بحس نقدي دقيق يتعقب الوثيقة مسائلا إياها بدقة المؤرخ و بحس الفنان المبدع، يقدم المخرج و الباحث الأستاذ بوشتى المشروح بشريطه الوثائقي المطول "ورثة لوميير" (2015)، عملا سينمائيا يمضي للنبش في أصول السينما بالمغرب، معيدا النظر، بصرامة كبيرة، في ركام المقاربات المتداولة حول هذه الأصول. بذلك يخوض بوشتى المشروح مغامرة سينما تترصد جوانب من حقيقة الفن السابع ببلادنا من خلال الكتابة السينمائية نفسها. كون الفيلم يقوم بشكل من الأشكال، على استراتيجية للتقعير الفيلمي mise en abyme ، أمده ذلك بخصوبة و انفتاح كبيرين. التقعير يجعل النص الفيلمي يتصادى مع مستويات سينمائية متعددة. المستوى التاريخي (بدايات السينما بالمغرب). المستوى الفرجوي (القاعات السينمائية بمدينة فاس). المستوى الثقافي الجمعوي (الأندية السينمائية بنفس المدينة)، إلى جانب و في تداخل مع مستويات أخرى متنوعة، كالمستوى الاقتصادي و الاجتماعي و السيكولوجي دائما في اتصال بالنواة السينمائية. متى بدأت السينما بالمغرب؟ في ما يخص البدايات، يطرق المخرج قنوات جديدة جعلته يقف على حقائق جديدة. من خلال اللقاء المباشر مع حفيد غابرييل فيير (الذي يُتفق على أنه من أدخل السينما إلى المغرب)، و الحوار معه، و من خلال مراسلة معهد لوميير، تمكن المشروح بعد ثلاث سنوات من البحث الصبور و المتأني، من تبديد أخطاء متداولة في الفيلموغرافيا المغربية، من قبيل أن أول شريط سينمائي تم تصويره بالمغرب هو شريط «راعي الماعز المغربي» الذي نسب إلى الأخوين لوميير. توصل المشروح إلى أن الأخوين لوميير لم يقوما بزيارة المغرب، و لا يتوفران على أي فيلم بهذا العنوان. على أنقاض هذه المعلومة الخاطئة الشائعة، أثبت المخرج أن أول فيلم تم تصويره بالمغرب كان على يد الأمير ألبير الأول حاكم موناكو سنة 1897. كما أثبت بوشتى المشروح من خلال وثائق مؤكدة أن أول مغربي وقف وراء الكاميرا لتصوير فيلم سينمائي هو السلطان المولى عبد العزيز. تراجيديا القاعة السينمائية: لا يقف المخرج عند هذا المستوى الأركيولوجي المتعلق ببدايات السينما بالمغرب، إذ سرعان ما ينقلنا إلى مستوى آخر هو الذي كان منطلقه في بداية الأمر، هو مستوى القاعات السينمائية بمدينة فاس. في هذا المستوى أيضا يقدم كشوفات في غاية الأهمية، انطلاقا من قاعة سينما النواعريين التي كانت أول قاعة سينمائية بمدينة فاس، و التي اندثرت كلية و طواها النسيان. يحسب للمشروح في هذا المستوى أنه نقل إلى الكتابة السينمائية ما كان مجرد ذكريات شفوية مشتتة. المصير التراجيدي لسينما النواعريين بفاس هو نفس المصير الذي ستعرفه عشرات القاعات السينمائية الأخرى بنفس المدينة. هكذا يكون التأريخ للسينما بالمغرب من هذا المنظور شكل من تاريخ الخراب و الانحدار. ننطلق من البداية الأوج لا لكي نتقدم في الزمن نحو الأرقى. الزمن السينمائي في الشريط هو زمن متقهقر. زمن الفاجعة المتمثلة في الإقفال المتتالي للقاعات السينمائية و وأد الفرجة السينمائية بالتالي. بذلك لا تكون القاعة السينمائية مجرد مكان عيني واقعي، بقدر ما هي فوق ذلك و بالأخص استعارة لمجتمع بكامله يتفكك تدريجيا و يضمحل بفعل التغلغل التدريجي للتكنولوجيات الحديثة. لذلك ترتبط القاعة السينمائية في ذهن معظم شخصيات الشريط، بالقيم الإنسانية النبيلة و الفن الراقي و التضامن و التآزر، فيما يتصل التقهقر بالتفسخ الأخلاقي و الانحلال الاجتماعي و الكساد الاقتصادي و ما إلى ذلك. بين الوثيقة و التخييل الفيلمي: يثير فيلم «ورثة لوميير» بحدة انطلاقا من النص الفيلمي، مسألة الأجناس الفيلمية. «كل فيلم هو فيلم خيال» هذا هو المبدأ.. لذلك فإن الفيلم – رغم طابعه الوثائقي – يتضمن جل مقومات الفيلم الروائي. أو إذا شئنا القول هناك في الشريط عبور سلس بين الوثيقة و الخيال..سفر بين عالمين متصلين ببعضهما البعض. شخصية «البراح» السينمائي في الفيلم هي نموذج لهذا السفر الممتع بين كيانين. فالرجل، و هو من مواليد سنة 1916، بقدر ما هو شاهد على التاريخ، تاريخ قاعة سينما «النواعريين» تحديدا، يؤدي دور شخصية سينمائية ممتعة و منعدمة الوجود في زمننا الراهن. الرجل حباه الله بذاكرة خارقة تسعفه في استحضار التفاصيل الدقيقة لزمن ولى كأنه يراه أمامه في اللحظة الراهنة. بينما يثبت السينمائي عن طريق البحث في الوثائق أن تلك الذكريات موثوق منها. على مستوى آخر يدرج المخرج بين ثنايا شريطه مجموعة مشاهد من أشرطة روائية شكلت مخيالا سينمائيا لجيل بكامله. مشاهد من أشرطة هندية و عربية كلاسيكية و أفلام الوستيرن و أفلام الكاراطي التي وسمت العصر الذهبي للفرجة السينمائية، فضلا عن أفلام تتناول تيمة السينما في السينما كما هو الأمر بالنسبة لشريط «سينما باراديزو» الذي لا يخلو حضوره من دلالة، خصوصا أن الفيلم يجعلنا نلج تلك الأماكن المعتمة الخاصة بالعرض الفيلمي، راصدا معاناة أشخاص عاشوا المعاناة بعمق، و أدوا ثمن هذا التقهقر المرير للقاعات السينمائية. و هو ما يذكرنا على سبيل المثال بشريط «هذه الأيادي» للمخرج حكيم بلعباس حيث تحضر القاعة السينمائية حضورا قاسيا شاهدة على قسوة مآلات لا قبل لها بها. لكن فيما تنهار القاعة السينمائية بكل ما يحيط بها من قيم و رموز متعددة، فإن السينما و عشق السينما يظلان حاضرين بقوة يتحديان الزمن. على الرغم من أزمة القاعات تلك، تنفتح السينما كإبداع إنساني على أشكال و قنوات فرجوية جديدة، و إن كانت الحاجة تظل ملحة لإعادة الاعتبار للقاعة السينمائية بوصفها عماد هذه الفرجة، كما تجسد ذلك من خلال الملتمس الذي ينوي المخرج توجيهه للجهات المعنية قصد جعل يوم 22 أبريل يوما وطنيا للقاعات السينمائية، بمناسبة مرور 100 سنة على صدور القرار الوزيري القاضي بتأسيس ضوابط لمراسح التمثيلات السينماتوغرافية ، الذي تم الحديث عنه في فيلم «ورثة لوميير». ختاما يمكن القول إن بوشتى المشروح، هذا الفتى القادم من حركة الأندية السينمائية بالمغرب، و المشبع بثقافة سينمائية تنطلق من هاجس النهوض بالسينما الوطنية، و المراكم لثقافة تاريخية نقدية تجسدها كتاباته المتميزة، فضلا عن مساره الحافل في مجالات التكوين السينمائي، تمكن بهذا الشريط الوثائقي من تحقيق إضافة لا شك أنها تغني الفيلموغرافيا المغربية، في انتظار أعمال أخرى لنفس المخرج تستفيد من المجهود الكبير الذي تم بذله في هذا العمل.