتهم بالزواج من فتيات منطقتي، فانتحرت فتاتان بعد إجبار أهليهما على الزواج من داعشي، طبعاً هاتان حالتان موثقتان إزاء عدد من الحالات غير الموثقة، لقد التقيت في مكان عملي بعائلات الداعشيين، وحدث مرّة أن قام داعشي أردني الجنسية أن اتهمني بالفجور والفسق لأن جزءاً بسيطاً من رقبتي قد ظهر بشكل غير مقصود، وكان سيطلب لي (هيئة الحسبة) الشبيهة ب (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) السعودية، لكن تدخّل مديري في العمل حال دون ذلك، وطوي الخلاف، تدّخلهم في أمر اللباس كان مريعاً سافلاً، فلا يجوز أن يبدو رسغ القدم إن كانت المرأة تلبس بنطالاً، بل إن العباءة تغطي كل شيء، وحتى لو داست المرأة على العباءة ووقعت أرضاً .. كلّ ذلك حلالٌ .. حلالٌ لأنّه شرع الله . زاد الحصار والخناق، فرضوا دفع الجزية على من تبقى من السكان المسيحيين, ومنعوا الرجال من العمل بمحال الألبسة النسائية، واشترطوا وجود امرأة لتبيع، وقاموا بإزالة التماثيل الخاصة بعرض الملبوسات ( المانيكانات )، و مع فرضهم للعباءة الطويلة الفضفاضة أمروا بتغطية العينين واليدين وارتداء الدرع وهي قماشة سوداء تشبه الملاية تغطي الكتفين والأوراك فوق العباءة، وانتعال الحذاء الأسود حصراً، وحظروا العباءة المطرزة أو المنقوش عليها، و قاموا بجلد فتاة بالشارع لضيق عباءتها، ومع اقتراب شهر رمضان صدرت أوامرهم ( القراقوشية) بعدم خروج المرأة من بيتها إلّا للأمر الضروري، و تحديد هذا الأمر الضروري يعود لهم وحدهم، فغدا الحال دواب أفضل منّي أنا المتعلّمة المثقّفة الطّبيبة المهندسة المعلّمة المحامية . الداعشيون يتجولون في كلّ كان، وعند حلول وقت الصلاة تجد الناس يصلون في الشارع؛ فالمساجد لم تعد تستوعب الأعداد الهائلة من النّاس المجبرين على إغلاق محالهم التجارية والصلاة تنفيذاً لتعليمات داعش، لكن بالمقابل يبقى عناصر داعش في مقاهي النت يتحاورن عبر السكايب مع معارفهم. أسوأ منظر كان منظر أطفال بأعمار صغيرة، في السادسة، وحتى بعمر أصغر، وهم مجندون عندهم ويحملون السلاح، حتى كنتُ أتمزق على أطفالهم عندما أرى طفلاً بعمر أشهر تحمله الداعشية وتحمل البندقية، وفوهتها الأميركية الصنع عند رأس الطفل !!! أو ممكن أن تضع حزاماً ناسفاً وتحمل الصغير الذي من الممكن أن يلعب بصمام الحزام، وقد أنشؤوا معسكراً خاصاً للأطفال، غسلوا عقول الشباب وأدمغتهم بطريفة ممنهجة مدروسة منظمة للأسف الشديد، وبآلة إعلامية قوية وتمويل كبير بالمال والسلاح، الحقيقة كانت هناك تفرقة بين الدواعش المهاجرين (الأجانب) والأنصار (السوريين ) فالمهاجرون كانت لهم مكانة أعلى، وحتى بثوا بين الناس أنهم أفضل وأصدق من الدواعش السوريين، وأن كل التجاوزات والأخطاء والعنف منهم، مع أن العكس هو الصحيح، أغلبهم مجرمون سابقون مرتزقة والقلة القليلة من المغرر بهم أن وجدوا أصلاً. وضع الكهرباء كان مزرياً، والغلاء الفاحش عمّ ، لا أمن ولا أمان، فبركات وجود داعش بدأت في الظهور، فإضافة لما سبق أصبحت ظاهرة قطع الرؤوس و الصلب أمراً طبيعيّاً معتاداً، والتّهم متنوعة متعددة من شتم الذات الإلهية أو الرسول محمد (ص) أو الزندقة أو الخروج عن تعليمات داعش باعتبارها دولة الخلافة، حرّموا التبغ، لكنهم سمحوا بتهريبه إلى دخل حدود ولايتهم الإسلامية، و الطاقم العامل في المشافي أصابه حظّ من بركات داعش، فأجبروا النساء على ارتداء النقاب، مع الطبيبة بحاجةٍ ماسّة لرؤية المريض لتتبين مرضه وتقدّم له الدواء الناجح، وقاموا بضرب أرجل من لا تلبس جوارب سوداء بخيزرانةٍ طويلة، تطبيقهم للحدود لم يكن صحيح أبداً، ولا يستوفي الشروط، طبعاً هم يكفّرون كل من يتعارض مع شريعتهم الخاصة، يأتون بأحاديث غريبة عجيبة، عناصرهم لا يطبقون عليهم ما يطبق على البشر، طبعاً هم جنود الخليفة (خليفة الله على الأرض ) إلا في حال محاولة الهرب منهم . إن قرار الخروج خارج المنزل إلا مع محرم لم يطبق كلياً، لكن النساء كنّ يخفن الخروج في وسط هذا الجو المقيت المؤلم والقمع والرعب، فالواحدة لا تعلم إن خرجت هل ستعود لبيتها مجدداً أم سيتم اعتقالها لسبب ما، لذلك كان أمر الخروج لسبب ضروري فقط ، لكن تمّ منع السفر خارج المحافظة إلا مع محرم حصراً، فكلّ مكان خارج سيطرة داعش (بلاد كفار) والسفر يكون لأسباب قاهرة جداً كالمرض مع توافر الوثائقيات المثبتة، مع اشتراط عمر المرأة الكبير، فالفتيات، وخاصة العازبات ممنوعاتٌ من السفر لحمايتهنّ وفقاً لمزاعم داعش، فيما بعد مُنِعت النساء من السفر نهائياً، وحتى لو مع محرمٍ إلا ضمن أراضي الخلافة فقط إلا بحالات المرض الشديد جداً . الآن لا مدارس في المدينة، وخاصة للبنات، وقبل ذلك منعوا تدريس بعض المواد (الفلسفة والاحتمالات بالرياضيات) وحظروا الدروس الخصوصية، والأطفال كذلك لا مدارس لهم، ووعدت داعش بتأسيس مدارس يبثّون من خلالها سمومهم ليقضوا بذلك على جيلٍ سابقٍ ، وينشؤوا جيلاً معبّأ بأفكار الحقد والجهل والموت. هذه القوانين المجحفة بحق المرأة أتاحت لرجال العائلة أن يتسلطوا بصورة أكبر بعد مجيء داعش، فتضخّمت الذات الذكورية على حساب ما أصاب النساء من ظلم وإجحاف وجور، فتحجّم الدّور النسائي بشكل غير مسبوق، وقد رأيتُ الكثير من حالات التسلط من قبل الأخ أو الزوج لم تكن تحدث قبل أن ننعم بوجود داعش في ظهرانينا ، فدور المرأة الآن يتلخّص بتنفيذ الأوامر الذكورية ، وإلا سيكون التعنيف والضرب والاقتصاص منها عقوبة لها. شعرت برغبة كبيرة بالموت، وخاصة أنا هنا كنت قبل أشهر أنادي بحقوق المرأة والمساواة !! لكن أي مساواة الآن ؟ وأي حقوق؟ أصابني فصام، كيف سأعيش وأنا من تربيت ببيئة منفتحة مثقفة، ومُنحت الحرية والثقة، كبرت على كتب جبران والماغوظ ونوال السعداوي وإليزابيث الليندي وهيمنغواي ومكسيم غوركي وأشعار درويش ونزار قباني ولوركا والخ ...لكن كانت هده الكتب عزائي الوحيد وزادي الذي ساعدني على المقاومة والصمود . لذلك قررت أخيراً الرحيل إلى المجهول، فهو أفضل لي من عيشة الذل والمهانة والرعب؛ لأنه ممكن من أجل كلمة أن يُقطع رأسك غرباء احتلوا أرضنا وسرقوا خيراتنا وأجبرونا على قوانينهم المتخلفة .. مع امتلاكنا أمل بالعودة يوماً ما بعد أن يرحل طيور الظلام ..مع أنهم صادروا منزلنا وممتلكاتنا بحجة إننا نسكن في دمشق بلاد الكفر وأنه علينا العودة والعيش والعمل معهم .