أنطلق من قناعة راسخة شكلها تاريخ مشاهدتي لسينمات مختلفة وأفلام متعددة أو حتى ما يشبه الأفلام، وهي القناعة التي تجعلني أومن بالقطع أن موت السينمائيين نوعان، نوع يتأبط أفلامه في كفنه فتموت سينماه ، ونوع آخر لا يشكل رحيله سوى إنبعاتا جديدا ليظل حاضرا رمزيا من خلال إرثه الفيلمي كمؤشر على خلد سينماه، التي تصبح في لحظة ما من تاريخ السينما مرجعية للدراسة والتناص ، من طينة سينما المخرج الياباني أكيرا كيروزاوا، هذا المخرج الياباني الذي استطاع أن يعطي للمتعة البصرية إطارا متفردا بشعريته المتميزة بسحرية الفضاء في علاقته بفلسفة إنسانية، تجعل من مصيري الكائن والطبيعة مرتبطان حد الذوبان،وهو ما جعل الناقد السينمائي « الدونا سوني» يقر بانتماء كيروزوا الى العالم برمته وما شريطه (درسو أوزالا) سوى نموذجا من النماذج التي حملت المخرج في بعض القواميس السينمائية من درجة العبقرية السينمائية إلى منزلة الأولوهية السينمائية، وهو تصنيف لا غلو فيه ، بل غير قابل للشرك به حتى ، نظرا للمسته الفنية الخاصة التي بصمت قرنا من السينما قبل رحيله عن سن تناهز الثانية و الثمانين. أنطلق من قناعة راسخة شكلها تاريخ مشاهدتي لسينمات مختلفة وأفلام متعددة أو حتى ما يشبه الأفلام، وهي القناعة التي تجعلني أومن بالقطع أن موت السينمائيين نوعان، نوع يتأبط أفلامه في كفنه فتموت سينماه ، ونوع آخر لا يشكل رحيله سوى إنبعاتا جديدا ليظل حاضرا رمزيا من خلال إرثه الفيلمي كمؤشر على خلد سينماه، التي تصبح في لحظة ما من تاريخ السينما مرجعية للدراسة والتناص ، من طينة سينما المخرج الياباني أكيرا كيروزاوا، هذا المخرج الياباني الذي استطاع أن يعطي للمتعة البصرية إطارا متفردا بشعريته المتميزة بسحرية الفضاء في علاقته بفلسفة إنسانية، تجعل من مصيري الكائن والطبيعة مرتبطان حد الذوبان،وهو ما جعل الناقد السينمائي « الدونا سوني» يقر بانتماء كيروزوا الى العالم برمته وما شريطه (درسو أوزالا) سوى نموذجا من النماذج التي حملت المخرج في بعض القواميس السينمائية من درجة العبقرية السينمائية إلى منزلة الأولوهية السينمائية، وهو تصنيف لا غلو فيه ، بل غير قابل للشرك به حتى ، نظرا للمسته الفنية الخاصة التي بصمت قرنا من السينما قبل رحيله عن سن تناهز الثانية و الثمانين. لقد فجر أكيرا كيروزاوا من داخل السينما المفهوم الضيق للهوية، بمعنى الانتماء الجغرافي للفكرة و الموضوع، من خلال قدرته على صنع الفيلم الشمال الذي يخاطب الإنسان ، و استطاع بذلك كما تؤكد العديد من الدراسات، تجاوز الحدود الضيقة للفيلم القطري، بصنع أفلام تهم الغرب كما تهم اليابان، أي تلك الأفلام التي تهم الكائن في كل مكان، من خلال اختيارات فنية و فكرية جديدة من قبيل المزج بين التقاليد الفيلمية القديمة مع اللمسة الغربية، و القدرة على محاكاة سينما العالم و ربما التأثير في أكثر من مخرج سينمائي عالمي من مثل المخرج (ستيفن سبيلبرغ) الذي صرح ذات مرة قائلا « لقد أفتح كوروساوا بصيرتي و فتق مخيلتي، و ألهمني كثيرا في معظم أعماله، إنه شكسبير السينما»، لقد أربك كيروزاوا حقيقة إدراك الإنسان لذاته من منطلق الأسئلة المقلقة حول الحياة، تصل في لحظة ما إلي ما يشبه الألغاز، وهو ما عبر عنه «جيل دولوز « بالقول (إن كيروزاوا ميتافيزيقي بطريقته الخاصة، إنه يبدع مساحة أكبر للشكل ، فهو يتجاوز الوضع في أفق وضع السؤال ، ويجعل معطياته تسمو لتصحيح معطيات السؤال و ليس الموضوع)، قد تكون هذه الوصفة هي التي سمحت باكتسابه لوضعية استثنائية خاصة ، من خلالها ربحت السينما اليابانية و وضعيتها الاعتبارية، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، حيت ساهمت أسماء من قبيل «كينجي ميجوشى» و» ساجيروأوزو» وسوهي امامورا» في إثارة انتباه الغرب ، الذي أصبح يبحث عن معرفة ثقافة هذا التنين السينمائي الصاعد ، و بالظبط في سنة 1951 بعد تحفة كيروزواوا شريط (راشمون)، الذي وقع من خلاله على الانتماء لسينما يابانية جديدة ، يتفرد من خلالها عن مجايليه أو من تأثر بملامح من كتاباتهم ، أو تقاسم معهم بعض الخصوصيات بنظرته للحياة و التي تتقاطع فيها المعاناة بالتفاؤل بالأحلام، كنوع من سيرة ذاتية جماعية تتجاوز نرجسية النظرة للذات الفردية ، بتعميم التأمل في الذات الكونية بهمومها و طموحاتها و انكساراتها. أكيراكيروزاوا: جادة الأمل و الانكسار ألفنا في دراسة أي تجربة سينمائية عدم الفصل بين الإبداع و شروط انتاجه الفكرية و السياسية، لأننا نعي أن العرف السائد، هو تجاوز المتحكم في إنتاج الصورة بشروطه القاسية للإبداع بل نفيه و توجيهه ، حتى أصبحت ما يشبه هذه القناعة بمثابة بديهية لابد من أخدها بعين الاعتبار أثناء اية قراءة نقدية أو تحليل ، لكن حدود صلاحية هذه البديهية تفسدها تجارب ثورية قلبت أطرف المعادلة ، لأنها أدركت أن رأسمال الإنتاج السينمائي جبان ولا ملة له سوى أرقام الشباك ، وهي حالة العديد من عباقرة السينما من قبيل شارلي شابلن، ستانلي كوبريك ........و اكيرا كيروزا، هذا الاخير الذي ظل معتكفا و زاهدا في نهجه السينمائي دون مساومة ، حتى وإن فرضت المقاومة عليه محاولة الانتحار، والتي جربها كيروزاو في لحظة يأس و انكسار، ليخرج منها أكثر إصرار على إهداء العالم تحفته السينمائية (درسوا وزالا)، نهج لخصته إحدى الكتابات بالقول (لقد ظل كيروزاوا متلددا بالعالم الأدبي و استيعابه لجعله يابانيا، وبلغة بصرية خاصة قوامها التكوين البصري وجمالية السينما ، وظلت افلامه رسائل حقيقية موجهة للإنسان من أجل الحفاظ على البيئة ، ومن أجل ترك النزعة الذاتية المغلفة بالأنانية الزائدة ، ومن اجل استحضار أحلام الذات و التأمل فيها)، لقد كان كيروزاوا واعيا تماما بأن حقن أفلامه بجرعة من التشاؤم كفيلة بصدمة الضمير الإنساني مثل أي صعقة كهربائية طبية تعيد الكائن للحياة ، و أعني هنا التفكير، بدليل قوله « أنني أريد أن يفكر الناس في كيفية تفادي الكارثة». الاهتمام بالأدب إن المتأمل في أفلام كيروزاوا سيجد تداخلا رفيعا بين حياته التي رأت النور سنة 1910 بطوكيو، مع تطور فلسفته السينمائية، إد تبدو إنتاجاته الأولى بمثابة انعكاس لنشأته وسط أسرة تنحدر من سلالة الساموراي أو المحاربين القدامى المحترفين ، و شريطه (الساموراي السبعة) - الذي اقتبسته أكثر من سينما عالمية منها السينما العربية من خلال الشريط المصري (شمس الزناتي)- شاهد على ذلك ، فهم هذا التأثير يدفعنا أيضا لفهم التأثيرات العميقة في شبابه على حساسيته الجمالية ، خصوصا حضور التشكيل في تكوين جمالية الصورة ، و اهتمامه القوي بإعداد المناظر و استخدام الألوان ، كانعكاس طبيعي لعشقه للرسم منذ صغره ، واشتغاله في فترة من حياته كفنان تشكيلي يبدع بالريشة والألوان ، وذلك قبل التحاقه بمجموعة يابانية لدراسة الاتجاهات الجديدة في الفن ، الشيء الذي قد يكون فاعلا في توجهيه للاهتمام بالأدب خصوصا الأدب الروسي ، بهدف تجاوز انغلاق الثقافة اليابانية بأفق مفتوح على ثقافات أخرى من خلال الأدب،و هو ما سينعكس في العديد من أعماله السينمائية ، مجال السينما هذا الذي سيدخله كيروزوا تحت ضغط المسؤولية ، اتجاه والديه بعد انتحار اخيه الأكبر كما يبدو ذلك في مذكراته (الهدوء الفكري)،لقد كان دخوله السينما صدفة حيث بدأ خطواته الأولى سنة 1936 كمساعد مخرج و كاتب سيناريو ومصمم إعلانات سينمائيه و لأن للصدفة أحكامها ، فقد وجد نفسه مساعدا للإخراج في بعض المشاهد للأب الروحي للسينما اليابانية (ياماموتو)،الذي كان له تأثيرا كبيرا على وعيه السينمائي ، وهو ثاثير لا يضاهيه سوى افتتانه بأسلوب المونتاج عند (يامسان) و الذي يعتبره كيروزاو معلمه الأكبر ، مبررا ذلك بالقول ( تعلمت أشياء كثيرة حول المونتاج من يامسان، لكن أهم ما تعلمته هو النظر إلى عملك بنظرة موضوعية). لقد أفصح كيروزاوا منذ شريطه الأول سنة 1943 (شانشيروسوجاتا) عن لغة سينمائية خاصة ومثيرة ، لكن البداية التي ستوجه بوصلة العالم نحو هذا المخرج ، و تغير مسار الملاحظة من مجرد فضول إلى درجة الاهتمام الفعلي، ستحقق بفضل شريط ( راشمون) الذي سينقل السينما اليابانية لخريطة السينما العالمية، بنمحها جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية سنة 1950 ، وهو الشريط الذي تساءل حوله الراحل مصطفى المسناوي قائلا (ألم يكن الفيلم بالمناسبة مؤشرا قبليا على تحولات المنهزم إلى قوة اقتصادية ؟) الأهم في شريط «راشمون» كما لاحظ البعض ذلك و قبل الطرح هو أدوات التعبير ، التي أكدت على خلق مدرسة سينمائية جديدة قائمة الذات،قوامها الاعتناء بالتفاصيل الدقيقة داخل الكادر ، وبتشكيل الصورة مع إعطاء الفضاء و اللون مساحات ساحرة ، لكن بتدبير شخصيات فيلمية مأزومة لكنها حالمة ، لقد كان كيروزا مدركا وواعيا بزجه بشخصياته في سوداوية درامية مبررا ذلك بالقول (الشخصيات التي تعرضها أفلامي تحاول العيش باستقامة،و الاستفادة من الحياة التي وهبت لهم لأكثر حد ممكن،شخصيا أومن بان على المرء أن يعيش بصدق ، و أن يطور قدراته إلى أقصى الدرجات ، اولئك بنظري هم الأبطال الحقيقيون )،هذا الصدق في علاقته بأبطاله سيظهر في شريطه ( الساموراي السبعة )،و الذي بفضله طوع من خلاله كيروزاوا الإنتاج الياباني الذي كان يقف موقف المتحفظ من تجديده السينمائي ، بتمويله الشريط ، بأضخم ميزانية حتى ذلك الحين ، شريط لم يقاوم سحره المخرج «جورج لوكاس « ليعترف قائلا (بعد مشاهدتي لشريط الساموراي السبعة ، تغيرت حياتي إلى الأبد ). في حدود 1964 كان أكيرا كروزاوا قد أبدع ما يناهز 28 شريطا سينمائيا معظمها استأثر بالاهتمام النقدي ، لكنها و بكل جماليتها و عنفوانها ، كانت تضمر في تفاصيلها نوعا من السوداوية ، ربما كرد فعل سيكولوجي على مخلفات الحرب العالمية الثانية من جهة ، و انتحار أخيه الأكبر من جهة اخرى ، مما يجعل الإحساس بالموت في أفلامه إحساسا غريبا بمعنى الألفة معه ، ليس كحقيقة مطلقة فقط ، بل كعبث سريالي ( مفصلا بانسيابية رحبة) كما عبر البعض عن ذلك ، وهي الانسيابية التي ستستهويه ليتقمص في لحظة يأس دور أبطاله التراجيدين الباحثين عن الموت من خلال محاولة انتحاره الفاشلة. الإعجاز البصري لقد كان لشريطي (راشمون) و (الساموراي السبعة) دورا أساسيا في تحقيق الإعجاز البصري في السينما و إبهار عشاق السينما ، لكنهما لم يكونا بالنسبة للمخرج على نفس الأهمية من شريط (اللحية الحمراء) المأخوذ عن رواية ل»ياماموتو»، على أساس انه الفيلم المرجعي في تطور و عيه السينمائي بدليل قوله ( إن كل أفلامي قبله تختلف عن التي جاءت بعده ، لقد كانت نهاية مرحلة و بداية مرحلة جديدة)، مرحلة جديدة تتداخل فيها تراجيديا سوداء بأفق مفتوح على الأمل،بالأخص بعد فشل شريطه «دود سكادن» تجاريا ، مما قد يكون دفعه لمحاولة الانتحار الفاشلة ، بعد أن احس بأنه لن يتمكن من الاستمرار في المهنة الوحيدة التي يعشقها و يحبها ، و الواقع ان هذا الفشل لم يكن سوى جزءا يسيرا من معانة أشد قسوة من مجرد فشل شريط واحد ، فأكيرا كيروزاوا ظل يعاني من حصار مقصود من طرف شركات الانتاج اليابانية ، ليس بسبب ضخامة إنتاجاته ، بل لاتهامه بتخريب الثقافة اليابانية من الداخل ، نظرا لما عرف عليه من تأثر بالسينما الطليعية الفرنسية من جهة ، ومن اتجاهه للاقتباس من أعمال روائية ومسرحية لبعض الأدباء من قبيل « دستوفسكي»، «شكسبير» و «مكسيم غوركي» من جهة أخرى ، لقد كان ذلك كافيا لاتهامه بكونه ليس يابانيا بما فيه الكفاية ، وهي تهمة تقترب من تهمة الخيانة لثقافة البلد مع يستتبعها ضمنيا من خيانة الهوية ، لكن كيروزاوا ظل ملتحفا بالقناعة التي تفيد بان الاعتماد على الأدب العالمي ينفع اليابان كما ينفع غيرها ، لقد كان صراعه مع محيطه السينمائي في حقيقته الخفية ، تمظهرا صريحا و علنيا لصراع داخل السينما اليابانية ، بين التقليد و العصرنة التي كان أكيرا كيروزاوا أحد روادها. لم تكن محاولة الانتحار سنة 1971 سوى لحظة ميلاد جديد و انبعاث أقوى في مسيرته السينمائية ، وبإصرار فولاذي على الارتباط بالأعمال الأدبية الكبر كما سيتجلى ذلك في شريط «ران» المأخوذ عن مسرحية « لير» لشكسبير، لقد انتفض الغرب لحماية هذه القدرة التعبيرية و صيانتها من الهزيمة والاندثار ، من خلال مساعدة عمالقة المجال السينمائي لكيروزاوا على انتفاضته الجديدة من خلال اشرطة « درسواوزالا» ، «ظل المحارب»، «كاجيموشا»، «ران»....لم تكن مساعدة أسماء من قبيل كوبولا- ستيفن سبيلرغ- انطونيوني-سكورسيزي- أو المنتج الفرنسي» سيرج سليبرما» تندرج في محاولة تطويع الغرب لثقافة الآخر من خليل تسخير المال ، لأن معظم تلك الأسماء هم ثوارا بالمعني الفني و الفكري داخل أنظمتهم السينمائية،بل اعتبر بعضهم اكثر تطرفا في البحث عن هدم المعمار السينمائي التقليدي المهيمن، بل كان ذلك الدعم خيارا واعيا بجدوى التخاصب الفكري و الفني بين الثقافات ، وتدمير الحدود الوهمية و الجغرافية ما بين تفاعلات الفكر الإنساني. لقد عاد كيروزاوا من الموت أكثر إيمانا بعالمه السينمائي الذي وضع له قواعده ، و أسس له منهاجه الخاص به، وما شريط «درسوا وزالا» سوى درسا فعليا لذلك الإصرار، من حيث إعطاء موضوعه شحنة روحية سامية في تفاعل الكائن بالمحيط و الطبيعة ، في قالب شاعري ممتع من خلال إعداد المناظر و العناية الفائقة بتكوين الصورة،مع الحفاظ على البعد التشكيلي للقطات ، وهو ما أبهر المشاهدين والنقاد ، لدرجة عبرت مجلة الحياة السينمائية في عددها الرابع بالكتابة (إننا لا نستطيع الحديث عن لقطات بعينها ، ذلك أن معظم لقطات الفيلم لوحات جميلة أخاذة). لم يتخلى كيروزاوا أيضا عن التصاقه بالعالم الأدبي و استيعابه لجعله يابانيا و بلغة بصرية متفردة كما سيبدو ذلك في اشرطة من قبيل «احلام» او « لحن آب» الذي سيدشن به المصالحة مع شركات الإنتاج اليابانية ، بل تأكد فعليا محاربته للانغلاق و كفاحه ضد النزع الذاتية ، مؤكدا على ان عبقرية الإنسان هي عندما يحلم فقط. الاقتباس والأمانة ليس من الضروري البحث في علاقة كيروزاوا بمسالة الاقتباس من حيث ثنائية الأمانة و الخيانة ، ولا داعي للنبش في مساحات التغيير التي تطال النصوص التي يشتغل عليها ، فأفلامه هي انتماء خالص لعالمه ، فهو أصلا كاتب سيناريو ، يدرك جيدا لعبة التحول من الكلمة إلى الصورة و ما تقتضيه ، وله طقوسا خاصة في الكتابة نستشفها من حوار له مع «غارسيا ماركيز» حينما اجمل ذلك بالقول ( عندما تلبسني فكرة وأرغب في تحويلها إلى سيناريو،أنحبس داخل فندق صحبة أوراق وأقلام ، وهكذا تتبلور في ذهني البنية العامة للسيناريو ، و اكون قد عرفت بالتقريب كيف تنتهي،وعندما أعجز عن ترتيب المشاهد ، أنساق وراء مجرى أفكاري كما تنتابني بشكل طبيعي)، لا يجب فهم الانسياق هنا بالمعنى العبثي والفوضى التي يعتبرها العديد من كتاب السيناريو مرحلة ضرورية لنضج السيناريو بشكل سليم ، بل هو انسياق مدروس و مؤطر بفلسفته و نظرته للحياة ، سواء كان ذلك من خلال استحضار و تطويع الاعمال الأدبية لتصبح سينمائية ، أومن خلال نصوصه الأصلية ، ففي شريط « راشمون « الذي يعتبره حقل تجارب لأفكاره ، يحدد من زاوية خاص نظرته الفلسفية للإنسان ما بين واقعيته ومصداقيته من خلال سؤال النزاهة ، أو كما عبر عن ذلك كيروزاوا بنفسه ( البحث عن السمة الشريرة المتمثلة في الأنانية كخطيئة تولد مع الإنسان و يحملها معه إلى قبره)،أما في شريط «درسوأوزالا» فيبلغ إحدى قمم فلسفته الإنسانية ، من خلال موضوع الصداقة وعلاقة الإنسان بالطبيعة ، و بقيمة تشكيلية أضفت على الفيلم طابعا شاعريا و إنسانيا لدعوة الناس لتوحيد جهودهم في النضال من أجل حماية الطبيعة،و يعود في شريط «ران» للبحث عن المصداقية مع الذات ، و النزعة السلطوية الفطرية في الإنسان ، لقد طوع اكيرا كيروزاوا عمل شكسبير هذا ( الملك لير)،(و أعطاه بعدا شموليا ينزع عنه صفة المحاكاة) على حد تعبير إحدى الكتابات ، في الدورة الثانية والأربعين لمهرجان «كان»، سيفاجئ كيروزاوا العالم بشريط «أحلام» ، وهو عبارة ثمانية أفلام قصيرة : ثمانية أحلام ، ينطلق المخرج في هذا الشريط من نظرة «ديستوفسكي» عن الأحلام و عمق المشاعر ، خصوصا الحلم الثالث « عاصفة الثلج» الذي يرمز لرؤية ذاتية ممزوجة بمتخيل سحري يشيع الأمل بعد الاستسلام إلى الموت ، ظل المخرج في هذا الشريط وفيا للدفاع عن البيئة التي تميزت بهيا أفلامه السابقة ، و اعتبره البعض وصية كيروزاوا الأخيرة ، لقد ابهر هذا الشريط النقاد و السينمائيين على حد سواء في حالة من حالات الاستثناء النادرة لتوافق المتعارضين ، فكوبولا عبر عن إعجابه بالقول ( لم يصنع تحفة او تحفتين،بل صنع ثمانية تحف)، في حين كتب الناقد الإيطالي»الدوباسوني» عن أحلام « قائلا (هو نشيد سحري للحياة ، حيث يبدو كصرخة احتجاج قوية على تخريب البيئة ، و انحطاط الأخلاق ، والخطر النووي)، عن هذا الرعب النووي سيستوحي أكيرا كيروزازي من قصة قصيرة بعنوان « القدر» أحداث شريطه السينمائي «لحن آب» مستلهما أحداثه من الانفجار النووي الذي دمر ناغازاكي ، وهو عن قصة عجوز لازالت تعيش بهاجس تدمير المدينة وهي تحكي لأطفالها الأربعة عن هذا الرعب ، لقد رأى النقاد في الفيلم توليفة موسيقية تنوء بأعباء حمل رسالة أخلاقية تدين السلاح النووي ، في حين اعتبره البعض دعاية سياسية ، وهو ما رد عليه المخرج بالقول (لم تكن فكرتي تصوير فيلم حول القنبلة النووية،بل حول عائلة وجدت نفسها في وضع خاص هو القنبلة النووية....إنه عن قلب الإنسان الذي نميل إلى نسيانه واضعا أملي في خلق عالم مختلف). إنها شدرات من تجربة سينمائية خاصة ، متفردة بعبقريتها الإخراجية و خلفياتها الفكرية لمخرج سيظل حاضرا بموته من خلال تحفه ،لأنه وكما عبرت إحدى الكتابات (فنانا حتى النخاع ، حيث تمكن من تغيير جمود التحليل الفلسفي ، و اخرجه من قوقعته العلمية ، او بالأحرى من علاقته بالواقع ووضعه في علاقته بالخيال)