لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. لا غرو أن فينومينولوجيا الجسد مبحث جديد لم يكن له أن يتبوأ منزلةً في حقل الدراسات الفلسفية إلا مع الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل في النصف الأول من القرن العشرين. إذ استطاع هوسرل أن يقتحم هذا الميدان الخصب ويغير بشكل جذري التصور السائد عن الجسد وكذا الأهمية التي يحظى بها السؤال الفلسفي عن الجسد، وبذلك شكّل فكره منعطفا حاسما صار بموجبه سؤال الجسد مركزيا في التفكير لدى فئة غير يسيرة من أقطاب الفلسفة المعاصرة؛ لنذكر منهم فقط، على سبيل المثال لا الحصر، موريس ميرلوبونتي، غابرييل مارسيل، جان بول سارتر، ومشيل هنري. ومطلوبنا هنا هو الإمساك بخيوط القول الفلسفي عن الجسد كما تتجلى منتَظِمة عند الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي الذي يبدو أنه سلك نفس الطريق التي اجترحها أول مرّة إدموند هوسرل. فلنفحص هذا الأمر بتمعن إذن مسترشدين بما انتخبناه من المصادر التي سنشير إليها في موضعها المناسب. ينطلق السؤال الفلسفي عن الجسد في فكر مرلوبونتي بسعي حثيث لتحديد دلالة ما سماه: '' الجسد الخاص''، من خلال تمييز جسد الأنا عن أجساد الآخرين، من حيث هو عظم ولحم مرتبط بالحياة المتغيرة و المتحركة، والتي تشير إلى أنه يمتلك نفسا. وبالنسبة لميرلوبونتي ليس ''جسدي الخاص'' موضوعا في العالم يمكن تملكه كأي ''جسد موضوع''، فهو ليس جسدا مثل الأجساد الأخرى، من حيث إنه جسدي أنا. و هذا ''الجسد الموضوع'' الذي يمكن تجزيئه ودراسته على نحو علمي هو ''الجسد الذي يخصني''. إن ''الجسد الخاص'' هو في الآن نفسه ''أنا وما يخصني'' أو هو الجسد الذي هو ''أنا إياه''. والجسد الخاص هو جسدي بالمعنى الذي يشكل فيه بالنسبة لي حميمية الجسد الذي أعيش فيه أو أقيم فيه، الجسد الذي أحس به ''من الداخل'' إن جاز هذا التعبير. وهكذا، إذا كان لي جسد فهو بالضرورة الجسد الذي يكون في الآن ذاته الموضوع و الذات، وأنا أندمج فيه وأذوب. ولذلك يصعب إقامة فارق بين ''الجسد الموضوع" و''الجسد الذات'' مادام المنطق الذي يسود كينونته كجسد هو الوحدة أو الاتحاد . نرى إذن أن ميرلوبونتي قد سلك طريقا ينأى عن الأخذ بالثنائية الديكارتية أو بالنزعة الجوهرانية، وعمل على تناول الجسد في إطار فينومينولوجي مؤسسا لسؤال الجسد الخاص والبينذاتية، ولا ريب أن هذه المقاربة تُظهر ''الجسد الخاص'' كجنس ثالث للوجود يتجاوز ثنائية الوعي والموضوع. إن ''الجسد الخاص'' أو ''الجسد الذات'' ليس وعيا خالصا لأنه جزء من العالم، ولا هو موضوع صرف لأنه يضفي معنى على العالم. تمكن الفيلسوف بفضل اقتراحه فينومينولوجيا للجسد الخاص وكشفه عن الدور المنوط بها، من ترسيخ فكرة أن الجسد ليس مجرد موضوع، ولكنه يتجلى واقعا ملتبسا، فهو يتمظهر، من جهة، كجسد محسوس وكجسد حاس من جهة أخرى، أي كموضوع وكذات في الآن نفسه. اعترض ميرلوبونتي على ثنائية النفس والبدن الديكارتية، بالارتكاز على تحليلات ''الجسد الخاص''. فهو لا يرى أن هناك انفصالا بين الجسد والنفس ، بل الانسان، بخلاف ذلك، عبارة عن ''كلية'' أو ''كل'' حي لا يتجزأ، كما أن الجسد ليس وسيطا بين العالم والنفس، إن الإنسان هو الوحدة المركبة من النفس والجسد معا. ويضيف في هذا السياق كيف تُظهر لنا تجربة الوجود العيني أن الذات ليست شيئا من الداخل بل إنها في العالم، وأنها عندما تحضر فيه لا تُحس بأي نوع من الاغتراب أوالبرانية، بل وجودها في العالم كمثل شخص يقيم في بيته الذي يتصرف فيه كيف يشاء ويُحوله وبالتالي يعكس صورته. والجسد يحرك العالم ويشكل معه ''مجموعا''. ثم إن الوجود الجسماني يتصل بحيز مكاني محدد ويشترك في أشياء معينة وينغرس في الوجود بشكل متواصل وعلى أنحاء مختلفة. وبهذا المنظور لا يعتبر مرلوبونتي الجسد شيئا ولا مجموع أعضاء، ولا موضوعا للدراسة العلمية وإنما شبكة روابط منفتحة على العالم والآخرين، ومجالا خصبا ينطوي على غنى دلالي وقدرة على التعبير. والعالم هو المكان الذي تتحد فيه الجسمية مع الغيرية. وجدير بالذكر أن تحليلات مرلوبونتي حول سؤال ''الجسد الخاص'' تحيلنا باستمرار إلى جسد الآخر مثلما هو الشأن في دراساته حول اللمس والجنسانية وكذا عن الكلام . بيّن ميرلوبونتي الروابط بين الزمان والجسد مبتعدا هنا كذلك عن التأويلات الكلاسيكية ليرتكز على تحليلات الفينومينولوجيين. وقد اعتبر أن مسائل الجسد و العالم و الزمان مترابطة. لأن مكانية و زمانية الجسد تتخذان معناهما فقط في ''تواجدهما'' مع العالم، والجسد هو نواة الزمان وقاعدته الصلبة، إلا أنه '' يتواجد'' ويتواشج من خلال المكان والزمان مع الأجسام الأخرى ومع بقية الأشياء في قلب العالم نفسه. وإذا كان الجسد هوالوجود الزمني (في الزمان) فإن ميرلوبونتي لا يرى أنه خالق الزمان، ولا أنه هو من يَمُد قلبه بالقدرة على النبض. فهوإذن لم ينشيء الوجود في الزمان، كما أنه لم يختر أن يكون أو لايكون. ثم إنه بمجرد أن يكون في العالم ينساب الزمان من خلاله ويترك عليه علامات انسيابه. ليس هناك زمان بالنسبة للجسد إلا إذا كان في موضع معين، ونجد أن أشكال التوالي الزمني مثل الماضي والحاضر والمستقبل هي مَطوية في تضاعيف الجسم نفسه، فمثلا كل لحظة في الحاضر تُغطي الماضي بأسره وتستدعيه. غير أنه لا ينبغي أن يُستخلص من ذلك أن الزمان والمكان بالنسبة إلى الإنسان ليسا سوى مجموعة نقط متجاورة، ولا حتى أنهما عدد لا نهاية له من العلاقات التي ينبغي أن يعمل ذهنه على إنشاء تركيب بينها مستدعيا جسده في ذلك، لأن الإنسان، يقول ميرلوبونتي، ليس في الزمان والمكان، بل هو لأجل pour الزمان والمكان، مثلما هو موجود لأجل العالم، فجسده ينطبق عليهما ويحتويهما، بنفس القدر الذي يحتويانه به. تُعنى تحليلات ميرلوبونتي بمسألة الزمان بالوجود في العالم. ويؤكد أن الجسد الخاص الذي هو منغرس في الزمان يحيل الأنا لزوما إلى تجربة الموت والآخرين. لقد بحث ميرلوبونتي منذ كتابه الأول ''بنية السلوك'' عن حل لمشكلة الثنائية، وقد اهتدى إليه من خلال قراءته لأبحاث عالم بيولوجيا الأعصاب والطبيب النفساني الألماني غولدشتاين goldstein kurtالذي سمح له بإقامة وحدة حقيقية للكائن البشري ومكنه من سند يؤيد به التحديد الذي أعطاه للوجود في العالم باعتباره حياة في المقام الأول. ونلاحظ أنه يستند في كتاب ''فينومينولوجيا الإدراك'' على دراسات مدرسة التحليل النفسي والنظريات الحديثة في علم النفس وكذا أعمال علماء الأعصاب لتأسيس فينومينولوجيا للجسد الخاص. من خلال دراسته لمسائل الحركية، والجنسانية، والكلام كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفا. غير أن قراءة متمعنة لكتابه المتأخر ''المرئي واللامرئي'' تطالعنا بحدوث انقلاب جذري في الخلفية النظرية؛ فرغم أن الكتاب لم يكتمل بسبب موت مؤلفه المفجع فقد أكد في كتاباته لما بعد سنة 1946 ضرورة العودة من جديد إلى حضن الأنطولوجيا. وكأنه أدرك محدودية فينومينولوجيا الادراك وعمل على إعادة النظر في مرجعياته واستخلاصاته الفلسفية، ورتب فكره في كتاباته المتأخرة التي تخلى فيها عن الفينومينولوحجيا لصالح فلسفة للجسد أو بالأحرى أنطولوجيا جسمانية. ولعل السبب في ذلك هو الانتقادات التي وجهها له الفيلسوف الفرنسي جان هيبوليت الذي تحسس في أعماله نزعة سيكولوجية ونزعة ديكارتية مستترة. يؤسس ميرلوبونتي فكره على الروابط الحيوية القائمة بين الأنا والغير، وبين النفس والجسد، وبين الجسد والعالم، ثم بين الإنسان والعالم حتى يتمكن من الابتعاد عن الثنائية الديكارتية. ويرى أن هذه الروابط تُنسَجُ في جسد العالم، سواء أكان الأمر يتعلق بعلاقاتي بالأشياء أو بالروابط التي تجمعني مع الآخرين. كل روابطنا بالوجود حتى الرؤية والكلام، والرغبة واللمس، هي علاقة جسدية نقيمها بجسد العالم، الذي يعتبر أفق كل رابط حيوي يشد الوجود الجسماني إلى الأشياء، وإلى الغير أو الوجود. فالأمر هنا أشبه بتصور دائري يشمل جسدي وجسد العالم. لدرجة يمكن معها القول إننا إزاء انشباك entrelacement أواحتواء متبادلenvelopement بين الاثنين. ويظهر الجسد في فلسفة ميرلوبونتي كما لو أنه الأرضية غير المرئية التي تقوم عليها كل علاقة ممكنة بين الذات والعالم. إنه الوسط الطبيعي الأصلي الذي نعيش فيه والذي نتصل فيه مع الأشياء. إن هذا النسيج الأولي الذي ينفصل على أساسه عالم الظواهر من جهة كونه موضوع رغباتنا. هذا الجسد الانطولوجي يقودني إلى الغير: فأنا والغير معا ننتمي إلى نفس اللفيف الجسدي، و بالتالي فانبثاق الغير وتجليه يتخذ له مكانا بين جسدي وجسد العالم. تقودنا تحليلات مرلوبونتي حول مسألة الجسد إلى جسد الآخر ، سواء في دراساته عن اللمس والجنسانية أو في دراسته عن الكلام. ويتجلى الغير في دراساته تلك أولا كجسد، والبينذاتية تظهر باعتبارها بين- جسمانية. وقد أشرنا سابقا إلى أنه قد انطلق من تحليل هوسرل لمسألة الجسد وللبين-ذاتية، بيد أنه يعلن اختلافه ومباينته له؛ لأن الفيلسوف الفرنسي يرى أن تفكير هوسرل حول مسألة الآخر بشكل عام يطرح مشكلة الغير، وأن الأنا الآخر يؤول لتشكيل مفارقة. ولذلك طور ميرلوبونتي كل ما كان مطويا في الإيضاحات التي قدمها هوسرل عن الأنا، والأنا الآخر وأسند لنفسه مهمة إيجاد حل لمشكلة الآخر في منأى عن المقاربة الهوسرلية التي وصفها بأنها ذات نزعة إنية واحدية مغلقة. تجاوز ميرلوبونتي هذه النزعة بانفتاحه على العالم المشترك؛ حين اعتبر أن العالم ليس فقط ''مِلكي'' ولكنه يسوقني مباشرة إلى الغير، فنحن نجد الغير في هذا العالم مثلما نجد أجسادنا سواء بسواء. والغير يأتي لملاقاتي في هذا العالم ويعرض لي، وهذا العالم الذي أدركه يَبسُط معه جِسمانيتي التي تحيلني إلى أجساد خاصة أخرى. وهذا العالم المشترك بيننا هو المكان الذي تُنسج فيه العلاقات مع الغير. فبديهي إذن أن ميرلوبونتي يؤسس فكره على الروابط بين الأنا والغير في هذا العالم المشترك مُعرضا عن كل محاولة للفصل بينهما . يرى ميرلوبونتي أن ثمة علاقة دائرية بين جسد الأنا وجسد الغير وكأننا أمام جسدين يشكلان نسقا واحدا، مثلما يوجد بين الوعي والجسد وبين الجسد الخاص والعالم روابط باطنية تجعل من هذه المكونات كلها حلقات مختلفة لبنية دائرية واحدة. وينكشف سر وجود الآخر إذن من خلال الادراك الذي يملكه الأنا عن جسده، بوصفه تجسدا قبليا للادراك الفطري الذي يملكه الجسد عن نفسه. إنه الجسد الخاص الذي يجعل حقل وجود الأنا الجسماني يتواشج مع حقل وجود الغير في هذا العالم المشترك. وحضور الوجود الجسماني للآخر لا يطرح بالنسبة للأنا أي مشكلة، بما أن وجودها الجسماني منذ كانت في هذا العالم، ظل مقترنا بوجود الغير، بمعيتها. و يبين هذا التكامل الحاصل بين جسدي وجسد الغير أن الجسدين معا يشكلان بنية دائرية، فالجسد الخاص ليس سوى علاقة ومشاركة، لان الأنا والغير كانا دائما مترابطين، فضلا عن أنهما يشتركان في نفس الأصل، أوفي نفس الجسد الأنطولوجي الأول. اتضح مما تقدم أن ميرلوبونتي يُسند أهمية بالغة للروابط القائمة بين الأنا والغير متجاهلا مفهوم الانفصال. فالوجود هو وجود في العالم، حيث إنه في هذا العالم المشترك تُنسج العلاقات الملموسة مع الغير، والروابط التي تجمع الأنا مع الغير تحيل إلى مفهوم الجسد الخاص، فهي إذن لا تَظهر جلية إلا في إطار تداخل أجساد intercorporieté. و بما أن الغير، من خلال العلاقات الملموسة، يخرجني إلى حيز الوجود، فأنا أفعل به نفس الشيء. لا يسعى مرلوبونتي من خلال تحليلاته إلى القول إن العالم مشترك فقط ،بل إنه يعمل على تحديد الشروط والنتائج المترتبة عن انبثاق الآخر من حيث هو حامل لسلوك معين. فهو يُظهر تجربة الآخر باعتبارها علاقة باطنية بين سلوكات قابلة للفهم من خلال أرضية مشتركة و حساسية عامة. انشغل ميرلوبونتي كذلك بمسألة الجنسانية والرغبة، فإذا كانت الروابط التي تجمعنا مع الغير هي الحب، فإننا لا نحب الغير فقط بسبب ما يملكه هو من مزايا، بل نحبه لأجل ما هو عليه من حال. وهذا الحب لا يجد منبعه في الله أو في مصدر غيبي. كأن نبرر حبنا للآخر بكونه مُشكلا على صورة الله، بل سنده هو الأنا عينها. وتحتل الرغبة مكانة مهمة في فكر ميرلوبونتي، فهذا المفهوم مكنه من نسج الروابط الضرورية بين الأنا والغير، هذه الروابط التي تساهم الرغبة في الحفاظ على تماسكها وعدم انفصام عراها، فهي التي تُبقِي عليها حية و متجددة على الدوام. إن الرغبة هي التي تربط جسدي بجسد الغير كما يتجلى ذلك في الحب. هذه التجربة التي لن تتيح أي مجال للحديث عن الانفصال، بقدر ما تؤكد على الاتحاد، ولمَ لا نقول الانصهار بين الجسمين. و هكذا يمكننا أن نستخلص أن فكر ميرلوبونتي يمكن أن يُقرأ كفلسفة للربط أو الوصل، اتصال النفس بالجسد، والجسد بالآخر، والآخر بالعالم. وهذه الأهمية التي يكتسيها الارتباط والتواشج لا تُبقي أي اعتبار لمسألة الانفصال.