رغم اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تبتعد النقاشات السياسة عن الخوض في برامج المرشحين الرئاسيين، دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، وتنحدر إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما يؤكد، من جديد، «استثنائية» الانتخابات الحالية على عدة مستويات. آخر تلك الاستثناءات هو تورط المرشح الرئاسي دونالد ترامب في عدد لا ينتهي من الفضائح الشخصية، وبشكل خاص ما ظهر مؤخرا من تسريبات تؤكد الإساءة المنهجية للنساء والتي وصلت إلى حدود التفاخر بقدرته ورغبته الجامحة على القيام باعتداءات جنسية. لم يحدث من قبل أن تفاخر رجل يوشك أن يصبح رئيسا لدولة عظمى يحكمها القانون والمؤسسات الدستورية بأعمال تنتهك القانون ويبدو غير مبال على الإطلاق. ذلك الانتهاك وتلك المفاخرة يستحقان الهجوم بكل تأكيد من قبل الطبقة السياسية ووسائل الإعلام، ولكن شكل وقوة الهجوم الذي يتعرض له دونالد ترامب منذ نحو عشرة أيام يعد استثناء أيضا. لا يقتصر الهجوم على كونه "رد فعل" على فضائح رجل الأعمال، بل يبدو كحملة منسقة وواسعة النطاق يقودها تحالف سياسي اقتصادي وإعلامي يشكل عصب النظام السياسي الأميركي من أجل القضاء على دونالد ترامب. بهذا المعنى، تبدو الحملة مستعدة لاستخدام كل الوسائل وللمضي قدما حتى وإن استدعى الأمر القيام بتحقيقات خاصة خارج القضاء الأميركي تقوم بجمع أدلة، وفبركة أخرى، ليجري استخدامها في عملية إقصاء المرشح الخارج عن المألوف. اللجوء إلى الفضائح الشخصية لمرشح رئاسي لا يزال يحظى بفرصة كبيرة للفوز بالسباق، بالتزامن مع تسليط الضوء على قيامه باعتداءات جنسية واستحضار شهود للإدلاء بما قد يدينه ويدفع به إلى السجن، هو لحظة شديدة الاستثنائية في السياسة الداخلية الأمريكية. يبدو ذلك كسلاح تدمير شامل لمنع رجل غير متوازن ويشكل خطرا جسيما على الطبقة السياسية الحاكمة من أن يحظى بفرصة لقيادة البلاد. ففي حال وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، سوف يطلق ما تعده الطبقة الحاكمة ثورة على صعيد السياسات الخارجية والداخلية. على الصعيد الخارجي، توعد ترامب بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي «الناتو» ومن اتفاقات التجارة الحرة الموقعة مع عدد من دول العالم. على الصعيد الداخلي، وهو الأهم هنا، تهدد سياسات ترامب ضد المهاجرين وأصحاب البشرة السوداء بمفاقمة ما يبدو، منذ عام على الأقل، بأنه وضع شديد الخطورة وعلى وشك الانفجار. بلغ التوتر بين الدولة الأميركية والمواطنين السود مستويات خطيرة وصلت إلى قيام الطرف الأخير بالرد على عنف الشرطة الأميركية بعنف مقابل. يحدث ذلك في ظل وجود رئيس صاحب بشرة سوداء، هو باراك أوباما، وقد جرى تصوير انتخابه كتأكيد على انتهاء سياسات التمييز العنصري في الولاياتالمتحدة. ولكن الحقيقة اليوم أن الأميركيين السود يعانون من عنف الشرطة، وقد تدهورت أوضاعهم الاقتصادية وارتفعت نسبة البطالة بين صفوفهم إلى ضعف نسبتها بين البيض، فضلا عن أن نسبة المواطنين السود الفقراء أكثر بثلاث مرات مقارنة بالمواطنين البيض. يقدم دونالد ترامب، كأي سياسي يميني شعبوي، حلا سطحيا لتلك المشكلة الخطيرة. وهو حل يغوي جماهيره المتعصبة والتي أنهكها الركود الاقتصادي والبطالة وانخفاض مستويات المعيشة. حل غير معقد بل سهل الفهم، إذ لا يلقي باللوم على «سياسات» مجردة وإنما على طرف واضح المعالم ممثلا في المواطنين غير البيض بشكل عام. وقد يشكل هذا الحل شرارة الانفجار التي تجاهد الطبقة السياسية الحاكمة لمنع حدوثه. قد لا يقتصر الانفجار على المواطنين السود، ولكنه، وعلى المدى البعيد، قد يتوسع ليطال شرائح أخرى سوف تتضرر بصورة أكيدة من السياسات الضريبية التي يبتغي دونالد ترامب تنفيذها في حال فوزه. إذ تعهد الرجل بتبني أكبر تخفيض ضريبي منذ عهد الرئيس رونالد ريغان. وسيشكل ذلك التخفيض فائدة عظيمة للفئات فاحشة الثراء، والتي ينتمي إليها ترامب، وكارثة كبرى للفئات الوسطى والفقراء، إذ سيجبر الدولة بشكل مؤكد على تخفيض الإنفاق العام. المفارقة أن تركيز النقاش أثناء الحملات الانتخابية على الجوانب الشخصية للمرشح، منع حدوث نقاش جدي لسياسته الضريبية وآثارها التدميرية، مقابل نقاش متكرر لتمسكه بعدم الإفصاح الضريبي. مع ذلك هنالك نسبة من الأميركيين تتراوح، على أقل تقدير، بين 25 و35 بالمئة تؤيد دونالد ترامب بمعزل عن كل فضائحه الجنسية وعن رفضه الإفصاح الضريبي، بل وبمعزل عن رفض أهم قادة الحزب الجمهوري التصويت له. هكذا، وحتى لو نجحت جهود إقصائه وفشل في الوصول إلى البيت الأبيض، فقد لا يعني ذلك نهاية تلك الظاهرة. بل ربما نكون أمام بدايتها، وخصوصا مع وجود ما يبدو وكأنه فرصة لكسر احتكار الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، للعملية الانتخابية عبر تأسيس حزب ثالث.