بعد نص «رائحة المكان» 2010 و«ليليات» 2012، يأتي النص الثالث محمولاً على المكان والليل، ليعطي المعنى بينهما، ويرتق ما تبقى من مفاعيل الذاكرة. يطل علينا الأستاذ عبد الإله بلقزيز، في هذه السنة، بنص جديد عنوانه «على صهوة الكلام». وهو نص يسير بتدفقه اللغوي مثل النصين السابقين. إنه مفتوح ومنفتح على بياضاته وعنفه المستظل بذكرياته. نص يسأل المعنى، ويلتبس بأناقة لغوية باذخة. نص يسقيه صاحبه بما تبقى له من كأس نبيذ، نص يرمي قارئه إلى حساب أصابعه حتى لا تضيع باستعاراته، ومجازاته المتعددة. نص يزرع المعنى على جنباته، ويترك اللامعنى بياضاً؛ يتركه لتأمله، ومشاكسته، ومساءلة المخبوء فيه. نص يعجن الأجناس الأدبية ساخراً منها تارة، ومتلاعباً بها تارة أخرى. نص يدخل قارئه إلى متاهة، وإن كان كاتبه يهدينا بوصلة المرور، وخريطة الضوء كي نتحصل على المعنى. إلا أنه سرعان ما يضيع في نقيضه. نص يفرض عليك طقس قراءته، وكأنه يعري الكاتب، ويجعله ورقة بيضاء تبحث عن المعنى، ولا ترتضيه، نص يعري قارئه من التباساته النظرية، ويفرض عليه الترحال بين الحروف والكلمات، بين الأمكنة والأزمنة، بين التذكر والنسيان، بين الضوء والعتمة، بين الليل والنهار، بين عبد الإله وبلقزيز، بين القار والمرتحل...إلخ. وبين هذا وذاك، ينفلت النص من أصابع كاتبه، يطرح في الطرق القريبة والبعيدة من النظر والتأويل. لكن كلما قبضنا على عبد الإله، انفلت منا بلقزيز في زحمة المعنى، تاركاً اللامعنى بين-بين، وكلما توهمنا تحديد المكان هربته الذكريات لتضعه طيفاً، وحلماً، وكلما رغبنا في وضع المتاريس على المعنى انقلب علينا حلماً وضاع في الهواء الرطب، وأشياء أخرى. وكلما أردنا الابتعاد عن صهوة الكلام وجدنا على الصهوة أجساداً مختلفة تحمل الضوء في العيون وتطفئه رغبة في النظر الممتد من الولادة إلى ما هو عليه. وكلما عددنا حروف النصين الأوليين، وحررنا النص الثالث من المعنى. وكلما أبعدناهما قليلاً من الحساب، وجدنا عيوننا متلألئة في النص الثالث. وعندما تفحصنا المكان ليلاً، أيقظنا صهيل الكلام في الصحراء. هذه الصحراء التي نبت فيها الأثر، ومحاه السراب في الليل. هذا الليل الذي ينمحي فيه الكلام، مستأنساً بالتيه والترحال، والليل فيض الأحاسيس، وشحذ الخيال، ورتق الكلام بالكلام، ونعت المكان بالمخبوء فيه، وجعل الذاكرة موضوعة تشققاتها. هو نص يحرر صاحبه من سلطة الكلام ليضعه على صهوته متجولاً بين عناصر الطبيعة، حيث الماء يغسل الحروف، ويتركها تتشمس في الهواء، بينما التراب يمحو تلك الكلمات، لتبقى النار شعلة تحرق المعنى، ليطير ما تبقى من رماده في الهواء. ومالم يستطع الطيران، يدفعه حنين الأرض ليتمرغ في التراب. هكذا يدعونا النص لقلب مواجع القارئ، وفي توجعه ينفلت الكاتب من ذكرياته؛ يستظل بها تارة، ويحفر في أعماقها تارة أخرى، ولهذا لا يتحصل عليه إلا حين تطرز المرأة النجوم في السماء، في سبيل فنجان قهوة تقدمه لآخرها بعد القيلولة. تحضر المرأة في تعددها برائحة واحدة تهدهد الطفل، وتحرسه في ليل بهيم. إن قراءة هذا النص تلزم منا المسير على حافة المعنى، وكأن صهوة الكلام تؤدي إلى ذلك. ولأن الكلام نسيان، فإن الصمت ذاكرة تحفظ للكلام نسيانه، لتزفه على صهوته، فارساً سكراناً باللغة. لننظر إلى هذا التشبيه الدال على صهوة الكلام عبر ربطه بالصحراء جغرافيا أثثت خيال العرب في القول، وبالضبط في مرحلة ما قبل الإسلام، حيث الشاعر والفارس أنموذجان في المخيال العربي ساعتها. ولأنها كذلك، فقد أضحى جسداً واحداً، لهذا يستضيفنا الكاتب على صهوة الكلام؛ وهي ضيافة تفيد الكرم اللغوي، كما تفيد التجوال، على صهوة الكلام في بساتين الأقدمين، وأمكنة الكاتب المفضلة، مثلما تكون الضيافة مشروطة بما تبقى من الذكريات القديمة. على صهوة الكلام شفرة أولية في هذا الترحال الطويل، ولأن كل سفر يفترض خريطة طريق، حتى لا يبقى الكلام مجنحاً في التيه والمجهول، وجب علينا رسم الحدود، وتكثيف الموضوعات، وتخصيب المعاني، وتوليد اللامعنى، وإضاءة الأثر، والنظر إلى المحو في آخر الليل. إن رسم خريطة الطريق تشير إلى ضبط عوالم صهوة الكلام، كما تجعل هندستها بقليل من الانضباط-الحفاظ على توازن القراءة حتى لا تسقط من صهوة الكلام طوعاً، أو عنوة. ولأن النص مفتوح على كل الاحتمالات، فإن الوقوف على موضوعاته الرئيسة مسألة بالغة الأهمية، وإن كنا لا نستطيع حصرها في هذا المقال. ولأننا كذلك، فقد حاولنا اللعب معها، مادام ليل الكتابة عند الكاتب هو المبتدأ والمنتهى، فيما يحيله الليل على لعبه المخبوءة، وما ترمي إليه الكتابة بلعبتها الاستعارية والمجازية وما إلى ذلك. بهذا المعنى نقيم الحدود حتى لا ينفلت معنا الكاتب باسمه وكنيته معاً، وحتى لا تطير أصابعنا في الفراغ الموجود بين الكاتب والنص والعنوان، وكأن الواو هو مكان الفصل والوصل المتروك لنا، للرقص معه تارة، والكتابة عنه تارة أخرى، لنضع بعض الموضوعات في متاهتها، ولنفترض الواو قنديلاً في المسير إلى المعنى، أو على الأقل إلى تخومه، ولا يأتي ذلك إلا باشتراك قراء آخرين للحديث على صهوة الكلام. إن القبض على هذه الموضوعات يكون بطريقتين، أولهما حضورها المكثف في النصين السابقين، وكأن الكاتب يعيد تنبيهنا إليها، أو هو مسكون بإيقاعها المدوخ، وثانيها انبجاسها المتكرر في النص. إنه لا يعنون فصوله بتلك الموضوعات، وإنما تنساب في تدفقها اللافت على طول وعرض النص، وهي: 1 سيرة الكاتب: عادة ما تكون كتابة السيرة بوحاً، وعادة ما يكون البوح خارج حدود الكتابة، ليست كتابة السيرة علاجاً في مختبر التحليل النفسي، حيث التنويم المغناطيسي لم يعد له معنى، وحيث البوح مربوط باللغة، وحيث اللغة زئبقية، تقول المعنى وتمحوه. هذه السلطة التي تفرض حدود اللامحدود بوحاً. لكن بأي معنى نقول إن هذا النص سيرة كاتبه، أليس هذا تعسفاً في حق اللغة وصهوة الكلام. أليست الكتابة المفتوحة – على المستوى العام-سيرة صاحبها، لنفترض الإجابة متضمنة في هذه الأسئلة، ولنقل إن الكاتب أمام بياض الورق يعري ذاته باقتصاد شديد، كما لو كان يحرر ذاته من قيود مركبة ومتعددة (اليومي، السياسي، المهني، والعلمي...)، وهو بذلك يكون عارياً في مكتبه، أو بالأحرى في مطبخ الكتابة. لنتلصص عليه الآن وهنا، سنجده مصاحباً الليل، ومقاوماً عزلته وهو قبالة أوراقه وكتبه. يضع ذاكرته على مكتبه جراحاً مثقلاً بالماضي، يقطع جزءاً منها، يكتبه في مسودة ويتابع الحفر في الأجزاء الأخرى. حيث النسيان سمفونية. تعود الكاتب الإنصات إليها ليخفيها في مجهولها، حتى يكون لإيقاع الموسيقى بلاغة الوجود. في لحظة عياء، يغسل وجهه بدمعتين مالحتين، يجمع ذاكرته ويعيدها إلى رأسه، يبحث عما كتبه، فلا يجده إلا في الغياب، تهرب الذكريات من النافذة، تطير في السماء، يحاول الكاتب إعادتها في الليل، يفرك أصابعه كي يستقيم القلم بينها، يعيد الكرة تلو الأخرى بين مكانين يحبهما إلى حد كبير، الرباط، بيروت؛ مكانين لكتابة هذا النص. وبينهما تطير الذكريات على جناحي الطائرة، يحاول خلق التوازن بينهما، حتى لا تسقط الطائرة على الأرض، يعجبه ركوب الخيال في الطريق إلى بيروت، كأنها شعلته لترميم ما تبقى من النسيان. هكذا أتخيل الكاتب في مطبخ كتابته، ولأن الكتابة تفترض طقسها، يقدمه لنا بشفافية باهرة. وهو شكل من التعدد البديع، بينما التعري ينسل بين الكلمات، أو على الأقل يتستر في الطيات. إنه النسيان عينه، ما دام النص يكتب النسيان، ويترك الذكريات تطير بين مقامات الكتابة. إنها سيرة الكاتب المخزونة بالنسيان، وإلا لماذا نعاود الكتابة؟ أو بالأحرى لماذا لا نكتب ما تشتهيه الحواس؟ الحواس تتجدد فينا. نربيها كي تكون حاضنة للرغبة في الكتابة، وكأن الكاتب يبحث عن حواسه في الكتابة. إنها خداعة وملتبسة كما يحلو للفلاسفة العقلانيين قوله. وهي لذلك، تبحث (أي الكتابة) عن أنموذج مفقود. إن الذاكرة هي لعبة الكاتب في هذا النص، وهي لذلك تكون زئبقية لا تقدم نفسها بوضوح. إنها تخزن ما نسته الحواس وتتلف الذكريات البعيدة. إنها مشققة لا تظهر إلا لتحتجب في النهار. تكسر بنبيذ الليل، تسقط في الهفوات، وترقص بعناد في آخر الليل. الحاضر يوقظ الماضي كي يثبت الوجود والمعنى، والماضي صحراء تمحو الأثر ليأكله السراب، الماضي حديقة الحواس بامتياز. بهذا المعنى يدفعنا عبد الإله بلقزيز إلى تربية حواسنا، وجعلها يقظة كي تصل إلى المعنى. المعنى نشيد في متاهة لا متناهية، والماضي حبر متروك لكتاب آخرين. عادة ما يكون الماضي مثقلاً بجراحات وندوب نصاحبها بشكل مرضي ونعيش وسطها دون اكتراث بالحاضر، وفي مرات أخرى ندفنه في الذاكرة، ونعيده إلى الحياة إذا اقتضى الأمر ذلك، بينما عبد الإله بلقزيز يسكن دمه «ماذا أكون إذن، غير أني ابن أمسي الذي يسكنني ويشدني إلى ما بعد يومي» (ص 28). هكذا يوقظ الكاتب ماضيه في الليل، وكأن الليل هو سؤال الوجود؛ إذ تنفجر أسئلته، حين يسكن الليل زوايا الجسد والمكان، وفيه يستحضر فعل التكوين عبر تدريب الحواس على التذكر. في هذه الصيغة التساؤلية للوجود يتعرى الكاتب كلية، يبحث عن حركية اسمه في الماضي، لا ليبني قصراً من الذكريات، وإنما لجعل انفلاتات التذكر ليلاً لا يود نهايته. تدعونا هذه العلاقة لقلب الرومانسية فيها، وخلق مقامات البوح في الليل، أي حين يكون الليل صلاة للغياب والوجود معا. إنه بالأحرى يعلن التكوين من خلال حرق الذاكرة، ونسيانها. فسؤال الذات هو الناظم الرئيس في سيرة الكاتب، كما لو كان الكاتب يكشف لنا المخبوء بين اسمه وكنيته. وهذا لا يتأتى له إلا حين يكون الليل مسكن الوجود، ويكون الوجود مسكن اللغة، والعكس صحيح تماما. يقدم لنا هذا النص/ الكتاب بورتريها لكاتبه. يرسمه بالأبيض والأسود. يقول في صفحة 46 «لي ضغطي الدموي وضيق التنفس، والنقرس، والغضب السريع، والقليل من التقية، والنفور من القطيع. ما اكتسبتُ من غير الميراث إلا الشحيح، فائض الطوبى في الرأس، وتقديس الحروف. والبكاء السري على المستحيل، وتنمية النثري بالفصيح، وما طوّرتُ من المواهب غير القليل، التحديق في الظلام كالقطة، وإرسال الكلام بالخفة، وامتشاق الدليل» ألا يشكل هذا التوصيف للاسم دلالة وجودية؟ أليس الاسم سؤالاً يمتد جينيا من بداية التكوين إلى الكهولة؟ قد يكون هذا التوصيف في بلاغته الشفافة هو الاسم، والدليل في ذلك أن من يعرف عبد الإله بلقزيز سيجد نوعاً من التطابق مع ذلك التوصيف، بل يمتد البوح إلى الموقف والمبدأ، حيث يعتبر الانتماء للعروبة نافذة يطل منها على العالم. ففي صفحة 154 يعلن انتماءه للعروبة من حيث هي لسان، وليست دماً، وهو بذلك يبلغ تمرده على الجماعة والقبيلة والعصبية والشيخ/ السلطان، ليس من حيث «لكم دينكم ولي ديني»، وإنما من حيث هو التزام بقضايا العروبة، وما تخفيه شجرة الأنساب، وما تظهره من مسائل التحرر والثورة والحلم، يمكن اعتبار هذا برانيا في علاقة الذات بنفسها. لكن ثمة حوار لطيف، وعنيف بين الذات وآخره، وهو حوار يقيم الكاتب فيه صلاة العري، أو بالأحرى يشاكس أناه، ويعبث بطيشها، كما يستأذن الحلم كي يقول الملتبس فيه؛ فشخصية الإنسان تتبدل وتتكون عبر السنين، فإذا كانت مرحلة الشباب تحيل على الزوغان والطيش والتمرد، والاحتجاج ضد كل شيء قائم، وملامسة الثورة باللسان، وتذوق طعمها في نشيد الاحتجاج، فإن الكهولة تضع الكاتب مقابلاً لمراياه، يحاول تارة النظر إلى الطفل الذي يسكنه، وتارة أخرى إلى الاحتجاج ضد الابتذال، والبحث عن صفاء محتمل لتشطيب ما تذكره، وتشذيب ما لا ينقال، وخلخلة الاطمئنان في الذات. والمحصلة تكون الكهولة محطة استشراف الأمل في الليل حيث الأنا المضمرة سؤال الكينونة، أي في ذلك الخصام الخصب بينها وبين الظاهر منها. يقول في صفحة 94 «أناي هواي الذي أضعته في كون غرير، وأنا أبحث عن معنى يتخطى الذات . أنا ما قالت الملذات في طبق الأدب، أنا السبب في شقوة الروح واختناقها بين سورين في داخلي يتناقلان.». إن هذا الحوار الخصب بين الذات وآخرها في عزلة الكاتب، هي ما تقدم للقارئ شهية التأويل، وذلك في سبيل تعرية القارئ كذلك. بمعنى أن تلك العلاقة تضع متلقيها في تماس مع الكاتب، ولأن كل واحد مشروط بذاكرة جماعية، فإن ذاكرة كل واحد منهما تتشظى في الواقع، وتجتمع في العزلة، وكأن هذه الأخيرة هي الجمرة التي تشعل الأسئلة الوجودية في الليل. لا غرابة إذن أن تكون الذاكرة موضوعة رئيسة في هذا النص، ليس من حيث فيضها المتدفق من الطفولة إلى الكهولة، بل في الفوضى الذي تعيشه في زحمة اليومي. إن الكاتب يكتب النسيان، ويسترجع الذكريات الملتبسة، والمحتجبة في طياتها. إنه يكشف ذلك بوضوح حين يقول «... وللذاكرة طريقة في التغليط مقصودة تسألها عن غميسك القديم، فلا تمنحك منه غير المبهم، عساك تجرب ثانية أن تقف بين يديها كالذي يقف أمام عشيقته المتيم.» ص 139. الذاكرة معشوقة الليل في التباساته المتعددة، وهي لذلك تتمنع عن تقديم نفسها بوضوح. إلا أن الليل يلاعبها حين تتهيأ رغبتها في ذلك، حيث يكون التشبيه دالاً على الحجب والتعري على الضمني والصريح. وبين هذا وذاك، تستر الذاكرة رغبتها في البوح كما المعشوقة تماماً. وبالمحصلة فالكاتب خبر ترويضها في الليل؛ لا ليتذكرها في النسيان، وإنما لنسيان تذكره، حين يمتطي الليل صهوة الكلام، هنا يكون البوح مزدوجاً. أي حين تكون ...قبالة مراياها، وتكون هذه الأخيرة فضاء لرسم المنسي والمجهول، وعملية الانتقال بين هذا وذاك تفترض إعادة تربية الحواس. إنه الأمر اللافت في هذا العبور المطرز بحاسة السمع، بينما حاسة البصر تظل محاصرة في سواد الليل. 2 سيرة المجهول: هل يمكن افتراض سيرة الكاتب في مجهوله؟ وهل يمكن النظر إلى المجهول دليل البحث عن عبد الإله بلقزيز. قد نفترض ذلك إذا اعتبرنا أن المجهول أثر يقتفيه الكاتب عبر عكزه على نسيانه؛ ذلك أن المجهول هو المحجوب في طيات الذاكرة. ولأنه كذلك، فالكاتب يحفر في تشققاته على المعنى، حتى وإن كان هذا الأخير متلبّساً بنقيضه. هنا يكون المجهول أناة ومعاناة، وزمناً يتداخل فيه الماضي بالحاضر والمستقبل. وهو لذلك يسترق السمع من مجهوله، ما دام المعلوم صورة بصرية. بين الصوت والصورة، بين السمع والبصر، بين المجهول والمعلوم مسافة ملغزة وملغومة بالقلق والتوتر، والهذيان والتعقل، والوضوح والغموض. إذا كان المجهول غامضاً، فإن المعلوم يكون واضحاً. ولأن الكاتب مغرم بالغامض والليل والمجهول. فهذا يعني أن مجال الكتابة عنده يتأسس على المجهول، ليس لأنه ملتبس وغامض، بل لكون زمن الكتابة، هو الذي يحضنه على البياض. زمن تنام فيه الخرافة على وسادة الطفل الذي كان، وتنهض فيه الطوبى في بهو الكلية، لتبني الذات صفاءها في المجهول. حيث الليل يرتق هذا بذاك، ليضعه في البعد الأخير منه. إن الكاتب يخاطر باسمه في المجهول، رغبة في تصويبه وتحرير طيشه، والبحث عن قنديل لتفحصه وكشفه. يظهر لي أن الكاتب يصارع المجهول فيه، أقول المجهول ولا أقول الجاهلية، وبهذا المعنى يمارس الكاتب حرب العصابات على المجهول فيه. قد يكون هذا الأخير هو اللاشعور الذي يظهر ويختفي في الذكريات المتطايرة في الهواء. كلما قبض عليه في المعلوم، إلا وتشتت في نقيضه. بين هذا وذاك يقول «أنا المجهول في جملة معلومة، وأنا المعلوم في كلام لا يزول. يمر على يومي من لا يطيل الإقامة، ويجحدني من يردد اسمي في سره. وأنا أقول ما أقول، باللسان جهراً، وأشير من أشيائي القليل. وأسمع ما أسمع من أسرار الليل، في آخر الليل، لئلا يفاجئني نهاري بما يغلقه عليَّ السبيلُ. أنا الدليلُ إلى لغتي، في زحمة فوضاها، وأنا جريان واديها، وشحّتها، وأنا المضرَّج في كلام لا يقطعه الذهولُ» ص 39-40. هكذا يكون المجهول سرّاً، والمعلوم جهراً، وبينهما ينكشف السبيل في اللغة المكسوة بالذهول، والمحمولة على صهوة الكلام. فالجميل في العبارة السابقة هو الهندسة التي يقيمها الليل، مادام سره يمحوه النهار، وكأن المجهول ينمحي في الضوء، ولا تتشكل هويته إلا في اللغة، لأن هذه الأخيرة احتفال طقوسي بالاستعارة والمجاز وما بينهما. اللغة تكسو المجهول بالمعلوم، كما تعري هذا الأخير كي يكون مجهولاً. إن الكاتب أبدع في إيجاد الوصل بين النقيضين، ووضع الفصل بينهما مقاماً موسيقياً يتداخل فيه السري والعلني، الغامض والواضح، الأناة والأنا، الإشارة والعبارة .. لا في سبيل تظهير المفارق، بل مخاطرته في الإشارة دليلاً على تفكيك المخبوء فيها. أو بينهما سيان؛ فهو في اللحظة التي تحجبه الإنارة والضوء، يجد نفسه عارياً، أي يجد نفسه مجهولاً. هذا الذي يستفز البحث فيه، والمسير في متاهاته مستنداً على الأطياف وآثار الأولين. لا مراء في إبراز التقابل المقلق بين المجهول والمعلوم؛ فالثاني يحيل على النظام والوضوح. بينما الأول ينزع نحو الفوضى والغموض، ولأن الغامض هو ما يستفز الكائن، فإنه يفتح شرفته على الفوضى. يقول في صفحة 41 «من أنا حتى أقول ما أقول عن الطبيعة، وأقفل على الاحتمال إمكانه؟ أجّرب تنظيم فوضاي في فوضايَ، كي أجد السبيل إلى أنايَ فلا أجدُ. هل ضاق بي مكاني عن مكاني، أم حلَّ بي حنينٌ إلى ذكرى راقدة: في حطامي تَتَّقدُ؟». الفوضى إشارة الذهول، وهي لا تستقيم ملامستها إلا بإشعال الحواس، وجعلها متقدة تفور حيوية ويقظة، بواسطتها تعيد للفوضى المعنى، مثلما نسرق التفاصيل الدقيقة لحاسة السمع، ونترك للبصر انفلاتاته البرقية. إن عبد الإله بلقزيز يقدم لنا وصفة سحرية لمشاكسة المجهول فيه/ فينا، عبر التحرش به تارة، وغوايته تارة أخرى؛ فالمجهول يبقى كذلك إذا ما كانت الحواس جامدة، أما إذا أشعلنا فيها نار المعرفة، فإنها تستطيع ترويضه في الليل، وتتركه معلوماً في النهار، يحرسه شرطي أتعبه النظر. لكن قد أكون مجحفاً حين القول بتعرية المجهول، فهو يظل كذلك، حتى وإن وضعناه في مختبر نقدي محكم. إنه زئبقي مسكون بالاحتمالات، حتى وإن حفظنا المعنى في الإشارة، والدليل متاهة تسوق مجهولها بموسيقى آخر الليل.