سيرة الكتابة: من بين الأمور التي دأب الكاتب على إيصالها إلى متلقيه في نص «رائحة الكلام»، ونص «ليليات»، وفي هذا النص «على صهوة الكلام» موضوعة الكتابة. إنها تشترط، جدلاً، القراءة. ولأنها كذلك، فهي القيمة المائزة في ليليات صاحبها، حيث لا يخلو فصل من فصول هذا النص، والنصين الآخرين، دون ذكر عوالمها. إنه يربطها بالصدق، حتى وإن كان العرب يرون في جميل الشعر أكذبه. بين الصدق والكذب حدود الغموض والوضوح، المجهول والمعلوم. بين هذا وذاك يلقي الكاتب صهوة كلامه على تخوم المعنى؛ فهو يوقظ الوهم من الوهم، ويدربه على إفشاء السر، كما يصطاد السراب ليخرج الحقيقة من التباساتها المتعددة، ويدفع الجنون إلى أقصى درجاته كي يتعقل. بهذه التوصيفات، التي يذكرها في صفحة 27، يقيم الصداقة بين الشيء ونقيضه في سبيل المعنى، ولا يدع الجنون حراً، سكراناً باللغة، بقدر ما يلجمه كي يقيم المعنى على صهوة الكلام. إنه لا يقبل صهوة الكلام حروناً، بقدر ما يروضها بالحواس، واضعاً المعنى، ملامساً نقيضه. يقول في صفحة 27 «أطلق الجنون من جنونه كي يتعقل أكثر، أستصحبه شعراً وألجمه نثراً، وأغلبه في لغة لا يبرحه لئلا تزند جذوته ويضيع هدراً». في هذا الاختزال الدّال على تناول جنوني متعقد بحدود الكتابة، جنون يشترط ربطه، عقله حتى لا يضيع، ويتلبس بشياطينه المحتملين، وفي ذكر الاحتمال يكون الليل شيطان الكتابة، والحبر عقلها الذي يربط الفوضى بالنظام، اللامعنى بالمعنى. جدلية تكشف مقام الكتابة عند كاتبنا. فهو في مشاكسته المجهولة، والمتاهة، واللامعنى يرغب الوضوح، حتى وإن احتجب بالاستعارة، أو «لي ما أقوى عليه من المعاني، وأوثر أن أزوج رغبتي في البوح بما ملكت لغتي من المباني هل يجادلني أحد في قراري، وأنا المسكون بأناً تنفر في ذاتها كي ترى كينونتها مثلما تشتهي» ص 70. لا يسلك الكاتب فيما يكتبه الفوضى والالتباس، وإنما يجعلهما في مواجهته، كما لو كان يضمر حرب الكلمات رغبة في تدبير بياضاته، وهو بذلك يعلن استراتيجية الكتابة لديه، بما هي بوح ومضي خاطف يخطف المعنى من تخوم نقيضه، ويتصيد الوضوح من غموضه، ويحرر المجهول من المعلوم. هكذا يحملنا على صهوة الكلام شاهراً وضوحه، مكتنزاً بخيالاته البعيدة. «خاطري مأهول بالخيالات، لكني تعلمت كيف أرتبها على نسقٍ، وكيف ألقي بها في نفقٍ لا أغلقه. أدعها تتكاثر كالطحالب في دمي، لئلا أشعر بفراغ المعنى» ص 82. بهذا التوصيف يكون المعنى .... يعطي للكينونة الدلالة، مثلما يعطي للنص حياته المتجددة. إذ لا فائدة من معنى يعيش في الهاوية، ولا دليل من هاوية حين تقيم في المغلق. لا عجب، إذن، أن تكون الكتابة دلالة على الوجود، وأن هذا الأخير لا معنى له خارج القلق المصاحب للكتابة. إنها تفتق الأسئلة، وتخلخل المطمئن في الذات، وتعلن المعنى في أقصى درجات البوح، ذلك أن المعنى هو رقصة السامبا التي تحرك الأعضاء وتحرر الحواس من يقين يتلبسها. لهذا ينكشف الوجود في الكتابة، ما دام السؤال مهمازاً أو فتيلاً يقوم بفلاحة المعنى بين عبد الإله وبلقزيز. حيث البحث الدائم على الديناميت الذي يفجر البياض، ويطرحه سؤالاً وجودياً في صيغة «أبحث في صفحة الوفيات عن اسمي، علّني أعثر على دليل بقائي، وأنفض عن أسئلتي ما علق بها من رطوبة أو غبار. أختار كل صباح، أن أمسح الغشاوة عن شكوكي فأقرأ العالم في الصفحة الأولى، ثم أثني بالأعمدة، فتخمد في داخلي جذوة الألق» ص 119. إن سؤال الوجود يفيد الدهشة من الصور الماثلة أمام الكاتب، كأنه المجهول فيها، لذا يعلن في صفحة 65 تمترسه في قارة الفلسفة مشحوناً بأسئلتها المزعجة، ومحمولاً على تاريخ الباحث عن الحقيقة، والحقيقة لا تنكشف في المرئي لخداعه. واللافت للنظر في نص «على صهوة الكلام» هو الوشيجة الخصبة بين القراءة والكتابة. بين هذا الترحال المقلق للمعنى، وهو لا يتأتى إلا في التمثل وتحرير المقروء من تلاوته، وجعله كتابة مطروحة للتأويل القرائي. إنهاء دائرة لا يصل فيها المعنى حين اكتمال الدائرة، بل يبدأ من حيث انتهائها، كما لو كان السؤال توليدا لأسئلة أخرى، حيث تتناسل المعاني وتتوالد، وسعتها في جغرافيا التأويل. إن الكاتب يسافر بين الكتابة والقراءة باحثاً عن المعنى في مكتبة الليل، وهو بذلك يبسط ترحاله المثمر بين الشعر، والفلسفة، والسياسة، والنثر، والواقع، والخيال، والمجهول، والمعلوم، وغيرها من المحطات التي يشعل فيها الشموع، تاركاً الأثر وميضاً على صهوة الكلام. إن الهجرة من مكان إلى آخر يلزمه قناديل محمولة على كل الحواس. بل على الدم الذي يعطي معنى الحياة المتجددة. سيرة الأمكنة: يتابع الكاتب سيرته في المكان، وهو بذلك يسرد سيرة المكان برومانسية لافتة، حيث ارتباط المكان بضمير التأنيث، أو هو نفسه أنثى. دائماً يتذكر مراكشوفاس باعتبارهما الحاضنتين للذاكرة؛ فسيرة مراكش لا تفهم إلا في حضن الأم المتعددة. وكأنها الحليب، الذي شربه، وكأنها الخرافة، والأحجية اللتان خصَّبتا خيال الطفولة. الشيء الذي تكون فيه الاستثناء الجغرافي في ذاكرة الكاتب. صحيح أن فيضها كان النصين السابقين. إلا أنه-في هذا النص-يكتب عن أطياف مراكش، لكونها محمولة على شغب الطفولة، ودفء الأم، والجدة، والخالة، وبالمحصلة يكابد الكاتب تحرير الخرافة من المكان، وربطه بطيش خرافي في مكان آخر. إنه المكان الأندلسي المغيب في فاس. حيث غرفة الطلبة، وساحة هوشي منه، ونشيد الطلبة، واحتجاج اليسار، وتربية الحواس بالطيش، وملامسة الثورة في جملة شعرية. تتقد فاس في ذاكرة الكاتب، وتجعلها مقدساً متخيلاً. إنها تطرز الحلم والطوبى، وتزرعهما في الجسد الثائر والمتمرد. مكان يصلي فيه صلاة الغائب، ربما في غيابه يكون حاضراً بقوة في الذاكرة، ربما أن سيرة الكاتب هي بالتأكيد سيرة المكان. حيث الطريق إليه (فاس مثلاً) لا يتم إلا عبر مراكش. وحيث هذه الأخيرة لا تكون، إلا بذكر الأولى. بمعنى أنهما متداخلتان، ليس لأنهما نسجتا خيال الكاتب، بل في ارتباطهما بالماء، و هو الدليل على الخصوبة والنقاء، والحياة وما إلى ذلك، فالربط الذي يقدمه الكاتب بين المكان والماء مسألة بالغة الأهمية. فهذا الأخير لا يحيل على أصل الوجود فحسب، وإنما في شفافيته المتدفقة من السماء إلى الأرض، وهو بذلك يعطي معنى الوجود للمكان. إنه يقدمها بجمالية فارقة يقول «فاس شهية العشاق إلى مسراهم، وأنشودة يرفعها الرفاق، صبحاً وعشياً، بين غرف مبعثرة على قارعة الحي وساحة ميدان. فاس قُدَّت من صخرٍ وجمر، وفكرةٌ خرجت من الصدى إلى المدى، كما يخرج الماء من السحاب إلى وديان. فاس ما أنتِ إلا أنتِ في ذكراي ترقدين كما ترقد في داخلي أسماء الأحبة وإن هُمُو غابوا» ص 56. لقد أضحت فاس فكرة، وهي بذلك تحيا في تناسل مثمر حين العودة إليها. عادة ما نقول مع هرقليدس إننا لا نستحم في النهر مرتين، ولأن فاس نهر، فالكاتب يتجدد في أمكنتها رغم غيابه عنها مدة طويلة. هكذا لا نقيس المكان بعمارته، وإنما بالروح الذي يسكن المكان. إنها الفكرة التي تغري الكاتب لتذكرها، رغم انهيارات النشيد، وغرفة الطلبة. إنها الفكرة التي توضأ بها الكاتب، ووشمها في بلازما الذاكرة، أو هي الجسر الذي يعبره إلى أمكنة أخرى. ولأن ما يعطي للمكان خرافته هي المرأة، فعشقه لها شرط عشقه للمكان. قد نحيل هذا-على المعلقات الشعرية، حين يكون الوقوف على الأطلال إيقاظ الحبيبة/ المرأة من غيابها، وقد نشير إلى إشارة ابن عربي في كون المكان غير المؤنث لا يعول عليه. هنا يكون المكان (مراكشوفاس) مغسولاً بماء العشق. سيفتح الكاتب أمكنة أخرى يعلنها، ويخفي بعضها في آخر الكتاب (الرباط، بيروت). مكانان شاهدان على صهوة الكلام. إنهما اللذان حضنا طقس الكتابة، وبينهما تفيض مدن أخرى لها موقع اعتباري عند المثقف العربي. - «بيروت صبية غجرية تعبث بي حين أسلّمها سلطة الكلام بالمجاز» ص 156. - «في باريس يسرقني الحي اللاتيني وتستدرجني المكتبات إلى داخلها كجائع شره إلى وجبة الروح» ص 157. - «في روما التقيت مايكل أنغلو على مدخل الكاتدرائية وحيَّيته، هناك مر» بكنيسة بطرس» وأودع سره على الجدران» ص 157-158. - «في أثينا أبحث عن طريق المعلّم، مثلما بحثت عن قبر حفيده في قرطبة» ص 159. إن القراءة الأولية لتوصيف المدن تقدم لنا هواجس صاحبها، ذلك أن الناظم الرئيس لها هو رؤية المثقف. أمكنة تحيل على المعرفة، وليس للتبضع وتزجية الوقت. إنها أفكار توقظ الذاكرة، وتشعل السؤال كي يضيء القصيدة في بيروت، والكتب، والأوبرا في باريس، ومايكل أنغلو في روما، وسقراط، وأرسطو في أثينا. إنه طريق المكان، والمكان لا يقدم نفسه، إلا حين إضاءته في الذاكرة. سيرة المرأة: المرأة هي حاضنة الكتابة. إنهما يشتركان في تاء التأنيث؛ فلعبة الكتابة تتحدد في أنوثتها. ولأن الأنثى/ المرأة هي الكاشفة حدود آخرها/ الرجل، ليس من حيث كونهما زوجاً أنطولوجياً، وإنما في صراعهما على السلطة، كأنهما يوزعان الفضاء الزمني بينهما، فإن الرجل يحافظ على النظام والنهار، بينما المرأة تمتلك سلطة الليل والرمز. سلطتان حفظهما التاريخ الكوني منذ حضارة بابل إلى اليوم، حيث أنكيدو في ملحمة (جلجامش) تسقطه العاهرة بإغرائها، وتحرره، بينما شهرزاد تحرر نفسها من الموت عبر الحكاية. ثمة شواهد كثيرة تفيد التنازع حول امتلاك السلطة. لكن، ما دعوى ذكر ذلك ونص «على صهوة الكلام»؟ قد تكون ممكنة إذا ربطنا الكتابة بالمرأة والليل، أو إذا التفتنا إلى ثنائية الورقة والقلم، سواء في البحث عن المعنى، والاطمئنان الذي نتحصل عليه عند بلوغه، لكنه ينفلت منا حين القبض عليه. إنه يتجدد كما المرأة تماماً، كما الكتابة، كما الليل. وفي تجدده على صهوة الكلام، تحضر المرأة في تعددها أمّاً ومعشوقة، ولأن الأم في دلالتها البعيدة تفيد اللانهائي واللامحدود. لننظر إلى كلمتين متجاورتين في اللسان الفرنسي (mère-mer) والدالتان على الأم والبحر كما في اللغة الأمازيغية، يطلق على الأم اسم « يم»، وهو البحر في اللغة العربية. إن التناسل الدلالي يفيد العمق، واللامتناهي، كما اللاشعور تماماً. بهذا المعنى تحضن الأم تاريخ ابنها، حيث يكون حبل السرة مفعولاً من مفاعيلها. هكذا يتذكر عبد الإله بلقزيز الأم والجدة والخالة، كما لو كنَّ جسداً واحداً. ينتقل بينهن في تكوينه الأول. كل واحدة لها وظيفة معينة. واحدة تدفئ جسده، والثانية تحرر خياله بالحكاية، والأخيرة تزيل العقاب عنه. إنه الدفء الذي ظل وفياً للاَّئي وهبنه. الشيء الذي يجعل الحنين مضاعفاً، وهو بذلك يكون ملتزماً، ومخلصاً لطفولته، حيث الفيض الأمومي يحرسه من الجوع، والجن، والعقاب، فهو لم يفته الحديث عنهن في النصين السابقين، بينما في النص الثالث يصاحبهن على صهوة الكلام، ويرحل معهن في الليل، ليس لأن الليل مسكن المواجع بقدر ما يكون تطهيراً لها. بين الكتابة والأم سؤال وجودي يتمدد بينهما في صيغة «عنك لا أكتب حين أكتب، ولكنني أجرب أن أعلن احتياجي عن احتجاجي عن عينيك وأنت تحدقين في المدى المنحور بالغياب» ص 134. كأن الذي نحبه يضيع في الكتابة، ويحضر في الليل، أو كأن الكتابة عنها تتأجل في المؤجل. يسرد الكاتب سيرتهن بكثير من الوجع، والحنين إلى حضنهن. نستدل على ذلك في النوم، أي حين يكون الكائن نائماً، يكون شكله هلالياً، كما الجنين تماماً. هنا يتذكرهن، ويكتبهن ضد النسيان، أو على الأقل العودة إليهن رغبة في إزالة الخوف والألم. سيرة الغياب: هي الموضوعة السادسة التي يتضمنها هذا النص. إن الكاتب يسرد تفاصيل الغياب بلغة سردية باذخة. إنها المقابل للحضور، وهي لذلك تتجلى في تجليات متعددة، يمكن حصرها في الغياب الوجودي. إلا أنها تتسلل إلى الورق بمهل، وتحفر الحروف لتظهير غيابها. إنها لم تعد كذلك، بل أضحت حاضرة ظاهرة في المعنى، وبينهما يتسلل الكاتب لإعلان التفاصيل؛ تفاصيل النسيان الذي تم تظهيره من التباساته، والليل هو حارس الغياب، والضامن لحضوره، والمشعل فتيل الذاكرة. ثمة غياب متعدد؛ غياب الأمكنة والأزمنة، غياب الأم والجدة والخالة، غياب الأصدقاء، غياب ذاته. يقول في صفحة 189 «في تفاصيل الغياب تمتد في غموضها حتى آخر فقرة في سفر الكلام». بأي معنى يكون الغياب غيابا. حتى في الكلام المجهول على صهوة الغياب يتمدد في غموضه، إلى الأخير منه، أو إلى الآخر منا. عادة ما يليق بنا دفن الغياب في الذاكرة، وإغلاق الباب عليه بالغموض. حتى لا يكون. بينما هو-هذا النص-يتسلل إلى ليل المكتبة لينصت إلى الكاتب عبر فتق التباساته كي يقول المعنى على صهوة الكلام. الغياب هو المعنى المنفلت من الليل والذاكرة. فهو يهيم بنا في تفاصيله المتعددة، ينحت غموضه مرة، ويرقص على وضوحه مرة أخرى. في الغياب جمرة السؤال، وفيه الرماد. إن الكاتب يراوح الغياب بين-بين، ويتابع ظله الذي يسكن في الغياب، وكأن الغياب هو سيرة الكاتب. مادام الأمر كذلك، فإنه يروضه على صهوة الكلام كي يكشف المعنى في القادم من الزمن. إنه « أبحث في كتاب الغد عما لم أره يومي والأمس، أفلي الصفحات كما تفلي الأم شعر ابنتها في القيلولة، أتقرى في سطوره أشيائي المجهولة التي تعلمتها في الكتب» ص 59. ها هنا يكون الغياب مجهولاً، وهو بذلك يفصح عما ينتظره في المستقبل. ولأنه مكتوٍ بنار المعرفة، فمستقبله مطروح بين الأشياء والكلمات، مدسوس في الكتب، فهذه الأخيرة هي المرجع لتفكيك المجهول، وتحرير التباساته، وتظهير المغيب فيه. ليس الغائب حضوراً بالقوة، بل هو السؤال المؤجل على الدوام، يتصيده الكاتب، ويتيه في تفاصيله، بين الأمومة والثورة، بين الأصدقاء والكتب، بين العزلة والربيع الدموي، بين الحب وأشياء أخرى. ينشد عبد الإله بلقزيز سمفونية الغياب في الليل، ويضعها مشتهاة. يشتهيها كل واحد طرق الغياب، ليجد المعنى في البعد الأخير منه. لنتأمل هذه العبارة تاركين طيفها يتزحلق بين النص وقارئه يقول في صفحة 181 «كيف لنا أن نعيش الحب، إذن، موزعاً على حصتين؟ مضى الذي كان، لكن بقاياه تتحرش بالقلم، وترفع الآذان بنص لم أكتبه بعد». لا غرو إذن أن يكون الغياب كتابة مؤجلة، هو النص الذي لم يكتب بعد. هذا الذي اكتمل في صفحة 189 ترك صفحات أخرى تتلوى في بياضها، وتبحث عن كاتبها لإزالة الغلاف الأخير. تلك هي علامات الكتابة، من حيث هي غياب ونسيان، حضور وتذكر. ولأنها كذلك، فهو يعلن المؤجل فيه تاركاً المؤقت صورة مرئية في زحمة الحضور، بينما البحث عن الاكتمال مسألة تفيد قتل المجهول والمعنى. لا عجب إذن أن نقول أنّ عبد الإله بلقزيز أمتعنا بركوبنا صهوة الكلام، ومرافقته في سيرته الموزعة بين الكتابة، والمرأة، والغياب، والذات، والكاتب... إلا أننا لم نصل إلى المعنى، كما لو كان زئبقياً ينزلق بين أصابعنا، ويتحجب في الحواس؛ نقبض عليه تارة لينفلت منا تارة أخرى. إن الجميل في هذا النص هو انفلات الظل من صاحبه، وهو بذلك يقول المعنى ليمحوه، بل أكثر من ذلك يضعنا هذا النص قبالة المحو، مادام هذا الأخير محتفلاً بالمجهول، والغياب، والنسيان. فهل سيرة الكاتب هي كتابة النسيان، أم أن الموضوعات التي طرقناها تجيب عن هذا السؤال بمكر برقى؟ نعيد إلى الذاكرة النسيان عبر وضع المجهول سؤالاً وجودياً بامتياز. تلك هي بعض القضايا التي وقفنا عليها على صهوة الكلام. حتى وإن حاول كاتبها عقلها، حتى لا يجن القارئ، أو حتى لا يختفي بين الكلمات. إن نص عبد الإله بلقزيز يضع قارئه بين المجهول والمعلوم، وهو نص يفترض زوايا نظر مختلفة تبدأ من صاحبه، ومن بول شاوول الذي يشاغب على الكتابة وينبش في الهوامش الحياتية، ويعتمد كتابة مشوبة بقلق ملازم لفعلها وبأسئلة مستفيضة عن المكان. وإذ يقدم لنص مسبوك ومصنوع بكل دقة وعناية، فهذا لا يخلو من التقاطع مع النص الذي يقدم له إن في المعنى أو في الشكل. عليَّ الآن التوقف قليلاً كي أعيد أصابعي إلى مكانها، وأعيد تربية الحواس من جديد، حتى أقرأ «على صهوة الكلام» في الليل، وحتى أراجع ما كتبته. ربما سيطير إلى فاس الحبلى بالشعار، والدار البيضاء المزدحمة بالغبار، وبيروت التي تنشد القصائد في آخر الليل، وباريس التي تحرس المكتبات من فيروس محتمل، وأثينا التي تعيد لسقراط هيبته، وروما التي تضع مايكل أنغلو في الميدان، والربيع العربي الذي يرتل الموت في الميادين العامة، والعروبة التي قتلتها القبيلة، وعبد الإله الذي يبحث عن مجهوله في بلقزيز، وغير ذلك من تفاصيل نسيتها حين السماع، ورسمتها بعينين مطفأتين. ** عبد الإله بلقزيز، على صهوة الكلام، منتدى المعارف، بيروت، 2016.