على سبيل الافتراض لنفترض جدلا أن ملكا ما، في المجرد، رزق بتوأمين ذكرين حقيقيين، تقارب درجة تطابقهما المائة بالمائة، ما ذا سيكون عليه مآل الملك اللاحق؟ ما درجات الاختلال التي سيحدثها الجسد التوأم في معايير اختيار ولي العهد وريث الملك؟ هل سيتمتع الملك اللاحق بمطلق واحديته و تفرده؟ كيف سيدير كيفيات وأشكال ظهوره؟..... قصدنا من هذا الافتراض إثارة الانتباه إلى كون الجسد ولو في درجته البيولوجية الصرف يوجد في صلب رهانات كل سلطان سياسي مطبوع بالقدسية و الواحدية. وحده الجسد يدفع بالشبه إلى حدوده القصوى مخلخلا بذلك صفاء وتفرد الواحد بأحاديته سواء كان قدسيا متعاليا أو قدسيا سياسيا.جسد التوأمان جسد مشترك أو مقتسم، جسد مضاعف أو نظير، وبحكم طبيعته تلك يخلق الاضطراب والفوضى في الأمن الدلالي السياسي لكل سلطة سياسية قداسية. في المجال الطقوسي يرفع الجسد التوأم الام إلى مقام أهل البركة. انها من تمكن من ولادة الجسد المضاعف. لقدأبدع رحمها في صناعة الواحد المنشطر جسديا إلى الشبيه وشبيهه أو النظير ونظيره، والذي يربك نظام الرؤية ويهدد كل الأقيسة المنطقية للهوية. قدرة الرحم تلك تبهر ومآلاتها تخيف ولا مخرج من المأزق سوى بتلاوة صلاة طقوسية تحمي من الأذى وطلب للبركة يشفي من المرض أو يقرب النعم. أما في المجال السياسي يحدث الجسد التوأم شرخا في بنية السلطان السياسي القدسي: ملك بجسدين أو جسدين لملك واحد. هو المسخ بلغة الأساطير القديمة أو الانوجاد على ضفتي القداسة والدناسة. إنه الإرباك الأكبر و الذي من مؤدياته حسب ف. فيكتور تورنر زرع التناقض في البنية السلالية والوراثية للملكية والتشويش على أنماط حضورها العمومي .(1) من الافتراض إلى الفرضية يطرح الجسد بشكل عام سؤال الحضور والظهور الملكيين، في حين ينحدر الجسد التوأم نحو سؤال الوجود المثنى للجسد الملكي. بين سؤال الوجود والحضور و الظهور يظل الجسد القلعة الصلبة والصعبة الاقتلاع لحضور المقدس في تجلياته السياسية والسياسة في تجلياتها القدسية. الجسد موطن بيو- سياسي للمقدس. إنه ما به يتحول المقدس إلى معيش طقوسي والمعيش الطقوسي إلى معيش سياسي. بفكرتنا الموجهة هاته نقصي ضمنيا فكرة الزواج المسيحي بين المقدس و المجتمعات العتيقة فقط ، و نقصي إلى جانبها كون العلاقة بين الجسد والمقدس لا تخرج عن نطاق كونها علاقة تاريخية ليس إلا. الجسد و المقدس : في التجلي الطقوسي. ما المقدس؟ وما نوعية صلاته بالجسد؟ سؤالان تعترضهما صعوبات جمة ناتجة بالدرجة الأولى عن صعوبة تحديد ماهية المقدس بشكل واضح لدرجة يمكن القول معها أن الإبهام لم يعد خاصية لصيقة ومؤسسة للمقدس ،بل أصبح سمة من سمات الكتابات والأبحاث التي تحاول تحديده وتعريفه. يعتبر الباحث ر. ماكاريوس(2) أن البحث في المقدس في حد ذاته إبطال لمفعول قدسيته، بل يمكن اعتباره شكلا من أشكال انتهاك المحرم.إن البحث في المقدس تحويل له الى موضوع شبيه بجميع موضوعات الفكر، موضوع يقال باللغة ويفكر بها وفيها، الأمر الذي يخضعه لمنطقها وعقلانيتها الداخلية، وهو ما يدخل على المقدس ما هو غريب عنه و متعارض معه. لكن ألا نكون بهذه الكيفية قد ارتكزنا على تعريف للمقدس من حيث هو ما لا يمكن إخضاعه لمنطق اللغة والبحث؟ أي من حيث هو ما يفارق المجال الدنيوي ويتعالى عنه؟ ألا يكون قول ر.ماكاريوس تعبيرا فقط عن شكل من اشكال التورط في فضاء المقدس، من حيث هو ما يعرف ولا يعرف أو يحدد. ما يفارق عالمنا الإنساني ونرغب في نفس الوقت ضبطه و إخضاعه لآليات تفكيرنا؟ وهل انتهاك المحرم شيء مفصول عن دائرة المقدس أم شكل من أشكال الاقتراب منه والانخراط فيه؟ إن افتراض إبطال مفعول المقدس بفعل بحثه وتفكيره يحيل على تعريف معين للمقدس، بوصفه ما ينتفي بحلول ما يعارضه ويغاير طبيعته. وقد أرسى إ.دروكهايم بهذا التعريف البحث في مجال المقدس. يحدد دوركهايم (3) قدسية المقدس بما يعارضها بشكل كامل مع مجال المدنس . فالمقدس لا يلتقي بالمدنس إلا لكي ينتفي احدهما ويظل الآخر قائما. وبذلك يتشكل طرف بوصفه نظاما خالصا ومتجانسا و مختلفا ومعارضا و موازيا للطرف الآخر. و بقدر ما يحيل المقدس داخل سياق تعارضه مع المدنس، إلى ما هو طاهر و خالص ، فإن المدنس يحيل إلى ما هو دنس ونجس. المقدس في رأي دوركهايم متماثل مع الإلهي و بما أن هذا الأخير ابتكار جمعي فإنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد. إنه الوجه المفارق والمتعالي لحياة الجماعة الدنيوية و بحكم كونه كذلك لا يستطيع التعايش مع ما يعارضه و ينفيه سوى بكيفية موازية ومفارقة. وعلى الرغم مما يمكن أن نخالف أو نعترض به على هذا التصور، فقد أثار وأرسى هذا التعريف الى جانب العمل الذي رافقه به مارسيل ماوس عن الهبة والسحر(4) عنصرين أساسين ظلا لصيقين بكل الأبحاث البعدية في هذا المجال. يتمثل العنصر الأول في إبهامية و غموض المقدس و الثاني كون هذا الابهام المحايث للمقدس قد فرض طريقا خاصا على مجال البحث يمكن نعته بالتعريف بالخلف. فكل سؤال عن المقدس يحيل الى ما يعارضه، أي الى المدنس. لقد عملت الأبحاث الكثيرة التي جاءت بعد إ.دوركهايم،بأشكال وزوايا نظر مختلفة، على البحث في كيفيات رفع التعارض والتوازي بين المقدس والمدنس من جهة ، وفك وصال التماهي بين المقدس والديني من دون ان تنفي التشاركات و التعالقات الحاصلة بينهما. ليست العلاقة بين المقدس والديني سهلة وبسيطة (5) . يتجلى تعقد العلاقة تلك في الاختلافات الحاصلة بين الباحثين حول تعيينها. فمقابل من يجعل المقدس متماثلا مع الديني (6) نجد من يؤكد الانفصال التاريخي بين المقدس والمؤسسات الدينية (7). ومقابل من يجعل الديني مؤسسا للمقدس (8) نجد من يؤكد ان الديني لا ينشئ المقدس و يؤسسه بل يحاربه من دون هوادة أو رحمة...(9) . في نفس سياق تحديد طبيعة العلاقة بين الديني والمقدس يقترح ميرسيا إلياد مفهوم التجلي. المقدس ليس متماثلا مع الإلاهي بل هو تجل له (10) . المقدس تجل للإلاهي في الزمان و المكان و الجسد والعمران... ومن حيث هو كذلك تظل إمكانية العبور من الدنيوي الى المقدس والعكس قائمة على الدوام. لا توازي أو تعارض مطلقين بين العالمين. تلعب الطقوس حسب م. إلياد دور الجسر الذي يسمح بحدوث هذا العبور دون مخاطر ، من الزمن الدنيوي الى الزمن القدسي. تسمح الطقوس بذلك لأنها تعيد تحيين الزمن الميثي الأصلي من حيث هو الزمن المؤسس للأزمنة الوجودية والتاريخية. لا يقع م. الياد في فخ ثنائية الإنسان التقليدي والمعاصر، مثلما لا يعتبر المقدس سمة للمجتمعات التقليدية فقط بل انه تجربة يعيشها الإنسان ككل، من حيث هو كائن منفتح على العالم و متواصل معه بنفس اللغة التي يجسدها الرمز. فإذا ما كان العالم يتحدث الى الإنسان عبر النجوم والأجرام السماوية والنباتات والحيوانات والوديان والأنهار...فإن الإنسان يجيبه بالحلم والتخيل والقدرة على الحياة و الموت بشكل متجدد، تلك القدرة التي تضمنها وتحققها طقوس العبور. لقد أصبح المقدس مع إلياد حالا في جميع اشكال المكان والزمان والوجود المادي والحي، مثلما اصبح بالإمكان عبور هاته التجليات المقدسة للعيش في زمن الآلهة وذلك بفضل الحكاية المقدسة (الأسطورة) (11) او الفعل الجسدي الطقوسي. لقد اغنى ميرسيا الياد، حسب س. تيل (12)، البحث داخل المقدس بمفهوم التجلي الذي سمح بتجاوز الثنائيات التعارضية ومن ثم ارساء التواصل بين المقدس والدنيوي. لقد فتح الياد عبر مفهوم التجلي طريقا للجسد كي يستوطن مجال القداسة رغم دنيوته . فالجسد أس الفعل الطقوسي وهذا الأخير أس كل عبور جسدي من الدنيوي نحو المقدس، من دون مخاطر.تتمم أبحاث روجي كايوا (13) هذا الطريق وإن بمرجعيات وتصورات أخرى. لا ينفي ر. كايوا تعارض المقدس مع الدنيوي على اعتبار ان المقدس مشكل من طاقات و قوى في حين ان الدنيوي مشكل من مواد و أشياء، لكن الى جانب ذلك يعتبرهما ضروريين لاستمرار الحياة وتطورها. يتميز المقدس بسمتين متعارضتين. إنه مخيف و لذلك يستدعي الحذر،و هو مرغوب مما يستدعي الجسارة. و بما ان التعارض بين الخاصيتين هو تعارض تكاملي فان ضرورة تنظيم العلاقة بينهما تبدو ضرورية. تلعب الطقوس حسب كايوا هذا الدور فهي تنظم العلاقة التعارضية – التكاملية سواء على مستوى المقدس في ذاته، او في علاقته بالدنيوي. في المجال الطقوسي يبدو الحديث عن التعارض بين المقدس والدنيوي شيئا غريبا عن المقدس ذاته. فالطقوس تكشف الكيفية التي يشرف بها نظام العالم على توزيع المقدس، تلك الكيفية التي يسمها غموض المقدس من جهة و انشطاره الى مقدس احترام يحيل على نظرية المحرمات و مقدس انتهاك يحيل على نظرية الحفل. يرتبط مقدس الاحترام بالوضوح الاجتماعي بينما يتصل مقدس الانتهاك بالبذل والهدر والإسراف. داخل مقدس الانتهاك وفضائه الطقوسي لا سلطة هنالك، حسب كايوا، سوى سلطة الجسد وهو يبدد ذاته و يهدر طاقاته من دون احترام للممنوعا ت أو المحرمات أو القواعد الضامنة للوضوح الاجتماعي. تسمح الطقوس لمجموع البنيات الرمزية التي يتجلى بها ومن خلالها المقدس بان تصبح مجسدة في أفعال و سلوكات جسدية مرئية ، منتظمة ودالة. سبب ذلك راجع لكون الطقس هو في آخر المطاف ممارسة أو براكسيس(14) يشغل الجسد موقعه داخل حقل المقدس ،إذن،بفضل الطقوس. وسواء كانت هذه الطقوس محكومة بالبعد الرمزي القدسي أو بالبعد الرمزي السياسي فان الجسد يظل الكيان الحامل والمظهر والموصل لهاته الأبعاد. في المجال الطقوسي الرمزي يعتبر الجسد الطريق الملكي لعبور البركة(15) . يمتلئ الأتباع والزوار ببركة و ليهم المقدس او شيخهم المبجل بفضل سلوكات جسدية أساسا(16)، مثل تقبيل الضريح ( ما يقابله تقبيل يد السلطان وكذا بذل الجهد في ملامسة حصانه او كسوته او أصابعه) وتلمس كسوته، ثم تمرير اليدين على الوجه والصدر و كأن الأمر يتعلق بإلصاق بركة و رائحة الشيخ الولي على جلد الوجه والقلب. بعدها يتم الجلوس الى جانب قبره والإسرار له بالمطالب والشكاوى على هامش ذلك يتم ملء الجسد بكل ما يوجد داخل فضاء الضريح حيث يتم شرب مائه وشم رائحة بخوره والنوم تحت ظل حضوره و الاستماع للأذكار الملقاة في حضرته. بفضل هاته الأفعال الجسدية الرمزية يتم إنجاز اللقاء المباشر مع عالم الشيخ المقدس و كذا التشبع ببركته، ونتيجة لذلك تتحول «الروح» الى عضو جسدي، مثلما يتحول الجسد الى عضو رمزي قادر على جعل المقدس واللامرئي والمتعالي يتخذون صيغة الظهور والحضور. في المجال الطقوسي السياسي يلعب الإظهار الجسدي للمقدس أدوارا متعارضة. انه معبر لتجديد الشرعية السياسية وتغذية متخيلها السياسي الرامي الى صهر التاريخ والماضي بكل أساطيره ووقائعه مع الحاضر السياسي. وذلك قصد ملء فراغات السلطان السياسي.يتعلق الأمر بما سماه جورج بالانديي بمسرحة السلطان السياسي (17) و إضفاء الطابع المشهدي والدرامي على حضوره العمومي. بالموازاة مع ذلك قد يلعب الإظهار الجسدي للمقدس نوعا من المسرحة المضادة والتي تحول الجسد الملكي بكل عدده الطقوسية الى موضع للسخرية والنقد. يورد بلانديي في هذا السياق طقس سلطان الطلبة المغربي والذي بحكم طبيعته تلك تعرض للحظر منذعقود كثيرة.وحده الجسد له القدرة على التنكر، أي على ارتداء جلد جسد الآخر ومن ثم محاكاته لدرجة تفكيك مركزيته و إرباك واحديته. مع طقس سلطان الطلبة يوضع الرمز الملكي (تاج الملك والذي هو امتداد لراسه) الاكبر موضع مزاد علني يتم على إثره شراء السلطنة من طرف من يقع عليه المزاد.بعدها يشغل الطالب الذي رسا عليه المزاد عرش المملكة ويلبس جسد الملك بكل أغطيته الرمزية ليعيش إثر ذلك لحظة العبور الى الوضع المقدس بكل عدده الطقوسية:الموكب السلطاني ، المظلة السلطانية،امتطاء الجواد، سير جمهور الرعية والحاشية على الأقدام... و ممارسة السلطة طيلة أيام الطقس بطريقة ساخرة وهزلية بخطبها ومراسيمها وأعضاء حكومتها أو مخزنها.. يخترق الجسد عالم القداسة، مثلما يخترق المقدس الجسد، وبين الفعلين يحضر الطقس كفضاء ضامن لسلامة الاختراق المتبادل. حينما يتشبع الجسد بالمقدس يصبح مخيفا ومن ثم داعيا للاحترام و التبجيل و التقديس وفي الوقت عينه موضع رغبة وافتتان ومن ثم داعيا الى الانتهاك و محفزا على الامتلاك.خاصيات الجسد المقدس هاته هي ما تجعله و المقدس يتقاطعان الى ابعد الحدود. أليس المقدس هو ما يخيف و يبهر ويفتن و يجذب في الآن نفسه؟ الجسد والمقدس: في التجلي السياسي حينما يكون الجسد ملكيا تتضاعف درجة قداسته ، مثلما ترتفع درجات قربه وتماهيه مع المقدس. جسد الملك مخيف لدرجة الرهبة ، و جاذب لدرجة الافتتان . من جسد الملك تستقي السلطة جاذبيتها ورهبتها ومن المقدس يستقي الاثنان سماتهما تلك. لاستجلاء هاته الازدواجية ميدانيا ستخلق الأنثروبولوجيا بفضل أعمال كثير من أعلامها مجالا بحثيا مميزا في هذا السياق. الملكيات المقدسة هو الحقل الميداني الذي تمدنا به الأنثروبولوجيا للكشف عن فعالية المقدس الجسدية في الحقل السياسي ، أو بتعبير آخر بيان موقع الجسد من السلطة و المقدس. يكثف ج .فرايزر(18) خاصيات الملكيات المقدسة في ثلاث: --يحتضن الوجود الفيزيقي و الروحي للملك المقدس سلطة فوق طبيعية يمارسها إراديا أو رغما عنه. --يعتبر الملك المقدس المركز الدينامي للكون. وبناء عليه تكون أفعاله التي تؤثر في سير الكون خاضعة لمراسم و طقوس صارمة. --على الملك المقدس أن يقتل إذا ما خانته قواه الجسدية أو الروحية. خاصيات ثلاث تكثف تداخل المقدس والدنيوي السياسي في شخص الملك وتكشف عن الموقع الذي يشغله الجسد في هذا التداخل والتشابك. قتل الملك في الملكيات المقدسة الإفريقية ينبني حسب فرايزر على فكرة ضرورة تمتع الملك بالكمال الجسدي أكثر منه الكمال الروحي. في مقام آخر(19) يوضح نفس الأنثروبولوجي بشروحات أكثر: يقتل الملك في حالة ما بدا عليه نوع من أنواع النقص الجسدي من مثل فقدان أسنانه أو شعره أو ضعف بصره.... لقد ظلت القبائل الافريقية متشبعة الى حدود المطلق بفكرة تمتع الجالس على العرش بالكمال الجسدي. لا حق للملك في أي نقص جسدي وإلا تم خلعه وقتله.مبررات ذلك كون النقص الجسدي يعطل قدرات الملك على استدعاء خيرات الطبيعة ونعمها من أمطار ومحاصيل زراعية وصيد ثمين مثلما يضعف قدراته على الإدارة الاجتماعية والسياسية لجماعته. في السياق نفسه، يدقق الأنثروبولوجي الفريد أدلر(20) فكرة ازدواجية السلطان السياسي المقدس لدى الملكيات الإفريقية المقدسة وذلك عبر التركيز أكثر على العدة الطقوسية السياسية التي تعلن وتذكر بقدسية ودنيوية الملك المقدس في الآن نفسه. ازدواجية تشخصها حسب نفس الباحث طبيعة الجسد الملكي المزدوجة :لأن السلطان السياسي موزع بين السياسي الدنيوي والديني القدسي فإن جسد الملك ببعده الديني القدسي يكون جسدا انثويا. إنه جسد /أم بحكم اتصاله بالطبيعة والأرض بما هما منبع و مصدر الوجود بكل خيراته. وببعده السياسي الدنيوي يكون الجسد الملكي جسدا ذكوريا. إنه جسد/أب بحكم رعايته لجماعته وسهره على حفظ نظامها الاجتماعي و قدرته على ممارسة الإكراه باسم القواعد المرسومة. طبيعة الجسد الملكي هاته تمنحه تفردا وحقوقا خاصة. وحده الملك له الحق في التمتع بالغنى و كثرة النساء و البهائم والمواشي والممتلكات، لأنه الشخص الوحيد الذي يمكن شعبه من التمتع بهباته وعطاءاته وكرمه مع كل عيد أو ذكرى ملكية مقدسة. فكرة اشتراط الكمال الجسدي في الملك الإفريقي المقدس ليست غريبة عن الحقل السياسي العربي الإسلامي، مثلها في ذلك مثل خاصية الانتماء المزدوج للملك الى مجالي المقدس والدنيوي. وإن كانت أنماط حضورهما تستقي بلاغتها وعددها الطقوسية من السياق الثقافي والديني العربي الإسلامي. اتسمت مؤسسة الخلافة بما هي مؤسسة سياسية دينية ووجه للسلطان السياسي العربي الإسلامي المقدس بسمات أو أبعاد أربعة توضح تشابكات الدنيوي المقدس في شخص الخليفة الإسلامي: -- بعد الواحدية :يستقي هذا البعد وجوده العام من الطابع الأحدي والتوحيدي للرسالة الإسلامية. فأحدية وواحدية الله داخل سياق التعالي الديني يقايلها واحدية الإمام داخل سياق السياسي الدنيوي. و مثلما لا يمكن للكون أن يساس بإلاهين أو أكثر فإن الأمة لا يمكن أن تساس بإمامين أو أكثر وإلا حصل الفساد في في نظام الكون و نظام المجتمع. -- بعد الشخصنة: ويتجلى في كون الإمام الخليفة يركز في شخصه كل السلط، وهو ما يجعل مؤسسة الخلافة قائمة بقوام الخليفة الإمام لا بمؤسسات الدولة. -- البعد التيوقراطي: إذا كانت الخلافة مؤسسة سياسية دينية ونظام اجتماعي سياسي فإنها تدخل في سياق التدبير الإلاهي لنظام الأمة الإسلامية، ومن ثم تكون مهمة الخلافة الكبرى هي إنجاز هاته المهمة الإلاهية. وما لفظ الاستخلاف (استخلفه لله في بلاده وارتضاه إماما على عباده) سوى أحد تجليات هذا البعد اللاهوتي. -- البعد الديني: وهو على صلة وطيدة بالبعد السابق ، حيث تعتبر مؤسسة الخلافة مؤسسة دينية بالدرجة الأولى. داخل هدا البعد لا يعتبر الدين شأنا دولتيا بل عكس هدا تصبح الدولة شانا دينيا. تستقي الأبعاد الأربعة السابقة شرعيتها من تمحور مؤسسة الخلافة حول نواة الإمام المصلي (أمير المؤمنين) مثلما تستقي هاته النواة شرعيتها و وظائفها من تلك الأبعاد في تشاكلها وتعاضدها. يتعلق الأمر إذن بسلطان سياسي مقدس مشروط في ظهوره وصلاته بعدة طقوسية قولية وسلوكية وبصرية. يعتبر الباحث إ. تيان (21) سخط السلاطين على الأشخاص والجماعات وغضبهم منهم بكل ما يلحق ذلك من استئصال لنفوذهم وجاههم وأموالهم، او اعتقالهم واغتيالهم في بعض الأحيان. ثم تدخلهم المباشر في حياتهم الشخصية سواء عبر تعيين أسماء مواليدهم أو اختيار زيجاتهم وأمكنة إقامتهم، وكذا الخوف العام من رفقتهم و صحبتهم اتقاء لشر تقلب أحوالهم وطباعهم وأمزجتهم، مظاهر للبعد المطلق لمؤسسة الخلافة الذي يجد سنده في بعدها القداسي. إضافة الى ذلك تشكل تسميات ونعوت الخليفة الإمام: السدة الشريفة والأعتا ب الشريفة... وسلوكات تقبيل اليد والإنحناء وأنماط الدعاء العدة الطقوسية التي تحول الطابع المقدس للخلافة الى سلوكات وأفعال جسدية مرئية وملموسة.(22). يشغل الجسد الملكي موقعا وازنا في تحقيق التوازن بين الانتماء القدسي والدنيوي للملك و كذا في تشخيصهما بشكل مرئي لحظات الظهور الخاص أو العمومي. في هذا السياق لا تغيب فكرة الكمال الجسدي للملك عن الحقل السياسي العربي الإسلامي وإن غابت فكرة قتل الملك الافريقي المقدس لتعوض بفكرة الخروج عنه (قتل رمزي وسياسي). يتحدث الماوردي في الأحكام السلطانية(23) عن ان الخروج عن طاعة الامام يحصل لشيئين: --جرح في عدالته و هو الفسق على طربين: -احدهما ما تبع الشهوة (ارتكاب المحظورات) – ما تعلق بشبهة(تأويل حدث شبهة لتصبح شرعية) --نقص في بدنه و يشمل نقص الحواس كالصم والخرس والأعضاء كذهاب اليدين أو ما يمنع من النهوض كذهاب الأرجل.... ووقع الخلاف في القبح لأن القبح يقلل الهيبة وفي قلتها نفور عن الطاعة و هو ما يمكن اعتباره نقصا في حق الأمة. تشكل الهيبة مبتغى الظهور الجسدي الملكي، ولأجل تحقيق المبتغى يخضع السلطان المسلم مثله في ذلك مثل الملك الافريقي المقدس الى مراسم وطقوس صارمة ينجزها طواعية أو رغما عنه. على الملك نفسه ان يلتزم بطقوس البلاط . داك ما يؤكده الأدب السلطاني ويقول عنه الباحث المغربي عزالدين العلام (24)بأنه يتجسد في التزام السلطان بمقتضيات سلوكية تضفي نوعا من الهيبة على شخصه وفضائه معا. من هاته المقتضيات حسب نفس الباحث ،ما يجب التحلي به مثل التجمل والصورة الحسنة والإقلال من الكلام و الابتسام بدل الضحك و تجنب تشبيك الأصابع أو إدخالها في الأنف و وضع اليد على اللحية و مد الأرجل و القيام والقعود و تحليل الأسنان و البصاق ...أما في اشكال الظهور العمومي فان الجسد الملكي لا يكتفي بتشخيص الهيبة فقط، ولكن يزاوجها بتشخيص طقوسي مرئي للقوة:امتطاء الجواد الملكي وسير الحاشية من فرسان وحجاب وأعوان وعلماء وقضاة و طبول ونفير وكلاب صيد وبغال محملة بما يلزم من مؤونة وشراب وكسوة... يحول الملك المقدس،إذن، الى معيش طقوسي جسدي ،مثلما يحول الجسد الملكي السلطة الى ظهور معيش مرئي وملموس، مشبع بالهيبة والرهبة والقوة. أجساد الملك يكثف عبد الله العروي،و هو المؤرخ المحنك، (25)تاريخ الملكية المغربية في شخص ملوكها وذلك عبر اعتماد معيارالصورة التي رسخها كل واحد منهم في زمن ملكه بكل حاله و أحواله. لقد رسخ المولى اسماعيل صورة السلطان الموسوم بالقوة و السطو والتعسف وسليمان صورة الإمام. انه عالم السلاطين وسلطان العلماء لأنه لم يكن بيده قوة رادعة ، فكان أن لجأ الى الشرع و الشرف.أما محمد الخامس فقد ورث عرشا تحت وصاية اجنبية و لم يكن تحت يديه ما يتصرف به : لا جيش ولا إدارة أو مال أو قضاء....ما بقي له سوى كسب «ولاء» الشعب .الحسن الثاني سيختار الحكمة الماكييفيلية القائلة: إذا كان لا بد من الاختيار بين أن يحبك الشعب آو يهابك، اختر الهيبة على الحب لأنها اضمن لسلطانك. وقد ظل وفيا لاختياره داك طيلة حكمه.لقد طبق الحسن الثاني الملك بشكل حرفي: لا تنازل لأي كان عن مسؤولية تسيير الجيش والشؤون الدينية والعدل و الأمن الداخلي والعلاقات الخارجية. القوة و الهيبة والشرع والشرف والسعي لكسب ولاء الشعب هي مقومات الملكية المغربية ، و التي يصهرها شخص الملك عبر توليفه بين القدسي والدنيوي .يستقي القدسي شرعيته من الشرع والشرف بينما يستقي الدنيوي شرعيته من التاريخ السياسي و الاجتماعي للدولة العلوية والذي يجعل منه الحاكم الوحيد الذي يأمر ويطاع لأنه يجسد القانون العام، المسيطر على العادات و التقاليد.ازدواجية الملك الفوقية والقيمية هاته تجد مرتعها في الجسد الملكي ذاته. للملك صاحب السلطان المقدس جسدان: جسد فيزيقي، وظيفي، فان.إنه الجسد الحيوي-البيولوجي.والآخر جسد خالد وسلالي ومقدس أو صوفي. تلك هي الفكرة العماد لأبحاث أنثروبولوجية خصت الجسد الملكي في ثقافات مختلفة(26).يشكل الجسد الملكي جسر العبور بين المرئي وغير المرئي.ذاك ما نسميه نحن، حسب عبد الله العروي دائما ، بالبركة. من لا بركة فيه ليس ملكا حقا وإن كان سلطانا. فهل يتعلق الأمر بجسد ملكي ثالث؟ لمؤرخ مثل العروي حدسه .جسد البركة هو الجسد الثالث الذي يقعد الجسد المقدس أو الجسد الولائي والصوفي في الجسد الفيزيقي ويمكنهما معا من التوحد والرسوخ في حياة ومتخيل الجماعة أو المجتمع.لم يكن الملك محمد الخامس يملك ملكا دنيويا بحكم شروط زمنه، لكنه لم يفقد بركته وقدسيته أو رغبته في كسب ولاء شعبه .لقد ظل ملكا بأجساد ثلاث. وبركته لم تتجسد في الهيبة او القوة أو توزيع النعم .،بل في الصبر والجلد والجمال. ذاك ما رسخه الجسد الثالث، جسد البركة في متخيل شعبه وكان أن رفعه المتخيل الجمعي ووضع صورته على وجه القمر.لقد احتجز الفرنسيون الجسد الفيزيقي و احتضن المغاربة جسد البركة المقدس وأعلوه فوق الجميع ، مستعمر وحركة وطنية. جسد البركة أو الجسد الثالث، أو بتعبير آخر الجسد الصورة، هو نفسه الذي ضمن، داخل متخيل المغاربة، نجاة الملك الراحل من سقوط طائرته أثناء المحاولة الانقلابية. يحكى عن الحدث كون الطائرة كان مخططا لها أن ينفذ وقودها وهي تحلق في السماء، وكان أن حصل ذلك، فأخذ الملك الراحل منديله وبلله بالعرق المتصبب من جبينه وطعم به خزان الوقود وأفلحت الطائرة في متابعة تحليقها إلى أن وصلت المطار. إنها الفعالية الرمزية لأجساد الملك وبالضبط للجسد الثالث، جسد العبور من الجسد الدنيوي الى الجسد القدسي، ومن الواقعي والسياسي الى الرمزي والمتخيل. في كتابه، صورة الملك، أو بورتريه الملك، يوضح لوي ماران، ما سردناه بكيفة أوسع وأعمق. (25) فالملك يمتلك أجسادا ثلاثة، واحد فيزيقي والآخر قانوني سياسي تجسده الدولة والثالث سيميائي قدسي. يلعب الجسد الثالث دور فاتح عمليات التبادل بين الجسد التاريخي والجسد السياسي، ويمكن نعته حسب نفس الباحث بصورة أو بورتريه الملك. إنه الجسد الصورة الذي ينجز، بشكل دائم ومتجدد، كرامة تحول الفرد الى ملك مطلق. كرامة تتمثل في الحضور الواقعي للمطلق داخل الجسد الملكي. وحدها التمثلات والمتخيل والإيديولوجيا تمتلك المقدرة لتبرير ذلك وعقلنته ومن ثم إضفاء الشرعية عليه. المراجع / الهوامش: 1—w.victor turner .le phenomene rituel. Trad.g.guillet.PUF ;1990 2—L ;LEVI ;MAKARIOUS ,le sacré et la violation des intérdits,payot,1974 3- émile,durkheim,les formes élémentaires de la vie religieuse,puf,1986 4—m.mauss,sociologie et anthropologie,puf,1950 5—j ,j,wunenburger,le sacré,puf,1981 6—j,cazeneuve,sociologie du rite,puf,1971 7—j,j wunenburger,ibid 8—x,tilliette, faut -il laisser le sacré aux ethnologues ?in,corps et ecrits, n,2, 1982 9—ibid 10—m,eliade, le sacré er le profane,gallimard,1965 11—m,eliade, aspect du mythe,gallimard,1963 12—x,tilliette,ibid 13—r, caillois,l'homme et le sacré,gallimard,1950 14—l,deheuch,introduction a une ritologie générale,in,anthropologie appliqueé, payot,1971 15—ن. الزاهي، المقدس و المجتمع بالمغرب الحالي ،أطروحة دكتوراه الدولة،جامعة محمد ابن عبد الله، فاس، 2004-2005 16—a,aouttah, anthropologie du pélirinage et de la sainteté dans le maraboutisme marocain, in,revue ibla,n,175,1995 17—g, balandier,le pouvoir sur scéne,ed,balland,1992 18—j,g,frazer,le rameau d'or,vol,le roi magicien dans la societe primitive, tabou et les périles de l'ame, robert lafont,1981 19—j,g,frazer, la mise a mort du roi divin, histoire,g,des religion, t,5 20—a, alfred,la mort est le masque du roi, la royauté sacreé des moundang du tchad,payot ,1982 21—e, tyan, le califa, cnrs,1954 22—g, waterbury, le comandeur des croyants,puf, 1975 23—ابي الحسن ..البغدادي الماوردي، الأحكام السلطانية، دار الفكر، بيروت، 1966 24—عزالدين العلام ،الآداب السلطانية ، عالم المعرفة ،ع:324،سنة 2008 25—عبد الله العروي ، من ديوان السياسة، المركز الثقافي العربي، 2009 26—يمكن الرجوع على سبيل المثال لا الحصر : -- kantorowicz, les deux corps d roi, gallimard,1989 --a,liarte, le corps , territoire politique du sacré, noesis, n, 12,2007 -- pierre michon, corps du roi, verdier 2002 -- nicolas ,vatin,le corps du sultan ottoman, revue des mondes musulmans et de la méditéraneé, novembre,2006 --j, legoff, dne histoire du corps au moyen age, paris,2003 27—louis, marin, le portrait du roi,minuit,1981