هذه مداخلة حول «الشباب والعزوف السياسي»، سنتناول فيها بحول لله: ضعف النخب، وضعف المشاركة/الأحزاب السياسية والمشاركة/المشاركة في الواقع المغربي/العوائق الحزبية/العوائق الاجتماعية والاقتصادية/ النخب والمشاركة ما العلاقة؟ وذلك مساهمة في إذكاء الحوار حول هذا الموضوع، الذي أصبح قاعدة أساسية للديمقراطية. 1/ ضعف النخب... وضعف المشاركة المشاركة السياسية، حق من الحقوق الأساسية للإنسان، ومبدأ من مبادئ صنع الإرادة العامة، جعلتها الديمقراطيات المعاصرة تسمح لكل المواطنين بصياغة نتائج الانتخابات تصويتا وترشيحا دون أي قيد تحت شعار «صوت لكل مواطن». والمشاركة السياسية بمفهومها العام، لا تعني فقط المساهمة في العمليات الانتخابية، أو اختيار المنتخبين المفضلين، ولكنها تعني قبل ذلك وبعده الانخراط الإيجابي والفاعل في مجال الاهتمام بمشكلات الشأن العام، في أبعادها السياسية، متى كانت منظمة أو ممنهجة. والمشاركة السياسية، واحدة من المهام الحزبية، تعني في قواميس اللغة وفي قواميس العلوم السياسية المختلفة، جوهر الديمقراطية وأساسها المتين، كما تعني في هذه القواميس، وضع القيم التي تنظم حياة الجماعة/ الجماعات. وتعني قدرة هذه الأخيرة على التأثير في صنع المؤسسات وصنع السياسات المؤثرة. وفي الأنظمة الديمقراطية، تعتبر العمليات الانتخابية، أهم قنوات المشاركة السياسية، بواسطتها يتم تنصيب المشرعين والحكام من طرف المحكومين، فهي تعكس مدى نضج النظام السياسي للدولة، ومدى سمو المجتمع في تطبيق مبادئ الديمقراطية، وهي أيضا تحدد حجم الكتل السياسية القائمة/ الحاكمة والمعارضة على الركح السياسي، وتحدد أهدافها وبرامجها وسياساتها الآنية والمستقبلية. 2/ الأحزاب السياسية والمشاركة والمشرع المغربي أوكل للأحزاب السياسية وللجمعيات ذات الصبغة السياسية، مهمة تأطير المواطنين وتمثيلهم في مؤسسات سياسية (الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والجماعات المحلية والغرف المهنية، تساهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم، ونظام الحزب الوحيد، نظام غير مشروع/ ف3 دستور 1996) وهو ما يجعل الأحزاب السياسية مدرسة للتربية على الديمقراطية، لا من خلال التأطير فقط، ولكن أيضا من خلال المشاركة والتفتح على قضايا المواطنين، والانفتاح على محيطهم الاجتماعي والاقتصادي. فبقوة القانون، أصبحت المشاركة السياسية في المغرب، من مهام القوى السياسية، فهي تعني الانخراط في الأحزاب السياسية وفي الجمعيات النقابية، وفي المنظمات الحقوقية، وفي كافة جمعيات المجتمع المدني، فكل مشاركة في العمل السياسي ترتبط بقدرة الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، على تأمين الديمقراطية وصيانة سلامتها داخل فضاءاتها وهياكلها، وبمدى قدرتها على جعل الديمقراطية قاسما مشتركا بين قواعد التنظيمات السياسية وبين قياداتها، ذلك لأن المشاركة الفعلية في العمل السياسي، تترجم الديمقراطية كفعل وممارسة على أرض الواقع، بجلاء ووضوح. ولاشك أن مسألة المشاركة في الوضع المغربي الراهن، حيث يسعى المغرب إلى تحقيق نقلة ديمقراطية نوعية، تصبح ذات ثقل سياسي كبير، لأنها تتحول بالتدريج عبر المسالك السياسية المختلفة إلى آلية يرى المواطنين من خلالها أنفسهم ومطامحهم. فكلما اتسعت دائرتها في الهياكل الحزبية، أو في العمليات الانتخابية، توسعت معها صورة السياسيات والقرارات التي تصنع الآني والمستقبلي في الأنظمة الديمقراطية، وكلما ضاقت تقلصت وتحولت إلى نشاط سلبي لا يمكن الاعتماد عليه أو التكهن بآثاره. فالأحزاب السياسية في الدستور المغربي، هي المسؤول الأول عن استقطاب وتأطير المشاركة، وعن التكوين الضروري، واللازم للمناضلين لتحمل المسؤوليات السياسية، بمراكز التشريع والقرار كما بمراكز المعارضة، وعن إيصال العناصر المؤهلة منهم للإطلاع بالمهام السياسية في كل مستوياتها... وبالتالي هي المسؤولة عن وصولهم إلى مراكز القرار بالدولة، لكن أوضاعها الداخلية، المهددة باستمرار بالانفجارات والتداعيات، وضحالة الثقافة السياسية لدى بعضها، وتهافت زعماء بعضها الآخر على المناصب والإمتيازات، أدى في نهاية المطاف على تعميق العزوف عن المشاركة في وجدان الشباب المغربي. 3/ المشاركة في الواقع المغربي والسؤال لماذا لم تقم الأحزاب المغربية بواجبها في استقطاب مشاركة المواطنين..؟ من الناحية التاريخية، تؤكد الوقائع المغربية، أن نسبة مشاركة المواطنين في العمليات الانتخابية، خلال العقدين الماضيين (1990-2010) كما في العقدين السابقين لها، اتسمت بالضعف، وترجمت إلى حد بعيد، تخلف الأحزاب السياسية المغربية، في مجالات الاستقطاب والتأطير، كما ترجمت من جانب آخر، أثر الأزمات الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية المتداخلة على مسألة المشاركة السياسية للمواطنين. إذ اكتفت كتلة واسعة من الشعب المغربي، وصلت أحيانا إلى ستين في المائة (60%) بالتفرج على الأحداث، متخلية عن حقها الدستوري في المشاركة، وهو ما جعل الملك الراحل/ الحسن الثاني، يوجه النداء تلو الآخر، إلى الشباب المغربي، للمشاركة والإنخراط في العمل الحزبي، وإعطاء المؤسسات الحزبية دورها في صيانة مستقبل الديمقراطية على اعتبار أن المشاركة السياسية للمواطنين، تمثل أمرا حيويا وهاما للبلاد. فدعا غير ما مرة إلى خلق قنوات اتصال مختلفة لاستقطاب الشباب إلى العمل السياسي، وتأهيلهم داخل المؤسسات الحزبية، ليلعبوا دورهم في الحياة السياسية. لكن هذه النداءات والدعوات لم تعط النتيجة المرجوة، وتجلى ذلك بصراحة ووضوح في كافة الانتخابات التي عرفها المغرب خلال الأربعين سنة الماضية، إذ سجلت المصالح المختصة بوزارة الداخلية، عدم التحاق ملايين الشباب بمواقع الاقتراع، وهو ما يعبر عن رفض كتلة واسعة من الشعب المغربي، التعامل مع النشاط السياسي عموما، والانتخابي على الخصوص. وفي عهد المغرب الجديد، استأثر موضوع التأطير السياسي، والمشاركة باهتمامات جلالة الملك محمد السادس، ففي خطابه أمام البرلمان (سنة 2000) أكد جلالته، أن إنجاز التنمية والديمقراطية والتحديث، يتطلب تحسين وتقوية هياكل الوساطة والتأطير السياسي، المتمثلة في الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والجمعيات ووسائل الإعلام، وتوسيع المشاركة على كل المستويات المحلية والجهوية والوطنية. وفي خطاب العرش (سنة 2001) أكد جلالة مرة أخرى، أن دينامية المجتمع المدني وعناصره النشيطة التي لم تجد نفسها في بنيات المجتمع السياسي، تعد مدعاة لهذا الأخير لتأهيل أدواته وتجديد هياكله وتغيير أساليب عمله، وإيلاء العناية القصوى للقضايا اليومية للمواطنين. وفي العاشر من دجنبر 2002 أعلن جلالته عن قراره تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة، وهو القرار الذي يشكل مبادرة متميزة من شأنها أن تساهم في بلورة وتكريس حق الشباب في المشاركة، وفي تحقيق ذاته والمحافظة على حقوق وأدواته السياسية. لكن في الانتخابات السياسية للسنوات العشر الماضية جاء التأكيد على استمرار العزوف العام عن هذه المشاركة، وفي نظر العديد من الفاعلين والباحثين في الحقل السياسي المغربي أن هذا العزوف يعود إلى عوائق وأسباب جوهرية، منها الحزبي... ومنها الإداري نتوقف عند البعض منها في هذه الورقة. 4/ العوائق الحزبية إن العزوف عن المشاركة السياسية للشباب وكافة المواطنين، في أبعاده الفكرية والاجتماعية، يعود في نظر العديد من الباحثين والمهتمين والخبراء، إلى ضعف الأداء السياسي للأحزاب المغربية، المتمثل في لا ديمقراطية الكثير منها، وفيما تستند عليه في تنظيماتها من منطق إقصاء الكفاءات والاعتماد على زعامات هرمة مهترئة تقليدية، لا تمثل من حيث خصائصها الفكرية والنفسية الاجتماعية، ما تعنيه الزعامة في مفاهيم العلوم الاجتماعية، فهي على المستوى التربوي والاجتماعي لا تمثل زعامات سياسية، يمكن للمواطنين وللشباب خاصة أن يتخذوا منها مرجعية فكرية، وهي لا تملك مقومات الزعامة في أبعادها القيادية وجاذبيتها الكارزمية السيكولوجية والثقافية، بقدر ما تملك سلطا إدارية توفر لها مواقع بيوقراطية معينة. وأكيد أن الوضعية الحزبية للبلاد، وهي وضعية كما هو ملاحظ من طرف الجميع، تشتكي من سلبيات لا حصر لها، تعكسها مسلسلات انقسامات والانشقاقات ووضعية الديمقراطية الداخلية، ووضعية الزعامات والنخب القائدة، وحالات التفريخ العشوائي التي عرفتها الساحة الحزبية المغربية، منذ بدايتها وحتى اليوم، بسبب صراعاتها الداخلية أو بسبب عدم أخذها بالديمقراطية، وهذه الوضعية لا يمكنها أن تفسح المجال أمام المواطنين، وأمام الشباب خاصة للمشاركة السياسية الإيجابية. لذلك فإن عزوف المواطنين عامة، والشباب بشكل خاص عن المشاركة في العمل السياسي، وفي الانخراط بالأحزاب السياسية، لا يعني فقط رفضهم للنهج الذي تتخذه هذه الأحزاب للاستقطاب والتأطير، ولكنه أيضا يعني رفضهم أن يكونوا مجرد أصوات توظف في الانتخابات أو من أجل تحقيق مصالح ليس مضمونا أن تكون من صميم مصالحهم أو مصالح مجتمعهم، بل قد تكون مصالح أخرى يوظفون لتحقيقها. بل قد تكون هذه المصالح ضد اندماجهم المنتج في المجتمع، وضد الأفكار التي يحملونها عن الديمقراطية، وعن المشاركة في تدبير الشأن العام. 5/ العوائق الاجتماعية والاقتصادية إضافة إلى العوائق الحزبية والإدارية، يساند عزوف المواطنين والشباب منهم خاصة، عن المشاركة السياسية، عوائق اجتماعية، اقتصادية، تتمثل في تراجع الفكر التنويري والحداثي في المنظومة التعليمية، إذ عرفت شعبة الفلسفة انطلاقا من عقد السبعينات، حصارا قويا، (فاحتفظ بتدريسها فقط في كلية الآداب بالرباط وفاس) وهو ما يعني إيقاف آليات النقد والتفكير العقلاني في ظل التحولات المجتمعية التي عرفها المغرب ابتداء من تلك الفترة، وفي بروز أزمة اقتصادية حادة، كرست مظاهر بطالة الشباب المتعلم، الحامل للكفاءات العلمية والمهنية، مما أدى بتمزقه النفسي والقيمي وإلى يأسه وانزلاقه في السلوكات الانحرافية/ وتطرف شرائح واسعة منه سياسيا ودينيا، وتهميشه وحرمانه، وهي عوامل لا يمكنها سوى مواجهة «المشاركة» بالمرصاد والنفي. إن البطالة والفقر ومظاهر الفساد المتعددة الأهداف والتوجهات، مازالت تشكل صورة لوضعية معقدة، تقول عنها الأرقام أشياء مخفية، تتحول نتائجها إلى أسلحة فتاكة ضد المشاركة السياسية لكافة المواطنين وبالتالي ضد التنمية والديمقراطية وحقوق الانسان، وضد كل الأدوات النفسية لكل فعل ولكل تنمية. 6/ النخب والمشاركة، ما العلاقة؟ والسؤال اليوم، وبعد أن أصبح العزوف عن المشاركة السياسية ظاهرة بارزة في الحياة السياسية المغربية،ما هي مسؤولية النخب، وما هو دورها في إعطاء هذا الحق الإنساني/ الديمقراطي، موقعه على أرض الواقع؟ إن وضعية المشاركة، تقربنا حتما من وضعية النخب السياسية، حتى وإن كانت كرونولوجيا الأحزاب المغربية المختصرة، قد قربتنا منها بمعطيات أخرى، إذ تبدو تركيبتها وتموقعها بالحقل الحزبي، وكأنها ما زالت بعيدة عن الطموحات الوطنية وعن تشييد مجتمع ديمقراطي/ حداثي/ قادر على الانتقال وعلى مواصلة التحدي. فهذه النخب ليست بعيدة عن الوضعية المتردية لأحزابها، سواء تلك المتسمة ب»الوطنية» أو المتسمة ب»السلطوية» فهي في الواجهتين تتحمل المسؤولية الإنتاجية والخدماتية لأحزابها وتتحمل مسؤولية التنظيم والتكوين والتأطير والتواصل والتنظير داخل هذه الأحزاب. إن النخبة التي تشمل المؤثرين على المستوى الحزبي، وعلى مستوى مختلف القطاعات المتصلة ب»الفاعلية» السياسية، أصبحت الميكانيزمات الهيكلية، تمكنها من ربط علاقات بكل مجالات الدولة، من خلال الفضاءات التنظيمية لأحزابها، ولكنها في ذات الوقت، وبسبب الإطار الديمقراطي الضعيف الذي تعمل من خلاله، أصبحت بعض هذه النخب عاجزة عن استيعاب التطورات التي يعرفها المجال السياسي المغربي، بسبب انتمائها لأجيال مشحونة بثقافة وتجارب «سابقة» ترفض تجديد ذاتها وثقافتها وهياكلها وأيضا بسبب أوضاع أحزابها الداخلية، التي أصابها النخر والعياء والفوضى، لأسباب أشرنا إلى بعضها في صلب هذه الورقة. إن هذه النخب، بمستوى تكوينها الفكري السياسي، أصبحت صورة مطابقة للمؤسسات التي أفرزتها، فسواء بالنسبة للنخب التي ارتبطت بمسار «المعارضة» التاريخية، أو التي شكلت الأمل في وقت من الأوقات، تبدوا وكأنها عاجزة عن استيعاب التطورات الحاصلة في الحقل السياسي، بسبب الإنغلاق حول كاريزماتها القديمة، أو بسبب ثقل العقلية التجريبية المفتقدة إلى الأفق النظري البعيد، وإلى إفراز تحاليل وتصورات جديدة مواكبة للتطورات المعاصرة. إن تجديد النخب في وضعيتنا الحزبية، أصبح لا يحتاج فقط إلى عقد مؤتمرات وفسح المجال أمام النخب الشابة، للتسلق والظهور، ولكنه بالأساس يحتاج إلى إلى شيوع ثقافة جديدة قائمة على روح شورية ديمقراطية، تؤمن بالمشاركة بدل الإقصاء، وتتحلى بحد أدنى من التواضع للإنصات والاستفادة من الآخر، بدل الانغلاق داخل الأنانية والذاتية والاستعلاء على الأطراف السياسية الأخرى، وإن الندوات والمؤتمرات الحزبية ليست سوى حلقة من حلقات مسلسل يجب أن يكون متكاملا لضمان تجديد النخب وتفعيل مجموع مناضلي الحزب للإسهام الفاعل والبناء، وهو ما يعني إشراك الشباب وفسح المجال أمامه في كل الخطوات والمبادرات والخطط الحزبية. طبعا لا توجد هذه النخبة الشابة اليوم في مقدمة المؤسسات الحزبية للأسباب المذكورة وليست في مواقع القرار بسبب التلكؤ الكبير من قبل الفاعلين التقليديين والذي يسيطرون على مواقع أصبحت مملوكة لهم بحكم العرف والتقليد... ولكن مع ذلك، عليها أن لا تيأس ولا تتراجع. ليس بسبب التدويل الديمقراطي، ولكن لأن المتغيرات الطارئة على الوضع السياسي المغربي العام وهو في قلب الألفية الثالثة، أصبحت تفرض عليه، وأكثر من أي وقت مضى، تأهيل هذه النخبة لتقوم بدورها القيادي، في مغرب يشكل الشباب عموده الفقري، وقلبه النابض وعقله المفكر، ولن يتأتى ذلك دون إعادة النظر في التنظيمات الحزبية وتجديد هياكلها، وتطوير وسائل عملها ومعالجة السلبيات التي علقت بها. لذلك يرى العديد من المهتمين والباحثين والفاعلين السياسيين أن الأمر يتعلق أولا بالتربية على الاستخلاف داخل المؤسسات الحزبية وهو ما يعني التربية على الاختيارات الحرة الشعبية المحتكمة إلى قواعد الديمقراطية، فلا يمكن للنخب أن تتجدد ولا للمشاركة أن تتحقق خارج شروطها، أي إلا إذا كانت مستندة على أدوات تربوية، ومرتكزة ومستندة على الثقافات السياسية الطلائعية والمعاصرة، وعلى البرامج الواضحة للتأهيل، وعلى قيم الحداثة والشفافية والتعاطي الديمقراطي، وهي شروط تفرضها قوانين والديمقراطية، التي تتخذها الأحزاب/ كل الأحزاب أرضية لها ولنضالاتها من أجل التنمية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة. أفلا تنظرون..؟